العدد 5840
الخميس 10 أكتوبر 2024
banner
جوجل والجنيه.. نقلة نوعية أم تحول إجباري؟
الخميس 10 أكتوبر 2024

في مناقشة مع عدد من صناع المحتوى حول قرار جوجل بتحويل أرباح صانعي المحتوى من الدولار إلى الجنيه المصري، قال أكثر من واحد إنهم سيسعون لاتخاذ دولة أخرى غير مصر مقرا لنشاطه، لكي يستمر في جني الأرباح بالدولار؛ لأن الدولار يمكنهم من الاستمرار في العمل، حيث دفع مستحقات بالدولار لأصحاب المنصات، تلك المستحقات تلتهم جانبا كبيرا من عوائدهم الدولارية.
بعضهم قال إنه سينتقل بنشاطه إلى خارج مصر، مكانيا أو عن بعد، وأجمع معظم أصحاب هذا الرأي على أن منطقة الخليج العربي هي الأكثر مناسبة لهم، وهتف رجل أربعيني: المنامة هي الوجهة الأنسب لي.
التفتُ إليه منتبها أسأله عن السر، فأفصح عن أنه عمل من قبل هناك، ولن يجد أفضل منها بيئة للعمل، من حيث البنى اللوجستية والتقنية، والتفاعلات الإنسانية.
فقلت لنفسي إن هذا الرجل يمثلني، ويتحدث بلساني، وفكرت في دفعه للكلام أكثر عن تجربته السابقة وطموحاته اللاحقة، وقلت له: ولكن كلفة الحياة والعمل أعلى بكثير من دول أخرى، فقال: لا بأس، تلك لها حل، ولكن هناك تشعر بارتياح للناس والمكان، وتجد الأمور سهلة ميسورة، بحيث تدفعك دفعا للنشاط والإنتاج.
ويعمل صديقنا في إنتاج محتوى تعليمي تفاعلي، مستخدما المنصات المتاحة كافة، وكل أدوات جوجل تقريبا، ويكسب منها ما يزيد عن 5 آلاف دولار، كما قال، فقلت له إنك ربما تكسب أكثر ولكنك تعمدت ذكر رقم خمسة دفعا للحسد، حيث يؤمن المصريون أن إشهار الكف بأصابعه الخمس في وجوه الآخرين أو ذكر رقم 5 في الكلام عن الرزق، يحفظه من الانتقاص والزوال.
فضحك صديقنا، وقال إن الرقم يدور حول 5 آلاف دولار بالفعل، ربما يزيد أو يقل قليلا حسب الظروف.
تبدو المسألة فرصة لدول الخليج لاجتذاب أمثال هؤلاء بعد قرار جوجل، ويبدو الخليج عموما والبحرين تحديدا خيارا جذابا لكثيرين؛ نظرا للبنية التحتية التقنية المتطورة والسياسات الاقتصادية الداعمة، كما هو معروف وكما قال صديقنا. ولكن هل هي حقا البديل الأمثل للجميع؟ مع الوضع في الاعتبار الجمهور الموجه إليه المحتوى، فلو كان سيعمل من البحرين مثلا أو أي من دول الخليج قليلة السكان، فلن تزيد أرباحه عما هو متوقع، فالمسألة هنا ليست فقط في جودة البنية التحتية، إذ إن السوق محدودة مقارنة مع السوق المصرية، وهي ما قد لا توفر ذات الفرص للنمو.
أبدى صديقنا إدراكا دقيقا لتلك المسألة، مؤكدا أنه سيعمل من المملكة منطلقا منها لجمهور العالم العربي، وربما يزداد حينما يضيف إليه محتوى خليجيا مستلهما من البيئة البحرينية.

