العدد 6057
الخميس 15 مايو 2025
banner
يا ولدي.. لا تزرع قلبك في التابوت
الخميس 15 مايو 2025

  طلت دمعتها لتبلّ القبر، وتغرس الحزن رمادًا على قبر الابن، وهي تنظر للشمس تئن أنينًا جنائزيًّا على أمل بزوغ أمل على رصيف المقبرة... 
وقفت تخاطب ابنها الوحيد، آخر ما تبقى من أعمارٍ تحوّلت إلى شواهد على القبور: يا ولدي، وبعد أن دسّوا أخاك في التراب كفنًا على مسلخ قراراتهم الخائبة، راحوا يجلدوننا بسياط أفكارهم البالية. أنا وُلدتُ على الأنقاض من جديد، فوجدت زهرة تنبت ممتدة من قبر أخيك. انتفض يا ولدي وتمرّد على الخيبات، واصنع لك حياةً بدلًا من أن تكون مسبحةً في يدٍ مرتجفة من الخطيئة لا تجيد إلا حفر القبور، خناجر تدسّ الموتى في التراب انتحارًا وافتخارًا. لقد زحفتُ على الأنقاض لأصنع لكم خبزًا وسكنًا ومستقبلًا بلا دموع. إنّ رونق الانعتاق، يا ولدي، حين يُولد الإنسان من أنقاضه. إنها لحظة التحرر، لا من الآخر فقط، بل من الذات التي اعتادت الحزن وتماهت مع القيد حتى حسبته وطنًا. 
أنا، يا ولدي، رقص الحزن على وجعي سنينَ فقرًا، وفقدت ولدي لأجل وكلاء يُميتون أبناءنا في المحارق شبابًا، وهم تصل أعمارهم لحد المئة عام ويزيد، متمسكين بآخر رمق للحياة، ينادون بلبس الأكفان وهم متشبثون بالحياة. هم يلبسون الأكفان بألسنتهم، ويعشقون الحياة بالجوارح والجراح. وما أصدق نيتشه حين قال: “يجب أن تحمل فيك فوضى، لتلد نجمًا راقصًا”. 
يا ولدي، أكبرُ قتل، وأعظمُ جريمة ليست بالضرورة بسكين أو رصاصة، أكبر جريمة أن تقتل في إنسان حب الحياة، وتزرع فيه حب الموت. يا ولدي، ليس كل قيدٍ من حديد، ولا كل قاتلٍ يرفع سيفًا.

يا ولدي، لا أريدك وردةً في فم الموت، ولا سكينًا في يد الزعيم، ولا دمًا على المذبح، ولا سجينَ فكرة في سجون غير مرئية، ولا كقنينة عطرٍ فارغة يبيعها دجال بوصفها ماء الجنة، ولا كعباءةٍ فضفاضة تُخفي بداخلها مشنقة، ولا كأغطية حريرية على جراح نازفة، تلمع لكنها لا تُداوي. لا أريدك قبرًا من قبور، لا أريدك قبرًا مذهّبًا في ساحة عامة، يتجمهر الناس حوله ظنًا أن فيه حياة، وما هو إلا تجميلٌ لموتٍ جماعي لجماهير مسكينة أصبحت كطيرٍ مكسور الجناحين يصفّق لمن يذبحه، فقط لأن صوته يشبه صوت السماء. ابكِ لأخيك، رحل كغصنٍ طريٍّ قُطع قبل أن يزهر، ثم علّقوه على أبواب المدينة كزينة انتصار. 
أمك، يا ولدي، كجدارٍ قديم سُحقت عليه عقود من النداء، ولم يبقَ فيه إلا شقوق تنزف أسماء أبنائها. والداعي للموت لا يعرف فقرنا، ويغلق الباب في وجه أرملة أخيك خوفَ منحها صدقة خجولة أمام بكاء يتاماه. 
يا لتعاسة المُرتجى، يكثر علينا صدقة أمام النعش، إنه زعيم الموت والخيبة، إنه كتمثالٍ صُنع من رماد جثثنا، يبتسم، ونحن نحترق في ظلّه. كأبٍ سكر حتى الثمالة، ثم باع أبناءه ليشتري قصيدة يمدح بها نفسه. 
يقول ألدوس هكسلي: “أسوأ أنواع السجون هي تلك التي لا نعلم أننا نعيش فيها”. الطائفية سجن، العنصرية سجن، التخلّف سجن. هل تعلم لماذا يخافون من حريتك وحرية أختك، ويسلبونها حتى خيار احتفال بكعكة في عيد ميلادها بمقهى مع صديقتها؟ لأن الكعكة هي بداية التمرد للخروج من معسكر أفكارهم الحديدية المزخرفة، حوّلوا الأفكار إلى شرطة عقيدة وبوليس سري للأيديولوجيا، يمنعون خروج الشباب من سجون التاريخ، وزنزانة الخرافة، ومعسكرات الوصاية الدينية التي لا علاقة لها بالله عز وجل. 
يقول عالم النفس إريك فروم: “إن الإنسان المعاصر لا يُحب الحرية، بل يخافها، لأنه عاجز عن مواجهة تبعاتها”. يا ولدي، الجماهير تصبح كالأطفال، تبحث عن أبٍ قويٍّ، يقرّر عنها، يتحدث باسمها، ويفكر بدلًا عنها ولو قادها للمحارق وطحنها في فرّامة الموت، في حين هو حيٌّ في بساتين نرجسيّته وفردوس سيكوباتيّته وتناقضاته. يا ولدي، انظر إلى إيران ولبنان والعراق واليمن وسوريا وليبيا: أليس من حق شباب هذه الدول أن يعيشوا ثقافة الحياة؟ لماذا يصبحون مشاريع موت ويتحوّل الوطن إلى تابوت؟ 
في الأوطان التي تُقدِّس الألم وتُؤلّه الفاجعة، يصبح “الشهيد” هو النموذج الوحيد للنجاح. أختك التي زرعتُ فيها حب الحياة، جلدُوها بفتاوى الموت فقط لأنها لبست حجابًا جميلًا، وجلست في مقهى تحتسي القهوة مع صديقتها والتقطت صورة لكعكة عيد ميلادها ونشرتها على الميديا كتعبير عن بهجتها. يُكثرون على فتاة التقطت صورة لكعكة، في حين جعلونا كعكًا بشريًا مقطّعًا على موائد قراراتهم الخائبة.

