“رحل عن هذه الدنيا الأستاذ محمد بن حسين الجودر رحمه الله وأسكنه فسيح جناته”.. رسالة قصيرة اختصرت حياة مديدة لرجل كبير، محمد الجودر الإنسان والتربوي والخبير في التخطيط والبعثات والتعليم الخاص و...، لكن الأهم من ذلك كله أنه كان مدرسة للقيم والتقوى. تشرفت بالعمل معه عندما كان وكيلا مساعدا للأنشطة التربوية والخدمات بوزارة التربية والتعليم، كان يترأس الاجتماعات بهدوئه العجيب ورصانته المعروفة، وإدارته الأمور بدقة وأحكام وصبر منقطع النظير. امتاز الراحل بالتطابق الكامل والشديد بين القول والفعل، وبالكفاءة والانفتاح على جميع الأفكار من دون تبرم أو تأفف أو غضب، وبقدرة كبيرة على الإنصات، ولا غرابة في ذلك لأنه سليل بيت أسس على العلم والتقوى والسماحة.
ترقى الجودر في مراتب العلم والإدارة والقيادة على مدار سنوات عديدة، وكان تقلده للمناصب من خلال الكفاءة والجدارة، وجاء فوزه بها بجهد وكدح، فأصبح مديرا لأكثر من إدارة ووكيلا مساعدا وعضوا في المجلس التنفيذي في منظمة الألسكو، وعضوًا في مجلس إدارة المعهد العربي للتخطيط، وفي مجلس إدارة مركز البحوث التربوية، وغير ذلك من المراكز والمناصب التي تقلدها. اليوم.. مضى كل ذلك وانقضى: الوظائف والمناصب والألقاب وكل أشكال التكريم، لكن بقيت صورة الراحل واسمه علامتين بارزتين من علامات الكفاءة والإخلاص والوفاء للقيم ونموذجا للقيادة وقدوة حسنة، بعيدا عن ضوضاء الدنيا وضجيجها وغبارها، كواحد من أواخر حبات عنقود جيل كامل التربويين الأفذاذ الذين خدموا التربية والتعليم بمحبة وتفان، واحد من الطراز التربوي الفريد والوطني الصادق. وعندما يرحل أمثاله، في هذا الزمن الذي عزت فيه الحكمة والصدق والاتزان، وانتشر فيه الكذب والادعاء يكون رحيله خسارة كبيرة لا تقدر بثمن، مع أن مفارقة هذا العالم المشوه البذيء كرمٌ ورحمة من الله لعباده الطيبين الصالحين، بعيداً عن الزيف، والركض وراء أمجاد زائفة، لا تساوي شيئا في ميزان الإخلاص والصلاح. سنذكرك يا أبا هشام، ما بقي في العمر نفسٌ، وسوف نذكرُ اسمك مقروناً بذكريات لا تموت، وقائمة طويلة من إنجازاتك المسطرة في ذاكرة الأجيال وأخلاقك الفريدة وطيبتك النادرة. رحمك الله رحمة واسعة.
* كاتب وإعلامي بحريني