حين يأتينا الطوفان العظيم، وتذهب الملائكة والشياطين، كل إلى حال سبيله، وتقف البشرية جمعاء، عيونها فوق رؤوسها، وطيورها تحت سقف السماء، لن نتذكر سوى الوطن، صبانا عندما كنا نلعب في أزقته وحواريه، قُرانا وهي تهدي الحياة لكل منشد في الوجود، قبلة صلواتنا الخمس وهي تستقبل المؤمنين صباحا ومساء، أستاذ اللغة العربية والتربية الإسلامية وهو يدق بعصاه على المنضدة الخشبية كي ينصت الطلاب إلى وصاياه، جنازة بنت الجيران التي غرقت في النهر القريب وهي تجهل السباحة ضد التيار.
عندما يهم بنا الطوفان العظيم ويبدأ كل منا مشوار التوبة بعد فوات الأوان، لا نتذكر غير الله عز وجل، طالبين الصفح والعفو عنا، متضرعين إليه، وساجدين ومسبحين بحمده: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فترد السماء برحمة من عند الله، بمطر غزير، هذا هو خير الوجود كله للخلود كله، وتلك الموعظة الحسنة يتلقاها بني الإنسان بصدر مؤمن جريح، ليتذكر مجددًا أشخاصًا بعينهم وليس زر القميص الذي ضاع منا مثلما يقول “محمود درويش”، فالرحيل الكبير كما اللقاء الكبير، أيهما أو كلاهما نقطة انطلاق أبدية لكل من يحسن عملاً ويرمي بغير رام، ويتذكر أشخاصًا أثروا في حياته، أول تاجر التقاه، وأول شاعر استمع له، وأول أستاذ تلقى على يديه علوم المستقبل، وأول امرأة في العمر، وأول وآخر حب، وأعمق وأروع قصة حياة، و... وذكريات أخرى كثيرة ترتبط بالوطن، وحب الوطن، منذ الولادة وحتى يوم الطوفان العظيم، منذ الضوء الأول وأيام البيت القديم، حتى الوطن البديل وشمس الأصيل والعمل الفني الرائع للوحة فنان تشكيلي وهو يرسم الوطن كله بريشة الصديق عباس الموسوي، فنان حتى آخر المدى يرسم بروحه الراسخة زقاقًا في المحرق أو الفاضل أو المخارجة، وكأنه يرى بخطوطه خان الخليلي في القاهرة، أو سوق مراكش في الدار البيضاء، أو سوق الحميدية في دمشق كلها أو بعضها، صورة طبق الأصل من ذاكرة وطن، وأي وطن.
وكلها أو بعضها شخصيات رسمت نفسها على جداريات حلو أيامنا، وعلى محطات مواعيدنا، وعلى رنيم ورنين أحلامنا، من قال لا في وجه من قالوا نعم، حتى تصبح كلمات أمل دنقل السبرتكوسية الأخيرة ليست أخيرة، وحتى يصبح من يعلمنا تمزيق العدم، أو يجعلنا نضرب عرض الحائط بسِفر التكوين حتى يصل بأقصى سرعة إلى سِفر الخروج، هو نفسه الذي تحدث عن زرقاء اليمامة، وهو في أقصى الشرق البعيد الذي تحدث عن الحنو بلغة قاسم حداد الفياضة، “أنحني لأحنو” وبلهجة الشرقاوي شفاه الله وعافاه، هي ذكريات من أقصى الوطن إلى أقصى الوطن، ومن قبل البداية إلى بعد النهاية.
كاتب بحريني والمستشار الإعلامي للجامعة الأهلية