ما هذا الفكر الذي يخاف من كعكة، ولون حجاب، و “gym”، وسماع موسيقى، أو تسريحة شعر لشاب، أو رشة عطر على ثياب، أو صوت أغان في عرس؟ خنقونا بوساوسهم، إنهم يترصدون من على جبل وساوسهم وخيباتهم لأي شيء جميل أو سعيد، ليلقوا عليه حجارتهم المتراكمة من كراهية الحياة، ومن تاريخ متوتر يقوم على تفاسير مبسترة عن الدين الوسطي الجميل. لقد أثبتوا أنهم لا يفقهون شيئًا حتى في الدين، وفشلوا في فهم ما يدّعون أنهم متخصصون فيه، والدليل خروج الشباب والشابات وتمردهم عليهم إلى الانعتاق من عبوديتهم السياسية، وزنزاناتهم الاجتماعية، وحتى السجون الدينية.

إنه صنف مزين من القهر المغلّف بالعاطفة الكاذبة. يضعون القيود ويزخرفونها بالتقوى. يا ولدي، لا ترث خيباتنا المتوارثة المغلفة بالجُبَب ووجع التاريخ، انعتق من سجون الماضي، وضع القيم في ضميرك، وعِش الحياة، واكسر جدار الخوف، وابتعد عن حقل ألغام تفاسيرهم الخاطئة للدين والتاريخ وحب الله. انتفض يا ولدي عليهم، أعد قراءتك للحياة، احفر شهادة الجامعة على الصخر، ارسم لوحة مستقبلك، أعد قراءتك للآخر المختلف، للثقافات، للشعوب، للحضارات، افتح عقلك، لا تسمع للخرافات، بل لوعي القيم، وسمو الأخلاق، وجمال الوطن، وثقافة الحياة.

أنا ما زلت أبكي على محارق سوريا ولبنان والعراق واليمن وليبيا! ماذا فعل بنا الإخوان وولاية الفقيه؟!
الأوطان، يا ولدي، تُبنى بالحداثة، والتطور، والاقتصاد المتين، والإنسانية، والرحمة، والعدالة بمنطق المؤسسات، لا بسلاح الميليشيات، ولا بالنصوص المفخخة قنابلَ حروبٍ طائفية، وقتلًا على الهوية، واحتكار الحقيقة المطلقة.

يا ولدي، أمك لا تريد شيئًا عدا أن تفاخر بيوم تخرّجك العلمي، وتزفّك عريسًا، وتعجن لك خبزًا، وتدلل أحفادك، فلا تجعل حفّاري القبور من المتخمين كروش خمسٍ وبطون صدقةٍ وأعناق نواص سمينة كجدار سجن عتيق، أن يخطفوك من يدي لموت جديد. أريدك عريسًا، لا قبرًا بجوار قبر أخيك. ارحمني يا بني، كفانا تعليق صور شباب في عمر الزهور على جدران غرفة تبكي للفراق، وللحزن، وانتحار الأماني، وموت الأمل. آه من خنجر في الخاصرة، والذاكرة، وفي الضمير.           

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية