مما لا شك فيه أن حماية الطفولة تمثل حجر الأساس في بناء المجتمعات المتحضرة، إذ تعكس درجة التزام الدولة بسيادة القانون وحقوق الإنسان، وتُعد معيارًا لرُقي المنظومة التشريعية والعدلية وفي عالم تتنامى فيه التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بات من الضروري أن تتواكب القوانين الوطنية مع الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بحقوق الطفل، لا سيما اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1989.
الإطار العام لحماية حقوق الطفل في التشريعات الخليجية
شهدت دول مجلس التعاون الخليجي تطورًا ملحوظًا في مجال حماية الطفولة، حيث عمدت أغلب هذه الدول إلى سن تشريعات وطنية تتعلق بحقوق الطفل، بل أنشأت هيئات ومجالس مختصة بذلك ولعل أبرزها ما يلي.
سلطنة عمان: أصدر المشرّع العُماني قانون الطفل العماني بموجب المرسوم السلطاني رقم 22/2014، الذي جاء متسقًا إلى حد كبير مع أحكام الاتفاقية الدولية، متضمنًا الحقوق الأساسية للطفل في الصحة والتعليم والحماية من العنف والإيذاء والاستغلال، فضلًا عن أحكام إجرائية تضمن سرية المحاكمات وخصوصية الطفل، كما نص على التزامات الأسر والمؤسسات التعليمية في دعم تنمية الطفل البدنية والعقلية والنفسية والاجتماعية، وهو ما يشير إلى بُعد اقتصادي مهم يتعلق بالاستثمار في رأس المال البشري منذ المراحل المبكرة.
الإمارات: في دولة الإمارات العربية المتحدة، صدر القانون الاتحادي رقم 3 لسنة 2016 بشأن حقوق الطفل والمعروف بـ”قانون وديمة”، الذي رسّخ الحماية القانونية الشاملة للطفل، ونص على تجريم الإهمال والتقصير في رعاية الطفل، بل ومنح سلطات واسعة للجهات المختصة بالتدخل السريع في حالات الخطر، ويُعد من أكثر القوانين الخليجية شمولًا، إذ تضمن مواد تعالج قضايا معاصرة مثل استخدام الأطفال في الإعلانات أو تعريضهم للمحتوى الضار في وسائل الإعلام، مما يوضح استجابة المشرع للمخاطر الاقتصادية المرتبطة بالاستغلال التجاري للأطفال.
المملكة العربية السعودية: في المملكة العربية السعودية، تم إصدار نظام حماية الطفل بموجب المرسوم الملكي رقم م/14 لعام 2014، والذي أكد على حماية الطفل من كافة أشكال الإيذاء والإهمال والتمييز، وجعل مصلحة الطفل الفضلى هي المعيار الأول في جميع الإجراءات ذات الصلة، كما أنشأت المملكة خطًّا ساخنًا للتبليغ عن حالات التعرض للعنف الأسري، وفعّلت برامج وقائية داخل المدارس والمراكز الاجتماعية وقد تم ربط ذلك بمبادرات اقتصادية مثل برامج الدعم الأسري والإعانات المشروطة للتعليم والرعاية الصحية.
قطر والكويت: في قطر، اعتمدت الدولة قانون حقوق الطفل رقم 1 لسنة 2014، والذي رسخ الحقوق الأساسية للطفل وربطها بالضمانات الدستورية والمواثيق الدولية، كما أنشأت مؤسسة “الضمان الاجتماعي للأطفال” لتقديم المساعدة للأطفال من ذوي الدخل المحدود، مما يعكس الربط بين حماية الطفل والسياسات الاقتصادية الاجتماعية، فيما تعمل دولة الكويت على تطوير قانونها الحالي بما يتماشى مع توصيات لجنة حقوق الطفل التابعة للأمم المتحدة.
مملكة البحرين: أصدرت البحرين قانون الطفل رقم 37 لسنة 2012، والذي تضمّن العديد من الضمانات القانونية للأطفال، خاصة في حالات الطلاق والنزاعات الأسرية، كما أنشأت المملكة آليات رصد ومراقبة بالتعاون مع المؤسسات الحقوقية، بالإضافة إلى مبادرات تمويلية لدعم التعليم والرعاية الصحية.
الحماية القانونية في التشريعات العربية
بالانتقال إلى بعض الدول العربية الأخرى، نجد أن المشرّع المصري أصدر قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996 وتعديلاته اللاحقة بالقانون رقم 126 لسنة 2008، وهو من القوانين الريادية عربيًّا، حيث تناول الحماية الجنائية والإجرائية والاجتماعية للطفل، وأنشأ نيابات ومحاكم خاصة بالأحداث، كما ألزم وزارة التعليم بوضع برامج تعليمية تتماشى مع احتياجات الطفل، ومنع تشغيل الأطفال دون السن القانونية، وأوجب تأهيل الأطفال المعرضين للخطر، في إطار تكاملي مع جهود الدولة لمحاربة الفقر وتحقيق النمو المستدام.
وفي تونس، يعتبر قانون حقوق الطفل رقم 92 لسنة 1995 من التشريعات التي سبقت كثيرًا من الدول العربية، فقد أنشأ مؤسسات مستقلة لحماية الطفولة وأقر بمبدأ مشاركة الطفل في الحياة العامة ضمن ضوابط تراعي مصلحته الفضلى، كما رسخ مفهوم “الطفل المواطن” الذي يحق له التعبير والمشاركة، مع إدماج سياسات الحماية الاجتماعية للفئات المهمشة ضمن منظومة الحماية الاقتصادية.
