العدد 5962
الأحد 09 فبراير 2025
التهجير القسري جريمة إنسانية وتحديات قانونية واقتصادية
الأحد 09 فبراير 2025

مما لا شك فيه أن التهجير القسري يمثل واحدة من أخطر الجرائم ضد الإنسانية حيث يؤدي إلى تفكيك المجتمعات وانتهاك الحقوق الأساسية للأفراد وخلق أزمات إنسانية واقتصادية طويلة الأمد ومع تصاعد النزاعات المسلحة والتوترات السياسية في مناطق مختلفة من العالم يعود ملف التهجير القسري إلى الواجهة سواء من خلال الممارسات الفعلية التي تنتهك القانون الدولي أو عبر التصريحات السياسية التي تحرض عليه.
وقد أثارت التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بشأن إمكانية تهجير الفلسطينيين قسرا إلى دول أخرى موجة من الجدل القانوني والسياسي إذ يُعد التهجير القسري جريمة حرب وفقا للقانون الدولي كما أن تداعياته الاقتصادية قد تكون كارثية على الدول المجاورة بل وتمتد تأثيراته إلى الاقتصاد العالمي.
في هذا السياق، يستعرض المقال الأطر القانونية للتهجير القسري ومواقف الدول المجاورة والتداعيات الاقتصادية لهذه الممارسة غير الشرعية 
 التهجير القسري في القانون الدولي
بداية يُعرف التهجير القسري بأنه نقل السكان من مناطقهم الأصلية دون رضاهم تحت تهديد القوة أو العنف أو بوسائل غير قانونية وهو محظور بموجب عدة اتفاقيات دولية من بينها :
اتفاقية جنيف الرابعة (1949) إذ تحظر المادة 49 نقل السكان قسرا من الأراضي المحتلة وتنص على أن أي تهجير قسري يشكل انتهاكا جسيما للاتفاقية.
ويصنف نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998) التهجير القسري ضمن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب مما يسمح بمحاكمة المسؤولين عنه دوليا.
قرارات محكمة العدل الدولية: أكدت المحكمة أن أي تغيير ديموغرافي قسري غير شرعي كما ورد في قرارها بشأن الجدار العازل الإسرائيلي عام 2004.
وبذلك، فإن أي محاولة لتنفيذ التهجير القسري للفلسطينيين تخضع للمساءلة الدولية ويمكن أن تؤدي إلى محاكمات جنائية للقادة المتورطين فيها سواء كانوا سياسيين أو عسكريين.

أمثلة تاريخية على التهجير القسري ومعالجته قانونيا

شهد التاريخ العديد من حالات التهجير القسري منها:
النكبة الفلسطينية (1948): التي أدت إلى تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين وما زال اللاجئون الفلسطينيون يعانون من تداعياتهاحتي الان .

حرب البوسنة (1992-1995): حيث أدين عدد من القادة العسكريين والسياسيين في محكمة الجنايات الدولية ليوغوسلافيا السابقة بارتكاب جرائم تهجير قسري.

الروهينغا في ميانمار (2017): حيث صنفت الأمم المتحدة عمليات التهجير على أنها إبادة جماعية وبدأت محاكمات دولية ضد بعض المسؤولين.

وتؤكد هذه السوابق أن المجتمع الدولي قد يتحرك لمحاكمة المسؤولين عن أي تهجير قسري جديد مما يفرض تحديات سياسية وقانونية أمام أي محاولة لتهجير الفلسطينيين قسرا.

موقف الدول المجاورة من التهجير القسري

الأردن
يعد الأردن من أكثر الدول تأثرا بأي تهجير قسري جديد إذ يستضيف أكبر عدد من اللاجئين الفلسطينيين وقد أكد الملك عبد الله الثاني رفضه القاطع لأي مشروع يهدف إلى تهجير الفلسطينيين إلى الأردن، مشيرا إلى أن ذلك سيهدد الاستقرار الوطني ويؤثر على الاقتصاد الأردني.

مصر
ترى مصر أن التهجير القسري للفلسطينيين يشكل تهديدا للأمن القومي المصري خاصة مع الحديث عن احتمالات توطين اللاجئين في شمال سيناء وقد أعلنت مصر مرارا رفضها القاطع لأي مشاريع تسعى لتغيير التركيبة السكانية في فلسطين.

 لبنان
يعيش في لبنان مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948 وتعاني البلاد من أزمة اقتصادية خانقة تجعل أي تدفق جديد عبئا إضافيا على البنية التحتية والخدمات العامة وقد أكدت الحكومة اللبنانية رفضها المطلق لأي مشاريع توطين قسري جديدة مشيرة إلى أن الحل الوحيد هو عودة الفلسطينيين إلى أراضيهم.

التداعيات الاقتصادية للتهجير القسري علي الاقتصاد الفلسطيني

فقدان الأصول والاستثمارات: سيؤدي التهجير القسري إلى انهيار اقتصادي شامل في المناطق الفلسطينية.
ارتفاع معدلات البطالة والفقر: ستتضاعف معدلات البطالة والفقر بسبب فقدان السكان لمصادر دخلهم.

هروب رؤوس الأموال: قد يؤدي النزوح الجماعي إلى خروج الكفاءات والاستثمارات الفلسطينية مما يعطل عجلة التنمية.

الأثر على اقتصاد الدول المجاورة
الأردن ولبنان: سيواجهان ضغوطًا إضافية على الموازنة العامة بسبب زيادة الطلب على الخدمات الصحية والتعليمية والبنية التحتية.

