العدد 5904
الجمعة 13 ديسمبر 2024
banner
اصطناعي!
الجمعة 13 ديسمبر 2024

لعل من أكثر العبارات انتشارا في السنوات الأخيرة هي عبارة “الذكاء الاصطناعي” (Artificial Intelligence)، فالجميع يلهث وراء هذا المكسب التكنولوجي الجديد، ويرغب في الاستفادة من مخرجاته الممكنة في شتى الحقول الدراسية والحياتية والعسكرية والطبية، إلخ... وقد حضرت مؤخرا ورشة في توظيف الذكاء الاصطناعي في إعداد الامتحانات المدرسية والجامعية وغيرها من الامتحانات والمسابقات، لكن بقيت عيناي جاحظتين في كلمة “اصطناعي”، وعقلي سارحا في ملكوت هذه الكلمة السحرية التي اكتسحتنا في سنوات قليلة فتأملت دلالاتها وتطور استعمالها.

عدت إلى زمن غير بعيد، إلى استعمالات هذه الكلمة في اللغة، فوجدتها تحضر في سياقات غير إيجابية حتى لا أقول سياقات مذمومة، فمثلا تعودنا أن نصف الضحكة المتكلفة بقولنا ضحكة “مصطنعة” أو اصطناعية لنعبر عن عدم رضانا بمثل هذه الضحكة، وكذا نقول عند الحاجة إلى بتر أطراف من الجسد، والاستعاضة عنها بــ “أطراف  اصطناعية”؛ لأنها ليست طبيعية أو لنقل ليست أصلية، وقد لا تعمل عمل أطراف الجسد الطبيعية.. لذا ارتبطت كلمة اصطناعية بما هو غير طبيعي وغير صادق ومتكلّف وما إلى ذلك من المعاني غير المحمودة، ومن ثم كان العديد منا يتحاشى ما هو اصطناعي بهذا المعنى الذي انعقدت عليه الكلمة، ويستهجن استعمالها، غير أنّ دلالة كلمة “اصطناعي” ومنذ ارتباطها بكلمة “الذكاء”، بعد ترجمة “Artificial Intelligence” إلى الذكاء الاصطناعي، شهدت انحيازا عما سبق، واكتسبت مع الاستعمال الجديد شحنة دلالية محمودة ومعنى إيجابيا، باعتبار ما يتوفر عليه الذكاء الاصطناعي من محامد جعلت الصغير والكبير يتهيّأ علميا ومهاريا للاستفادة من منجزاته. 

واستعملت الكلمة في البحوث والمقالات العلمية، واقتحمت أسوار الجامعة لتشتبك مع كل العلوم وتكون عضيدا لها ومطورا، ثم صارت تخصصا علميا مطلوبا جدا بل ضروريا لمجاراة نسق التطور العلمي المعاصر.

وهذا التحول في معنى المصطلح ودلالاته يندرج ضمن ما يعرف في النقد الثقافي بهجرة المفاهيم، والتحولات التي تطرأ عليها مع مرور الزمن، سواء كان ذلك متعلقا بانتقال المفاهيم بين الثقافات المختلفة، أو داخل ثقافة بعينها كالثقافة العربية أو الغربية، وهو ما يكسبها مع الزمن دلالات جديدة وأحيانا مغايرة لما دلت عليه في أول نشأتها.

 

* كاتب تونسي ومدير تحرير مجلة البحرين الخيرية

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .