العدد 6031
السبت 19 أبريل 2025
قوانين الاستثمار الأجنبي بين الانفتاح والمخاوف.. من الخليج إلى أوروبا
السبت 19 أبريل 2025
  • موجة إصلاحات اقتصادية خليجية من أجل تنويع مصادر الدخل

  • قانون الاستثمار يتميز بمستوى عالٍ من الانفتاح

  • قانون الاستثمار السعودي الجديد سمح بالتملك الأجنبي الكامل للشركات

  • التحدي يتمثل في إيجاد توازن دقيق بين جذب الاستثمار والحفاظ على السيادة

في عالم يتسابق لجذب رؤوس الأموال، لم تعد قوانين الاستثمار الأجنبي ترفًا تشريعيًّا، بل أصبحت سلاحًا استراتيجيًّا. وتلعب هذه القوانين دورًا محوريًّا في تحديد قدرة الدول على التفاعل مع الاقتصاد العالمي، سواء من خلال جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة أو من خلال الحفاظ على السيادة الاقتصادية. وفي هذا السياق، سعت دول الخليج ومصر إلى تحديث أطرها القانونية لجذب رؤوس الأموال، مع الحفاظ على مصالحها الاقتصادية والأمنية.
التحولات التشريعية في الخليج.. انفتاح مشروط
لقد شهدت دول مجلس التعاون الخليجي في السنوات الأخيرة موجة من الإصلاحات الاقتصادية الهادفة إلى تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على النفط. وكان من أبرز هذه الإصلاحات تلك المتعلقة بالاستثمار الأجنبي، حيث أقدمت معظم دول الخليج على فتح قطاعات جديدة أمام المستثمرين الأجانب، بل وأتاحت في بعض الحالات التملك الكامل دون الحاجة إلى شريك محلي.
في السعودية، صدر نظام الاستثمار الأجنبي الجديد بالعام 2019، الذي سمح للأجانب بتملك الشركات بنسبة 100 % في قطاعات متعددة، منها الصناعات التحويلية والخدمات اللوجستية والسياحة. كما أسست المملكة “الهيئة السعودية لترويج الاستثمار” التي تهدف إلى تسهيل الإجراءات وتذليل العقبات. أما في الإمارات، فقد تبنّت الدولة تعديلات جذرية في العام 2020 بإلغاء شرط وجود شريك محلي إماراتي في العديد من الأنشطة؛ ما جعل الإمارات من أكثر الدول الجاذبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة في المنطقة. وفي البحرين، يتميز قانون الاستثمار بمستوى عالٍ من الانفتاح، حيث يُسمح بملكية أجنبية كاملة في معظم القطاعات، مع تقديم تسهيلات في تسجيل الشركات والإقامات، ووجود بيئة قانونية مرنة ومحفزة. أما سلطنة عُمان، فقد أقرت قانون الاستثمار الأجنبي الجديد في العام 2019، الذي منح المستثمر الأجنبي حقوقًا مشابهة للمستثمر الوطني، وسمح بالتملك الكامل في قطاعات واسعة، مع إطلاق نافذة استثمارية موحدة لتقليل البيروقراطية وتسهيل الحصول على التراخيص.
خطوات حذرة
على الرغم من أن الكويت تعتبر واحدة من أقدم اقتصادات الخليج وأكثرها استقرارًا، إلا أن تقدمها في مجال فتح الأبواب للاستثمار الأجنبي ظل محدودًا مقارنة ببعض جيرانها. لكن في السنوات الأخيرة، بدأنا نرى بعض التحركات التي تشير إلى تحول في السياسة الاقتصادية الكويتية.
وفي العام 2019، أطلقت الحكومة الكويتية خطة طويلة المدى لتنويع الاقتصاد الوطني من خلال رؤية الكويت 2035، التي تسعى إلى جعل الكويت مركزًا ماليًّا وتجاريًّا في المنطقة. وبالرغم من أن الكويت لا تزال تفرض قيودًا على تملك الأجانب في العديد من القطاعات، فإن هناك مؤشرات على تخفيف بعض هذه القيود في مجالات مثل التكنولوجيا والصناعة. كما عملت الحكومة على تقليص البيروقراطية وتبسيط الإجراءات المرتبطة بفتح المشاريع الاستثمارية، إلا أن الكويت تظل تركز في المقام الأول على ضمان سيادة الدولة وعدم استحواذ الأجانب على أصول استراتيجية. وهذه السياسة تضمن أن استثمارات الأجانب تتم تحت رقابة شديدة وبما يتماشى مع الأمن القومي.
ضمانات وطنية
تعد قطر واحدة من أكثر الدول الخليجية انفتاحًا على الاستثمار الأجنبي، حيث سمحت للأجانب بتملك الشركات بنسبة 100 % في العديد من القطاعات، وهو ما يميزها عن بعض دول المنطقة التي تتطلب وجود شريك محلي. 

