تكاد تجمع كل التحاليل التي قرأتها بشأن تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب على أنّها الأشدّ وقاحة في تاريخ تصريحات الرؤساء الأميركيين؛ فقد أعلن بمنتهى الثقة في النفس والاستخفاف بالآخرين أنّه يريد السيطرة على قطاع غزّة وانتزاعه عنوة من سكانه الأصليين وتحويل ساحل غزة إلى “ريفيرا أو كوت دازور الشرق الأوسط” بعد تهجير الفلسطينيين قسرا من غزة إلى الأردن أو مصرأو غيرها من الدول المجاورة دون رجعة.
كرة النار التي ألقاها ترامب منذ عشرة أيام قرأها البعض على أنها إلهاء للرأي العام العالمي عن الضرورات الملحة الآن وفي غزة تحديدا مثل ضرورة السماح بدخول الاحتياجات الطبية والصحية للقطاع، ضرورة توفير الخيام للعائدين إلى بيوتهم المهدمة ولا سيما في شمال القطاع، خصوصا مع سوء الأحوال الجوية، ضرورة تأمين عودة الأطفال إلى مدارسهم، وغيرها.. كما قرأها آخرون على أنها اختبار من ترامب للقانون الدولي والموقف الرسمي العالمي والعربي خصوصا. نعم هو اختبار للقانون الدولي؛ فلا شكّ أنّ ترامب يعرفه تمام المعرفة، ولكن يتجاهله تمام التجاهل؛ فبهذا المقترح يضرب بمبادئ القانون الدولي عرض الحائط كمبدأ “حقّ الشعوب في تقرير المصير” المكرّس في العديد من المعاهدات الدولية الملزمة، كما يتعارض مع اتفاقية جنيف الرابعة، المتعلّقة بحماية المدنيين وقت الحرب، والتي تحظر فعلياً في المادة 49 النقل القسري، سواء بشكل جماعي أو فردي.
وتعتبر ترحيل السكّان جريمةً ضدّ الإنسانية كما جاء في المادة 7 (د) من نظام روما الأساسي الذي تستند إليه المحكمة الجنائية الدولية.. فكيف ستتصرف هذه المنظمات مع وقاحة دونالد ترامب؟
كما أنّ هذه التصريحات اختبار للموقف الرسمي العالمي؛ فلا شكّ أنّ هذا التغوّل الأميركي على العالم منذرٌ بتداعيات خطيرة، وستنقسم دول العالم بين: صامت أخرس خشية توقف المساعدات الأميركية، ورافض من باب المزايدة لكسب نقاط جديدة في محاور الصراع التي تهم مجاله الجيوسياسي، ورافض وقوفا مع حق الشعوب في تقرير المصير. فأين ستضع كل دولة نفسها إزاء وقاحة ترامب التي لا تحتمل؟
ولعلّ المعنيّ الرئيسي بهذه التصريحات هو الموقف العربي الرسمي؛ فقد سمّى ترامب في تصريحاته دولا بعينها ستكون موطنا جديدا لأهل غزة، أو موئلا لأحلام ترامب المؤجلة، لذا تنادت الدول العربية لعقد قمة طارئة نهاية شهر فبراير من أجل الخروج بموقف عربي رسمي موحّد، موقف لن ننتظر فيه مفاجآت؛ فلا شكّ أنّه سيؤكّد على الثوابت العربية في حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم وحل الدولتين ورفض فكرة التهجير القسري للفلسطينيين من قطاع غزة. أم هل يكون للعرب رأي آخر؟
كرة ترامب النارية ليست مجانية، ولا يمكن أن تكون دون مكاسب، وفي صورة عدم تحقيق ترامب لكلّ ما يرمي إليه، فإنه على الأقل سيجرّ جميع الأطراف إلى مفاوضات يطمح أن يخرج منها بالقدر الأكبر من المكاسب له وللكيان الصهيوني حليفه الأبدي في المنطقة.