كان الكاتب الأميركي الشهير نورمان ميلر يعيش في قلب الأحداث، والكتابة بالنسبة له نشاط ينبغي أن يمارس وسط البشر والحياة الصاخبة، وكان لا يجيد في حياته سوى الكتابة بمعناها الإنساني الواسع، رغم أنه عمل في أكثر من مهنة في بداية حياته إلا أنه في النهاية أيقن أن الكاتب يشبه الفلاسفة الذين لا يجيدون العمل ويأكلون تفكيرهم بلا حساب.
فكثير من الفلاسفة مثل سقراط، وأبيقور، ونيتشه، لم يظهروا أي لون من ألوان النشاط في الحياة العملية، ولم يحترفوا مهنة، ولم يسعوا إلى طلب المال، وكان يصدق عليهم القول “إن الفلاسفة في لعبة الحياة متفرجون ولا يشتركون فيها ولا يقومون بعمل”، لكن كان ديكارت ضابطا وشوبنهاور أظهر اهتماما بالمحافظة على ما كان يملك، وقد كان أفلاطون من الساسة المتحمسين.
وهناك حقيقة تلمع في كل زمان ومكان وهي أن معظم الناس يعدون أنفسهم لاحتراف إحدى المهن، ويوقفون حياتهم عليها، وهم يعدون ذلك شيئا بالغ الأهمية، لأنهم يحصلون من المهنة التي يحترفونها على النفقات اللازمة لهم ولأسرهم، لذلك يبادرون في بداية حياتهم إلى اتخاذ المهنة الملائمة لهم، ولا يغيرونها إلا إذا دعتهم إلى ذلك أسباب قوية مثل الصحة أو الحصول على مهنة أخرى تدر عليهم مالا أكثر مما تدره عليهم مهنتهم الأولى، لكن حياة الفلاسفة والكتاب تختلف عن حياة الناس العاديين، فالفلاسفة والكتاب يركبون بحرا هائجا ويعيشون لهدف سام في الحياة غير رغيف الخبز، وربما الجوع بالنسبة إليهم أهون ألف مرة من الوظيفة ونيرانها اللاسعة، وكما قال الشاعر الفرنسي بودلير.. جئت الدنيا لأعرف شيئا لا لأعمل.
* كاتب بحريني