من الطبيعي أن يكون لحرب غزة 2023 عواقب وخيمة، وبعيدة المدى، إن لم تكن قصيرة المدى أيضا، على النظام الجيوسياسي العالمي. وهذا يشمل خارطة التحالفات، والاستقرار الإقليمي والدولي، والعلاقات الدولية، وعمليات السلام، والقضايا الإنسانية الأخرى. ولا يستثني أيضا المخاوف الأمنية، ومن بينها الأمن السيبراني، وحرب المعلومات.
لقد تجاوزت تلك الانعكاسات الحدود القومية أو الإقليمية، كي تمس وبعمق شريان مكونات المشهد السياسي العالمي كما تحتضنه دهاليز الأمم المتحدة، وأروقة مجلس الأمن الدولي. فبعد أسبوع على اندلاع تلك الحرب، باغت الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في خطوة غير مسبوقة لأمين عام سابق لهذه المؤسسة الدولية، العالم بتصريح ناري حذر فيه من أن “نقل أكثر من مليون شخص في غزة، وفق أوامر الجيش الإسرائيلي، عبر منطقة حرب مكتظة بالسكان إلى جنوب القطاع، حيث لا يوجد غذاء أو ماء أو أماكن إيواء، عندما تكون المنطقة بأسرها تحت الحصار، أمر خطير للغاية وقد لا يكون ممكنا في بعض الحالات”.
أتبع ذلك التصريح بمجموعة أخرى في السياق ذاته، لعل أشدها جرأة، كانت دعوته في خطوة اعتبرها البعض “نادرة”، عندما حذر مجلس الأمن في رسالة رسمية، اعتمد فيها على المادة 99 من ميثاق المنظمة، من “التهديد العالمي الذي تمثله حرب غزة”. وتنص المادة 99 على أنه “يحق للأمين العام أن ينبه مجلس الأمن إلى أي مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدوليين”.
لكن أخطر ما نوه له غوتيريش، كان تحذيره الصريح من احتمال إنهيار المنظومة الدولية القائمة، وعجزها عن معالجة القضايا الشائكة من مستوى الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. فقد صرح في منتدى الدوحة المنعقد في مطلع ديسمبر 2023، محذرًا من أن مجلس الأمن بات “مشلولًا بسبب الانقسامات الجيوستراتيجية، مضيفا أن المؤسسات العالمية ضعيفة وعفا عليها الزمن، ولمّا تزل عالقة في فترة زمنية مضى عليها 80 عاما”.
في مثل هذه التصريحات تحذيرات واضحة من احتمالات واقعية تهدد منظومة العلاقات الدولية القائمة، وتنذر بتقويض دعائمها.
لكن عندما يتجاوز القارئ جدران أروقة الأمم المتحدة، يكتشف مشاهد ومواقف أخرى ترسم بوضوح عمق انعكاسات معارك حرب غزة 2023 ونتائجها على المشهد السياسي العالمي.
فلحرب غزة 2023 آثار مباشرة، وغير مباشرة على النظام الجيوسياسي العالمي، وبين يديها مصير النظام الجيوسياسي العالمي عبر طرق عدة، وبأشكال مختلفة، وتداعيات متباينة. ومن الطبيعي أن يتأثر، بفضل ذلك، الاستقرار والتحالفات الإقليمية، ما يؤدي إلى تحولات في ميزان القوى في الشرق الأوسط، ربما يدفع القوى العالمية الكبرى إلى تعديل استراتيجياتها الدولية والإقليمية.
فعلى مستوى العلاقات الدولية، يمكن أن تؤثر الحرب على السياسات الخارجية للقوى العالمية الكبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي. فتضطر جميعها، أو بعضها إلى إعادة النظر في استراتيجياتها تجاه الشرق الأوسط، ما يؤثر على ارتباطاتها الدبلوماسية والعسكرية على الصعيدين العالمي، والإقليمي.
كما يمكن أن تتأثر عمليات السلام ومشاريعها الشرق أوسطية التي تجاوزت أعمارها عقودَا من الزمان. هذا يؤدي إلى تجديد الجهود من أجل التوصل إلى اتفاق سلام دائم، أو زيادة ترسيخ الانقسامات القائمة، والنزاعات المرافقة لها.
ويمكن للأزمة الإنسانية الناجمة عن الصراع، أن تجتذب الاهتمام والمعونة الدوليين، ما يؤثر على الرأي العام العالمي والعلاقات الدبلوماسية الدولية. وهذا بدوره قد يؤثر على استقرار الشرق الأوسط. ويمكن أن يؤدي أيضا إلى تحولات في التحالفات، مع احتمال قيام بعض الدول بإعادة تقييم علاقاتها مع أطراف القضية الفلسطينية. ويمكن أن تؤثر عملية إعادة التنظيم هذه على موازين القوى الفاعلة في المنطقة، كي تدفع بها نحو أكثر من اتجاه.
وبعيدا عن منطقة الصراع عمقت الحرب الاستقطاب السياسي والتحديات الاستراتيجية المصاحبة له. فقد كشف رد الفعل الدولي على حصار غزة عن صدع متزايد بين الغرب والجنوب العالمي. وولّد ذلك مجموعة جديدة من الظواهر رافقتها شلة من التحديات الاستراتيجية تطرحها الطبيعة المتغيرة للحرب؛ بسبب سياسات الجهات الفاعلة المتحاربة بينها من غير دول المنطقة.
وكشفت حرب غزة 2023 عن الضعف العسكري المتنامي الذي باتت تعاني منه الولايات المتحدة، قبل إسرائيل. فشاهدنا الأولى تتحاشى خطر الانجرار إلى صراع عسكري أوسع في المنطقة.
وتكشف عن ذلك - الضعف الإسرائيلي والتردد الأميركي - الصدامات العسكرية المتناثرة، والمنفلتة العقال في المنطقة من طهران، مرورًا بمضيق باب المندب والبحر الأحمر، دون إغفال ما يجري في العراق من تفجيرات متعددة الولاءات، وما يدور في لبنان من حروب ممتدة لحرب غزة.
وفي الختام، من الطبيعي أن تدفع حرب غزة 2023، بشكل مباشر، دول الخليج إلى إعادة النظر في تحالفاتها الدولية، مع انحياز متوقع، يحثها على الاقتراب من الصين، ما يفتح فرصًا جديدة للصين في الشرق الأوسط.