العدد 5758
السبت 20 يوليو 2024
الديمقراطية الغربية والإرادات الشعبية
السبت 20 يوليو 2024

لا جدال بأن الديمقراطيات الغربية حققت مكتسبات سياسية مهمة بفضل ثورات شعوبها كما في ثلاثة نماذج مهمة، فرنسا وبريطانيا وأميركا، ومن ذلك الدساتير التي تضمن فصل السلطات الثلاث والحريات العامة، كحرية التعبير وحرية الصحافة والتعددية السياسية وسيادة القانون على الجميع حكاماً ومحكومين، لكن هذه الديمقراطيات بعد تقادمها واكتساب الطبقات الحاكمة على مسرح الحياة السياسية خبرة مديدة لعقود طويلة، بل بعضها فاق القرنين، فإنها بذلك تمكنت من اللعب بمهارة فائقة في تكريس آليات وأعراف تُوظف لمصالحها، ومن ثم تفريغ أغلب تلك الحقوق من محتوياتها بشكل أو بآخر، بما في ذلك التحكم في مخرجات العملية الانتخابية، حتى لتكاد الحكومات المنتخبة المعبرة تعبيراً كاملاً عن إرادات شعوبها تكون الاستثناء لا القاعدة.

وليس أدل على انفصال الديمقراطيات الغربية عن إرادات الغالبية العظمى من فئات شعوبها من المشهد الانتخابي الراهن لنماذج الدول الثلاث المذكورة، وكل منها مرت لسنوات طوال باحتقانات سياسية لم تستوعبها مؤسساتها التشريعية، وفي قلب هذه الاحتقانات هزات وزلازل اقتصادية ومعيشية وعنصرية، عبّرت عنها فئات واسعة من شعوبها باحتجاجاتها في الشوارع. ولعل من المكابرة والتبسيط بمكان إذا ما اعتبر ممثلو الطبقات الحاكمة في الدول الثلاث أن تلك الهزات لا تمثل سوى قلة من الغوغاء لا تعبّر عن الغالبية العظمى من فئات شعوبها. ففي النموذج الفرنسي ما برح الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون الذي يمثل يمين الوسط يناور للتمسك بسلطته وتشكيل حكومة على مقاسه، دون تكليف كتلة اليسار المتصدرة بتسمية مرشحها لرئاسة الحكومة، معززاً فرص مناوراته بما ظهر مؤخراً على السطح من انقسامات اليسار حول تسمية المرشح. وفي النموذج البريطاني الذي شهد إضرابات عمالية عديدة شملت المؤسسات الصحية، فضلا عن الاحتجاجات الواسعة لحرب الإبادة الإسرائيلية على أهالي غزة، أسفرت النتيجة عن فوز حزب العمال بزعامة كير ستارمر الذي لم يعلن حتى الآن عن أي برنامج عمل ملموس لحكومته المنتظرة يحقق المطالب الشعبية.

بل لا ينتظر منه البتة أن يتخلى عن دعم إسرائيل، هو المتزوج من يهودية، والمعروف عنه أيضاً التخلي عن وعوده الانتخابية بزاوية 180 درجة.

أما فيما يتعلق بالنموذج الثالث والأخير ألا هو الأميركي، فبوسعك أن تتحدث ولا حرج عن مهازل البون الشاسع الآخذ في التعمق على نحو متلاحق في تفريغ الديمقراطية الأميركية من شعارات الثورة الأميركية ومن الدستور الذي جاءت به، فنحن اليوم لا نتحدث عن نظام سياسي ديمقراطي بات اليوم هو أكثر الأنظمة الغربية انفصالاً عن تلك الشعارات وما ينص عليه الدستور من حريات، بل عن تحول هذا النظام إلى امبراطورية استعمارية. ولعل المشهد الانتخابي الراهن لحملة مرشح الإعادة، الرئيس جو بايدن، الذي يمر بشيخوخة مبكرة تظهر في هفواته وتلعثمه، بل وترنحه بالمعنى المجازي والفعلي على المسرح السياسي، ومع ذلك يتمسك بكل أسنانه بالترشح والبقاء في كرسيه في مواجهة مرشح آخر، ألا هو دونالد ترامب الذي عُرف عنه استعراضاته السياسية وجنون العظمة الجوفاء، حتى وجد في نجاته من محاولة الاغتيال الأخيرة فرصته الذهبية الضالة لتعزيز مثل تلك الاستعراضات كبطل متوج للفوز، بدا معها أشبه بالفائز في حلبة ملاكمة أو مصارعة، ومن ثم البناء على ذلك لاكتساب شعبية المغفلين الشكلية بدغدغة واستدرار العواطف معه لا شعبية أوسع الفئات من شعبه.. نقول لعل كل ذلك خير دليل على ما وصل إليه هذا النموذج من قمة مهازل احتكار الطبقة السياسية للحكم وعدم ديمقراطية تمثيلها للغالبية العظمى من شعبها أكثر من أي وقت مضى منذ أن تحولت إلى امبراطورية عظمى على الساحة العالمية بعد الحرب العالمية الثانية، وحيث لا تتوانى عن دعم إسرائيل ودول العالم الديكتاتورية.

كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية