منذ ما يقرب من ثمانية عقود، يعيش الشرق الأوسط على وقع أزمات متفاقمة أغرقت المنطقة في شلالات من الدماء، ضمن دورات عنف متصاعدة تبدو بلا نهاية. كان الصراع العربي الإسرائيلي المحرك الرئيسي لمعظم تلك المآسي. أجيال رحلت وأخرى جاءت، لكن لغة العنف لم تتغير؛ فأخبار الحروب والموت والدمار ظلت السائدة لعقود طويلة، في محاولات متكررة لاستعادة حقوق الفلسطينيين دون جدوى.
واليوم، لابد من التوقف لحظة وكسر التابوهات، لطرح سؤال قد يبدو محرمًا لدى الكثير من العرب: هل آن الأوان لتغيير النهج في التعاطي مع إسرائيل؟ مؤخرًا، تحدث الإعلامي اللبناني البارز، طوني خليفة، في هذا الإطار، دون أن يذكر القضية الفلسطينية صراحة، لكنه ألمح إلى فكرة باتت تتردد في أوساط عربية عدة، وهي ضرورة إعادة النظر في أسلوب التعامل مع هذا الصراع. وهنا، نؤكد بشكل لا لبس فيه، أننا لا ندعو الفلسطينيين للتخلي عن حقوقهم المشروعة، ولا نرفع المنديل الأبيض أمام إسرائيل بهذه السهولة؛ بل نتطلع إلى مراجعة عقلانية لمسار طويل من سفك الدماء لم يُثمر نتائج ملموسة، لا على صعيد استعادة الأرض ولا السيادة ولا حتى الكرامة.
وبينما لم تعد المعادلات القديمة فعّالة، فإن العالم اليوم يعيش عصر الاقتصاد الرقمي، والتكتلات الدولية، والتنمية المستدامة؛ إذ أصبحت الشعوب تُقاس بما تبنيه لا بما تُدمره، ما يُحتم التفكير جديًا في تغيير ذلك النهج العقيم.
هذا لا يعني التنازل عن الحق الفلسطيني، ولا القبول بممارسات إسرائيل، خصوصًا تلك التي تصدر عن اليمين المتطرف؛ لكن ببساطة، يعني أن الأساليب القديمة لم تُثمر، وأن الاستمرار عليها لن يؤدي إلا إلى مزيد من الدماء، كما حدث بعد السابع من أكتوبر 2023، وليس من المنطقي أن نهدر ثمانين سنة أخرى في حروب لا يستفيد منها أحد.
وفي حين تستغل بعض الأطراف هذا الصراع لتعزيز خطاب شعبوي، ديني أو سياسي، على حساب الأبرياء، تبرز فكرة جادة تتمثل في تغيير العقيدة من “المقاومة المسلحة” إلى الحوار، ومن الكراهية إلى لغة المصالح المشتركة، ومن اجترار الماضي إلى بناء مستقبل أفضل.
واقعا، هذا التحول ليس عملية سهلة؛ فالتاريخ ثقيل والدماء لا تُنسى والظلم لا يُغتفر بسهولة.
لكن البقاء أسرى للماضي لن يُغيّر الواقع، ولن يمنح الفلسطينيين أو العرب مستقبلًا أفضل.
وحدها الخطوات الشجاعة التي قد يُنظر إليها من قبل البعض على أنها “تطبيع” أو “استسلام”، قد تكون في الحقيقة الطريق نحو إنهاء صراع استنزف أجيالًا عربية متعاقبة، وأبعد دولنا عن مسار التنمية والازدهار.
العالم يتغير من حولنا، وهناك من يستثمر في الذكاء الاصطناعي، والطاقات المتجددة والفضاء، وغيرها من العلوم المتقدمة؛ بينما لا نزال نحن نستثمر في العنف ونغذي مشاعر الانتقام لأحداث وقعت عام 1948.
ربما يكون هذا زمن المراجعة في التعاطي مع هذه القضية؛ فالدمار والموت الذي جلبته حرب غزة مذهلٌ إلى حد يصعب تصديقه.
جربنا العنف دون نتيجة، فلنذهب لمسار آخر. لنبدأ حوارا حقيقيا ونعمل على الاستثمار في الإنسان وغيرها من الأساليب السلمية. أقول ذلك لا من موقف ضعف؛ بل من منطلق شجاعة.
كاتب بحريني