مصر: قد تتأثر التجارة والأمن القومي، كما أن تدفق اللاجئين قد يؤدي إلى تغيرات ديموغرافية غير محسوبة.
الخليج العربي: قد تضطر دول الخليج إلى زيادة دعمها المالي للدول المضيفة، مما قد يؤثر على ميزانياتها العامة.

التأثير على الاقتصاد العالمي

أسواق الطاقة: أي تصعيد في الشرق الأوسط قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز، مما سيؤثر على التضخم العالمي.

عدم الاستقرار المالي: التوترات السياسية قد تضر بالاستثمارات العالمية وتؤدي إلى تقلبات حادة في الأسواق المالية.

تأثير التهجير القسري على اقتصاد الخليج العربي

لا شك أن دول الخليج العربي ليست بمنأى عن التأثيرات الاقتصادية والسياسية لأي تهجير قسري محتمل للفلسطينيين نظرا لعلاقاتها الاقتصادية الوثيقة مع دول المنطقة وكونها مساهما رئيسيًا في دعم اللاجئين الفلسطينيين والمنظمات الدولية العاملة في هذا الملف.

 الأثر المالي وزيادة الأعباء الاقتصادية
دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، الإمارات، وقطر، تلعب دورا رئيسيا في تمويل الأونروا (وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) وكذلك دعم الدول المستضيفة مثل الأردن ولبنان وفي حال تنفيذ تهجير قسري واسع النطاق ستحتاج هذه الدول إلى مضاعفة المساعدات المالية لتلبية الاحتياجات الإنسانية العاجلة مثل:

الإسكان والإغاثة الطارئة.
الرعاية الصحية والتعليم.
إعادة تأهيل اللاجئين في المجتمعات المضيفة.

وقد يفرض هذا التوسع في الدعم ضغطا إضافيا على الموازنات العامة لدول الخليج خاصة مع الالتزامات المالية الأخرى في مجالات التنمية والاستثمار الدولي.

التأثير على استثمارات الخليج في المنطقة

تستثمر دول الخليج مليارات الدولارات في قطاعات متعددة داخل الأراضي الفلسطينية لا سيما في مجالات:

البنية التحتية (مشاريع الإسكان والطاقة).
التكنولوجيا وريادة الأعمال.
التجارة والقطاع المالي.

التهجير القسري سيؤدي إلى إضعاف السوق الفلسطيني مما قد يهدد استثمارات الخليج أو يجبر الشركات الخليجية على إعادة توجيه أموالها إلى دول أخرى مما يعني خسائر اقتصادية مباشرة.

 تداعيات سياسية وأمنية على استقرار المنطقة

دول الخليج تسعى إلى تحقيق استقرار سياسي واقتصادي في الشرق الأوسط وأي موجة نزوح فلسطيني جديدة قد تؤدي إلى:

تصعيد أمني خطير في الدول المستضيفة مما قد يؤثر على استقرار المنطقة بشكل عام.
ارتفاع احتمالات التوترات الإقليمية مما قد يعقّد جهود الوساطة الخليجية في القضية الفلسطينية.

زيادة الضغط على الخليج لتقديم حلول دبلوماسية أو سياسية مما قد يضعها في موقف صعب بين دعم الفلسطينيين والحفاظ على علاقاتها الدولية .


رؤية قانونية 
التهجير القسري ليس مجرد قضية إنسانية تتعلق بالأفراد المتأثرين بشكل مباشر بل هو جريمة سياسية واقتصادية لها تداعيات واسعة النطاق وشديدة الاهمية على المستوى الإقليمي والدولي وبالنظر إلى المواقف القانونية التي تحظر هذه الممارسات فإنه يجب على المجتمع الدولي أن يبذل المزيد من الجهود لمكافحة التشريعات والسياسات التي تهدف إلى تشجيع هذا النوع من التهجير وفي الوقت ذاته يجب تعزيز التعاون بين الدول المجاورة لضمان استقرار المنطقة وحماية حقوق اللاجئين الفلسطينيين.

كما أنه لم يعد مقبولا أن تخرج علينا بعض القوى العالمية بتصريحات عنترية غير مدروسة لا تأخذ في الاعتبار التداعيات الإنسانية والقانونية الكارثية التي قد تنتج عنها فمثل هذه التصريحات حتى لو لم تُترجم إلى أفعال، تُعتبر في عرف القانون تحريضا على ارتكاب جرائم حرب وانتهاكا صارخا للقانون الدولي.
وعليه فإن المسؤولين عن هذه السياسات أو التصريحات قد يكونون عرضة للمساءلة القانونية أمام المحاكم الدولية استنادا إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي يجرم كل من يصدر أو يساهم في اتخاذ قرارات تؤدي إلى التهجير القسري أو غيره من الجرائم ضد الإنسانية.

من الواضح والمؤكد أن التهجير القسري ليس فقط انتهاكا صارخا للقانون الدولي بل إنه يخلق بيئة غير مستقرة تضر بأمن واستقرار الدول المعنية لذا فإن على دول العربية والخليجة أن تواصل العمل على تجنب التداعيات الاقتصادية والسياسية من خلال دعم الحلول العادلة والضغط على المجتمع الدولي للوقوف ضد هذا النوع من السياسات.

وفي الختام فإن التزام الدول العربية وعلى رأسها دول الخليج بالموقف الثابت في دعم القضية الفلسطينية وضمان حقوق الفلسطينيين في العودة إلى أراضيهم يمثل خطوة مهمة في حماية الأمن الإقليمي وضمان عدم تكرار معاناة اللاجئين الفلسطينيين.

مستشار قانوني مصري مقيم في عُمان

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية