بسبب تقلص الموارد وتراجع الإمكانيات المادية المخصصة للثقافة في معظم البلاد العربية، انحصر تدخل الدولة في الحقل الثقافي مع تعاظم دور القطاع الخاص الذي أصبح يلعب دورا محوريا في التنمية الثقافية وتمويل المشاريع والبرامج، والاستثمار في المجالات المربحة. ومع أن تدخّل القطاع الخاص في الحقل الثقافي ليس جديدا، وقد يكون مهما ومثمرا لتعزيز الثقافة، فإن تنامي دوره وتعدّد أشكال دعمه للمبدعين يعيد طرح إشكالية العمل الثقافي عندما يخضع لمنطق السوق مثل أية سلعة أخرى، حيث أصبحنا نتحدث بلغة السوق داخل الحقل الثقافي ونستعمل مصطلحات من قبيل “صناعة الثقافة” و”المنتجات الثقافية” وغير ذلك من المصطلحات المباشرة أو المتخفية التي تحول العمل الثقافي إلى صناعة منتجة.
إن هذه الظاهرة تتزايد في العديد من بلدان العالم، عبر تحكم القطاع الخاص في وسائل الإعلام، بما في ذلك السيطرة على المحتوى الثقافي والتركيز على المحتوى الذي يحقق أرباحًا على حساب المحتوى الثقافي غير الربحي الذي يرتبط بالهوية الوطنية. إضافة إلى الترويج للثقافة الاستهلاكية بمختلف أشكالها في مجالات محددة وباتت معروفة، ما يفضي في الغالب إلى تراجع الاهتمام بما يعزز الهوية الوطنية والأهداف العليا للدولة، وصناعة الذوق العام ومحاولة تعويمه من خلال “منتجات ثقافية” مصنّعة من قبل شركات وشبكات للتصنيع والنشر والتوزيع والترويج، بما يؤدي في الغالب إلى سحق الثقافات المحلية أو تهميشها على الأقل. من المؤكد أن العديد من الرؤى تفضل تقليص تدخل الدولة وإشرافها المباشر وسيطرتها الكليّة على الإنتاج واعتباره أمرا إيجابيا لجهة تعزيز حرية العمل الثقافي، لكن الوضع الراهن في البلاد العربية يستدعي عدم تخلي الدولة عن الثقافة، بل ضرورة الإبقاء على دعمها ودورها في الرعاية والمتابعة والتمويل والتشريع، مع العمل على ربط الثقافة في بعديها الوطني والإنساني بالمشروع التحديثي الذي يعتبر التعددية والتنوع والهوية الوطنية أمورا أساسيّة في كلّ عمل ثقافي وإبداعي، مع تشجيع القطاع الخاص في مجالات الاستثمار في البنية التحتية الثقافية وتعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص. وللحديث صلة.
* كاتب وإعلامي بحريني