ويرى البعض في قرار جوجل استجابة لتحولات اقتصادية تعكس طبيعة الأسواق ومستقبلها القريب والبعيد، وهو ما يفتح أبوابا جديدة للنقاش بشأن تداعيات هذا القرار وآفاقه. 
تساءلت: هل نحن أمام نقلة نوعية تعزز الاستقرار الاقتصادي والإبداع المحلي؟ أم إن هذه الخطوة تمثل تحولا إجباريا في ظل الأزمات العالمية المتلاحقة؟ هنا، يكمن السؤال الأوسع الذي يحتاج إلى تفكيك وتحليل معمق.
ففي ظل الأزمات المتكررة التي تعصف بالاقتصادات الناشئة، تتجه السياسات الاقتصادية نحو التوطين، وجاء قرار جوجل بمثابة آلية لحصر أرباح صانعي المحتوى بالعملة المحلية، وهو ما يسهم دون شك بشكل مباشر في دعم استقرار الجنيه المصري. فبدلا من استمرار الاعتماد على الدولار كمحرك رئيس للأرباح، يصبح الجنيه في قلب هذه المعادلة. هذا التوجه يحمل لمصر في طياته مكسبا أعمق؛ إذ يسعى إلى تقليل الاعتماد على العملات الأجنبية وبالتالي تخفيف الضغط على الاحتياطي النقدي.
ولكن كيف يمكن لصانعي المحتوى استغلال هذه الفرصة؟ أرى أن التحول للجنيه لا يعني تقليص قيمة أرباحهم بقدر ما هو دعوة لإعادة هيكلة نظرتهم إلى السوق المحلية، والإبداع في تقديم محتوى يلبي احتياجات الجمهور المصري، وفي ذات الوقت، يكون قادرا على المنافسة عالميا. إنه تحدٍ يتطلب شجاعة، لكن الفرص تنتظر من يمتلك الجرأة لاستغلالها.
فتحديد الأرباح بالجنيه قد يبدو في ظاهره قيدا، لكنه في الواقع فرصة ذهبية لتشجيع الإبداع المحلي. سوق المحتوى المصرية تحتاج إلى نقلة نوعية، تخرج صانعي المحتوى من فخ التكرار والمحتوى الاستهلاكي الذي يفتقر للقيمة. على المبدعين أن يفكروا في كيفية تقديم محتوى يتفاعل مع القضايا المحلية، ويقدم حلولا مبتكرة للتحديات المجتمعية.
فالتوجه نحو تقديم محتوى يلامس الواقع المحلي، سواء في التعليم، أو الصحة، أو حتى الثقافة الشعبية، يمكن أن يفتح آفاقا جديدة لصانعي المحتوى. هذا القرار يجب أن ينظر إليه على أنه دعوة لاستثمار الأفكار المحلية وإعادة تشكيل الصناعة الإبداعية المحلية، لتصبح أكثر عمقا وتأثيرا.
بالطبع، لا يخلو الأمر من تحديات. أحد أبرز هذه التحديات هو تقلبات سعر الصرف. أرباح اليوم قد تكون أقل في القيمة من أرباح الأمس إذا استمر انخفاض قيمة الجنيه. ولكن، هذا التحدي يتطلب من صانعي المحتوى تعزيز معرفتهم بالأسواق المالية والتكيف مع المتغيرات.
في نهاية المطاف، قرار جوجل بتحويل أرباح صانعي المحتوى إلى الجنيه المصري ليس مجرد إجراء اقتصادي، بل هو خطوة تحمل في طياتها تحديات هائلة إما للنمو والتطور أو الانكماش والتقهقر، فعلى صانعي المحتوى أن يستعدوا لمواجهة هذه التحديات، ويغتنموا الفرص المتاحة أمامهم. الإبداع، المعرفة، والمرونة ستكون مفاتيح النجاح في هذه المرحلة.
وبدلا من النظر إلى هذا التحول على أنه قيد، يجب اعتباره نقلة نوعية نحو بناء مستقبل أفضل لصناعة المحتوى في مصر، مستقبل يستند إلى الاستدامة الاقتصادية، والإبداع المستمر، والتكيف مع المتغيرات.

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية