يتميز بعض الفلاسفة والأدباء بابتكار أساليب فنية تخلق عند القارئ وعيا جديدا وذوقا جديدا وحسا بالعالم من حولنا، وأحد هؤلاء الفيلسوف المسافر بعيدا ألبير كامو الذي أمتعنا في كتابه العبثي الرائع “أسطورة سيزيف”، فقد زعم الإغريق القدماء في أساطيرهم الغابرة أن سیزیف ابن إيول وملك كورثينا كان رجلا دمويا ينشر الرعب ويزرع الإرهاب، فغضبت عليه الآلهة وحكمت عليه بعد مماته تكفيرا عن خطيئته أن يظل مدى الأبد في الجحيم يدحرج صخرة عاتية حتى يثبتها فوق قمة جبل، وكان سيزيف كلما وصل بالصخرة إلى الموضع الذي يجب أن تربض عليه يراها تهوي من شاهق إلى حضيض الأرض، فيدلف وراءها ويعيد الكرة حتى يبلغ بها القمة من جديد فتسقط الصخرة مرة ثانية وهكذا دواليك.
وقد غدا سيزيف مضرب الأمثال عند ذكر عمل سخيف لا جدوى منه، ومن أجل ذلك انتشل كامو شخصية سيزيف من الجحيم، يقول كامو إن ما يثير اهتمامه فعلا هو تلك الفترة التي تمر على سيزيف وهو عائد من القمة ليحمل الصخرة الأزلية من جديد وهو يعلم أنها مصدر شقائه، خلال هذه الفترة يجد المسكين مجالا للتنفس والتأمل في حظه العاثر، وعندئذ يعود إليه رشده، ويفيق من ذهوله، في هذه اللحظة بالذات يبدو لنا بجلاء ووضوح أن سيزيف قهر قدره وتغلب عليه وغدا أشد صلابة من الصخرة التي ينوء بحملها.
إن سيزيف يدرك تماما أن جهده ضائع وما يبذله ذاهب سدى ورغم ذلك لا يفتأ يصارع حظه العنيد حتى يصرعه وهو يصرع حظه لأنه يحتقره ويزدريه، ويسوقنا كامو في تأملاته إلى أبعد مدى، فهو يردف زاعما أن سيزيف ينتهي به المطاف الأبدي إلى جني لذة من شقائه المزمن لشعوره أنه قابض على زمام قدره. وينتهي كامو إلى القول إن الكفاح لبلوغ قمة الحياة يكفي في حد ذاته لملء قلب الإنسان بنفحات من الغبطة والرضى.
* كاتب بحريني