بات خطاب الكراهية الرافض للتعايش الديني والطائفي والقومي بين مكونات النسيج الوطني للشعب الواحد مستفحلاً في العديد من بلدان عالمنا العربي، إلى درجة ينذر معها بالخطر الماحق أكثر من أي وقت مضى.
وبالرغم من الجهود المضنية التي يبذلها الباحثون والمثقفون والكتّاب العرب، فضلاً عن مؤسسات مدنية متخصصة لمكافحة هذا الوباء الفتّاك، فإنه مازال آخذاً في التعمق والاتساع بقفزات متلاحقة مذهلة عاماً إثر عام، وعلى نحو لا سابق له منذ مطالع النهضة العربية قبل 150 عاماً ونيف.
ففي العراق على سبيل المثال لا الحصر، هذا البلد العزيز على قلب كل عربي، والذي كان تاريخياً مركز الحضارة العربية الإسلامية، أضحى اليوم واحداً من أكثر من بلدان عالمنا العربي معاناةً من خطاب الكراهية، لا بل نُكب من جرائه بكوارث عديدة من المذابح والعنف والأعمال الإرهابية منذ الاحتلال الأميركي عام 2003. ومؤخراً نشرت صحف عراقية تقريراً علمياً أصدرته مؤسسة “مسارات للتنمية الثقافية والإعلامية” عما وصل إليه هذا الخطاب من مديات فائقة الخطورة، وذلك من خلال رصد ما نُشر في “وسائل التواصل الاجتماعي” طوال عام 2023، فجاء “الفيسبوك” في موقع الصدارة بنسبة تتراوح بين 30 إلى 33 %، يليه “تيك توك” بنسبة 22 % خلال الربع الثالث من العام، ثم منصة X بنسبة 21 % في الربع الأخير من العام، وحصدت “انستغرام” نسبة 11 - 13 %، أما “القنوات الفضائية” فجاءت بنسبة ما بين 19 - 21 %. و يفسر تدني نسبة هذه الأخيرة في تقديرنا لما تحتله “ السوشال ميديا” من أولوية عند المواطن تفوق اهتمامه بالتلفزيون. بيد أن التقرير جاء خالياً من منصة “الواتساب” ربما لصعوبة رصد خطاب الكراهية فيها، بصفتها منصة مغلقة، مع أنها من أكثر المنصات خطورة، ما لم تكن الأخطر.
لكن ما هي الدلالات المستخلصة من تلك المؤشرات عراقياً (كنموذج) وعربياً؟
عراقياً، لعل أهم الدلالات ما صرح به الدكتور سعد سلوم رئيس المؤسسة نفسها التي أصدرت التقرير المشار إليه، بأن تلك المؤشرات الخطيرة باتت تهدد السلم الاجتماعي، وتعيد إنتاج أزمات عديدة بأشكال جديدة شتى من الأزمات السياسية والاجتماعية، لم تكن معروفة قبل ابتكار تلك المنصات.
وأكد سلوم أن هناك قوى منتفعة من خطابات الكراهية، بغرض التحكم في الرأي العام (يقصد على مستوى الطائفة) واختلاق أزمات مزيفة لحرف الأنظار عن الأزمات المشتركة الأهم، فيما يُحمّل آخرون قوى متنفذة استغلال مناسبات دينية بعينها لترويج خطابات الكراهية وبث النعرات الطائفية وإعادة إنتاجها، تعويضاً عن افتقارهم لمشروع إعادة بناء الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية لتكون دولة كل مواطنيها، وتعويضاً أيضاً عن افتقارهم لمشروع برنامج سياسي اقتصادي تنموي تستفيد منه معيشياً أوسع الفئات الشعبية.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إلى أي مدى يمكن أن تنطبق دلالات المؤشرات الإحصائية العراقية على البلدان المبتلاة بتلك الآفة بالغة الخطورة؟
فمع التسليم بأن المؤشرات الإحصائية التي خلص إليها التقرير العراقي ذات دلالة تخص العراق وتختلف من بلد عربي إلى آخر، إلا أن الدلالات تكاد تكون مشتركة، بغض النظر عن تباين درجات الخطورة فيما بينها. على أن ما هو مدعاة للسخرية أن كثرة من مروجي الخطاب الطائفي على منصات التواصل الاجتماعي يمهدون الأجواء لإثارة النعرات - بوعي منهم أو بدون وعي - من خلال إنزال مواد ذات خصوصية دينية فئوية لا تخلو من الغلو، مبررين ذلك بحرية الرأي أو الحرية الدينية! سيما في المنصات التي تجمع أناساً من ذوي انتماءات دينية مختلفة، كما هو الحال في منصة “الواتساب”.
ومن المفارقات التاريخية أن الاستعمار فشل فشلا ذريعا في تكريس خطاب الكراهية وفق سياسة “فرّق تسُد”، ولم يصل هذا الخطاب حينذاك إلى هذا المستوى من الخطورة الشديدة التي نلمسها اليوم، لذا فإن كل القوى الوطنية والشريفة العربية على اختلاف انتماءاتها السياسية والدينية والتي تعز عليها وحدة شعوبها مُلزمة بأن تولي هذه القضية المقدسة أولوية قصوى على رأس أجنداتها، وأن تحرص حكومات البلدان العربية المبتلاة بهذا الوباء على التعاون معها، باعتبارها – الحكومات - الطرف المعني الأول بحفظ السلم الأهلي وتفادي تفكك الجبهات الداخلية والحروب الأهلية داخل دولها، وهذا لن يتأتى بطبيعة الحال إلا من خلال تضافر جهود جميع تلك الجهات، وصولاً إلى مقاربات ذات حلول بآليات عملية ناجعة من شأنها اجتثاث هذا الوباء من جذوره، وعدم الاكتفاء بإصدار التقارير وعقد المؤتمرات، رغم تسليمنا بأهميتها وفائدة استمرارها لقرع ناقوس الخطر كلما تفاقمت درجاته.
كاتب بحريني