أما المغرب، فقد اختار نهج التعديل التدريجي لمنظومته القانونية المتعلقة بالطفل، وأدخل تعديلات متكررة على مدونة الأسرة والقانون الجنائي لتتضمن أحكامًا تراعي حقوق الطفل، كما أنشأت الحكومة برامج لحماية الأطفال في وضعية الشارع، وفعّلت العمل مع الجمعيات المحلية في هذا الصدد ضمن خطة وطنية متعددة القطاعات تتضمن تمويلًا مخصصًا لحماية الأطفال.
التجارب الدولية
تُعد التجربة الاسكندنافية من أكثر التجارب تطورًا في مجال حماية حقوق الطفل، فالنموذج السويدي والدنماركي يعتمد على فلسفة الوقاية والرعاية بدلًا من العقوبة، ويضع الطفل في مركز السياسات العامة، ويُوفر دعمًا ماليًّا مباشرًا للأسر، كما أن الطفل في هذه البلدان يُعامل كمواطن كامل الحقوق منذ لحظة ولادته، ويتم إشراكه في بعض القرارات الخاصة بتعليمه وصحته كما تُخصص الدول هناك ما يصل إلى 10 % من الناتج المحلي لقطاعات التعليم والرعاية المبكرة.
أما في فرنسا، فقد تبنّى المشرّع الفرنسي قانون حماية الطفل لعام 2007 وعدّله عدة مرات، ليُعزز الحماية من الإهمال الأسري ويوفر الرعاية البديلة للأطفال المحرومين من أسرهم، ويُلزم الدولة بتوفير بيئة آمنة للطفل داخل مؤسسات الرعاية، ويتم تمويل ذلك من خلال صناديق التضامن الاجتماعي.
وفي كندا، تخضع حماية الطفل لسلطات الأقاليم، لكن هناك إطار فيدرالي عام يُلزم بتوفير الحد الأدنى من الحماية، ويُعطي الأولوية لمبدأ “الأسرة أولًا” في معالجة قضايا التفكك والإهمال، ويحرص على تمكين الأسر من إعادة دمج الأطفال بدلًا من اللجوء المباشر إلى مؤسسات الرعاية كما تُخصص الحكومات المحلية موازنات خاصة لرعاية الأطفال الفقراء والمعرضين للخطر.
التحديات القانونية والاقتصادية
على الرغم من التطور التشريعي الملحوظ، إلا أن التحديات ما زالت قائمة إذ يواجه التطبيق العملي لهذه القوانين عراقيل عدة، منها ضعف الموارد المالية والبشرية، وغياب التنسيق بين الجهات المختصة، وضعف الثقافة القانونية لدى بعض فئات المجتمع، ناهيك عن التقاليد الاجتماعية التي تُكرّس بعض أشكال العنف الأسري تحت مسميات التأديب.
كما أن التحول الاقتصادي في دول الخليج والعالم العربي يفرض ضغوطًا جديدة، أبرزها عمالة الأطفال والاتجار بالبشر، وهي جرائم يجب أن تُعالج بمنظور قانوني واقتصادي متكامل، يوازن بين الردع والعلاج الاجتماعي إذ إن بعض الأسر، نتيجة لضغوط اقتصادية، قد تلجأ إلى تشغيل أطفالها أو دفعهم للشارع، مما يجعل الحلول الاقتصادية ضرورة حتمية مرافقة للتشريعات وبالتالي، فإن أي إصلاح قانوني لن يحقق نتائجه إلا إذا تزامن مع سياسات اقتصادية تُقلل من هشاشة الأسرة وتُعزّز شبكات الأمان الاجتماعي.
رؤية قانونية
من الأهمية بمكان أن تُمنح حقوق الطفل الأولوية القصوى في التشريعات الوطنية، وذلك ليس فقط التزامًا بالاتفاقيات الدولية، بل إدراكًا بأن الطفل هو الاستثمار الحقيقي في مستقبل الأمة ومن هذا المنطلق، يجب على المشرّع أن يضمن الاتساق بين القوانين المختلفة ذات الصلة بحقوق الطفل، وألا يكتفي بالنصوص بل يُعزز من آليات الرقابة والمساءلة.
كما أن إشراك مؤسسات المجتمع المدني وتمكين الهيئات الرقابية المستقلة يعد ضرورة قانونية لضمان فعالية التطبيق.
ولا ريب أن تطوير المناهج الدراسية ونشر الثقافة القانونية في المدارس يمثل أحد أعمدة الوقاية المستقبلية، فالتنشئة الحقوقية تبدأ من الصفوف الأولى، وهي السبيل لغرس ثقافة احترام القانون والحقوق منذ الصغر.
وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إن الطفولة ليست مجرد مرحلة عمرية، بل هي قضية وطنية وقانونية واقتصادية وأخلاقية وإن حماية الطفل ليست ترفًا قانونيًّا، بل ضرورة لبناء مجتمع آمن ومتوازن، يضمن سيادة القانون ويعكس احترام الدولة لمواطنيها في أضعف حالاتهم فكل انتهاك لحقوق الطفل اليوم، يُولد قنبلة اجتماعية غدًا.
وختامًا، فإن على الدول الخليجية والعربية، في ظل المتغيرات الدولية والتحديات التنموية، أن تتبنى فلسفة قانونية اقتصادية جديدة تؤمن بأن العدالة تبدأ من الطفولة، وأن الحماية الحقيقية لا تأتي من تغليظ العقوبة فقط، بل من ترسيخ ثقافة الحقوق منذ الصغر، وتكريس مبدأ أن الطفل مواطن كامل الحقوق لا ينتظر الرأفة بل يستحق العدالة، وأن دولة القانون تبدأ من حضانة الأطفال قبل قاعات المحاكم.
* مستشار مصري مقيم في عُمان