عندما تحدث العالِم السويسري ستيفان جاريللي عن مستقبل التاريخ، لم يكن قد قرأه جيدًا، التاريخ في نظريته هو الذي لم يبدأ بعد، الكتابة الحقيقية للأحداث لم يتم تدوينها، لم يتطرق لها علماء الأنثروبولوجيا بالتحليل والتشريح والبحث والتحري، فقط اكتفوا بالرصد، وفقط ذهبوا إلى الأكاذيب والتقارير السرية، وفقط إلى الحروب والقوى العظمى الدولية، لم يكتبوه من صانعيه، ولم يكتبوه من الضالين فيه، ولم ينبروا ويتطاولوا عليه إلا إذا وجدوا أن هذا التطاول من الذين نسخوه والذين نقلوه وهؤلاء المأمورين بالدفاع عنه.
هكذا قال جاريللي، وهكذا يمكننا فهم ما يفعله ترامب رغم صراحته ووضوحه، ورغم شجاعته وتهوره وجنوحه، يريد ضم كل ما يمكن ضمه إلى سلطته التي يراها مُطلقة، لا يعود إلى البرلمان ولا إلى مجلس الشيوخ في قراراته المصيرية، يعلن تبعية “جرينلاند” الدانمركية، و”بنما” وأجزاء شاسعة من “كندا” للولايات المتحدة الأميركية، يدَّعي بأن هذه الأجزاء من العالم أوكار للمخدرات، وصناديق سوداء للجرائم المنظمة وغسيل الأموال، ثم يعود فيفرض على هذه الدول التي يراها “مؤقتة” رسومًا جمركية عالية على منتجاتها، ثم يعود مجددًا فيعلق هذه القرارات لمدة 30 يومًا، ربما يرتدع المتأثرون بها، ويتخذون من الإجراءات والتدابير ما يقنع ترامب بأنهم عند حسن ظنه بهم.
الكارثة أن الرئيس الأميركي الجديد لم يكتف بالضم على طريقته الخاصة، ولا بالاحتلال من خلال الأساطيل الجرارة على طريقة من سبقوه، لكنه ذهب إلى الصين وكوريا الشمالية وكل من يناوئه، ليفرض على بضائعهم رسومًا جمركية مبالغًا فيها، ثم إلى حلفائه التاريخيين القارة الأوروبية العجوز ليتهمهم بابتزاز 350 مليار دولار أميركي سنويًّا نظير العلاقات التجارية الظالمة للولايات المتحدة.
ثم يذهب لأبعد من هذا كله، فينسحب تمامًا من اتفاقية المناخ، وعدد من المنظمات الدولية “الأونروا” و”الصحة العالمية” والمجلس العالمي لحقوق الإنسان، وما قد يستحدث فهو أعظم.
ترامب يريد ولايات متحدة أميركية أكبر من عظمى، ويسعى لتركيع العالم على الاعتراف بأنها الأقوى والأعظم على المدى من التاريخ، يريد أن يسطّر تاريخًا جديدًا على طريقته الخاصة، يسعى لكي تكبر الولايات المتحدة على حساب الآخرين، حتى غزة المنكوبة لم تفلت من قبضة ترامب الحديدية، فدعا إلى تهجير شعبها، ليس مهمًّا إلى مصر أو الأردن أو غيرهما، المهم أن يكون القطاع خاليًا من الناس حتى يعيد بناءه على طريقته الخاصة وبأموال العرب والمسلمين، فنادق ومنتجعات سياحية ومدنًا ذكية، وقرى صناعية ومزارع إلكترونية، وعالمًا خياليًّا مئة في المئة.
هكذا ترامب يرى مستقبل غزة، ليس شعبًا مكلومًا أصليًّا مضحّيًا، وليس قطاعًا مجتزأً من دولة محتلة من عام 1917 حتى الآن، إنما يراها مثلما كان يرى الأميركي الأوروبي الولايات المتحدة الأرض الجديدة من دون سكانها الأصليين، يريد أن يرى شعبها خارج الوطن، حتى لا يلحق بهم ما لحق بالهنود الحمر الأميركيين.
ترامب مازال يفكر ويفكر، ومازال يحاول ويحاول، والعالم يقف وكأن على رأسه الطير، ماذا يحدث يا ترى لو رفض البعض “الضم”، وماذا سيحدث لو لم تمنع المكسيك وكندا وبنما المخدرات من الدخول عبر المنافذ السرية إلى الشعب الأميركي “المسكين”؟ بالتأكيد ستنشب حرب تجارية، وبالتأكيد سيرتفع التضخم والذهب، ويتراجع النفط وأسواق المال والاقتصاد، وبكل تأكيد سيكون للعالم المقابل رأي آخر، هل آن الأوان كي نسمعه؟.