وفي العام 2020، أصدرت قطر قانونًا جديدًا يسمح للأجانب بتملك الأراضي في المناطق الاقتصادية الخاصة بنسبة 100 %، وهو ما يعتبر خطوة كبيرة نحو تعزيز البيئة الاستثمارية. كما أن الدوحة تقدم العديد من الحوافز للمستثمرين الأجانب، مثل الإعفاءات الضريبية وتسهيل إصدار التراخيص التجارية. بالإضافة إلى ذلك، استثمرت قطر في تطوير بنية تحتية ضخمة مثل مشاريع النقل والطاقة التي استقطبت الاستثمارات الأجنبية في مجالات البناء والتشييد.
وعلى الرغم من الانفتاح الكبير الذي شهدته قطر، إلا أن الدولة تحرص على وضع بعض القيود في القطاعات الاستراتيجية، مثل الدفاع والطاقة؛ ما يضمن عدم التأثير على السيادة الوطنية. هذه السياسة توازن بين جذب الاستثمارات وحماية المصالح القومية، وتضمن أن تكون الاستثمارات الأجنبية جزءًا من عملية التنمية المستدامة.
إصلاحات مستمرة
أما في مصر، فإن قانون الاستثمار رقم 72 لسنة 2017 جاء ليعيد الثقة في البيئة الاستثمارية، بعد سنوات من التردد والجمود. وقد منح القانون حوافز ضريبية وجمركية، وأقر مبدأ المعاملة التفضيلية للمشروعات في المناطق الاقتصادية الخاصة والصعيد، وأكد على تسوية منازعات الاستثمار من خلال لجان خاصة وآليات بديلة.
إلا أن التطبيق العملي لا يزال يواجه بعض التحديات، وعلى رأسها البطء في الإجراءات، وتداخل الاختصاصات بين الجهات المختلفة، إلى جانب غموض بعض اللوائح التنفيذية. ومع ذلك، فإن الإصلاحات التشريعية تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح، خاصة مع إطلاق منظومة النافذة الواحدة وتحديث بعض التشريعات المرتبطة.
تجارب أوروبية
في أوروبا، يمثل الاستثمار الأجنبي عنصرًا مهمًّا من عناصر النمو، ولكن في الوقت ذاته تخضع العملية لضوابط صارمة توازن بين حرية السوق وحماية الأمن القومي.
في ألمانيا، على سبيل المثال، يملك جهاز الرقابة على الاستثمارات الأجنبية التابع لوزارة الاقتصاد صلاحيات واسعة لتعليق أو رفض صفقات تملك أجنبية في قطاعات حساسة مثل الدفاع والطاقة والتكنولوجيا. كما أن القوانين تشترط الإفصاح الكامل عن المالك الحقيقي للمستثمر.
أما فرنسا، فقد شددت قوانينها مؤخرًا، لا سيما بعد جائحة كورونا، حيث أضافت قطاعات الرعاية الصحية والتكنولوجيا الحيوية إلى قائمة القطاعات الاستراتيجية التي تتطلب موافقة مسبقة في حال التملك الأجنبي.
في المقابل، نجد أن ايرلندا تُعد نموذجًا للانفتاح الاستثماري، حيث توفر حوافز ضريبية مغرية وقوانين مستقرة؛ ما جعلها مقرًا رئيسًا للعديد من شركات التكنولوجيا العالمية. لكن هذا الانفتاح لا يخلو من رقابة ومتابعة خاصة فيما يتعلق بالتحويلات المالية والامتثال للمعايير الأوروبية.
الخط الرفيع
إن التحدي الأكبر أمام صناع القرار يتمثل في إيجاد توازن دقيق بين جذب الاستثمار الأجنبي والحفاظ على السيادة الاقتصادية والأمن القومي. فالانفتاح غير المحسوب قد يفتح الباب أمام استحواذ أجنبي على قطاعات حيوية، في حين أن الإفراط في القيود قد يدفع المستثمرين نحو بيئات أكثر مرونة وجاذبية.
في دول الخليج، تبدو الرؤية أكثر وضوحًا في هذا الصدد، حيث تعمل الحكومات على فتح أبواب الاستثمار بشكل تدريجي ومدروس، مع الحفاظ على الضوابط السيادية. وفي مصر، رغم الجدية في الإصلاح، فإن الحاجة لا تزال قائمة لتعزيز الشفافية وتبسيط الإجراءات وتقوية الثقة بين المستثمر والدولة.
أما أوروبا، فهي تقدم درسًا مهمًّا مفاده أن الانفتاح الاقتصادي لا يعني الغفلة عن المصالح العليا للدولة، وأن الرقابة لا تتعارض مع الجاذبية الاستثمارية إذا ما تمت بشفافية وحيادية.
رؤية قانونية
إن قوانين الاستثمار الأجنبي لم تعد مجرد نصوص قانونية جامدة، بل أصبحت أدوات استراتيجية توجه الاقتصاد، وترسم ملامح علاقة الدولة بالاقتصاد العالمي. ومن هذا المنطلق، فإن التحدي الحقيقي يكمن في إيجاد بيئة تشريعية مرنة تستقطب الاستثمارات الأجنبية، بينما تضمن في الوقت ذاته حماية القطاعات الحيوية والحد من التأثيرات السلبية التي قد تحدث نتيجة الانفتاح المفرط.
على المستوى الخليجي، يظل التنسيق بين الدول أمرًا جوهريًّا لتحقيق أقصى استفادة من هذه الإصلاحات القانونية. أما في مصر، فيتطلب الأمر مزيدًا من الشفافية والتحديث المستمر في اللوائح التنفيذية لتوفير مناخ استثماري جاذب وموثوق. في النهاية، تبقى الجهود القانونية في هذا المجال جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية التنمية المستدامة للدول.

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .