بصرف النظر عن الفائز والذي لم يحالفه التوفيق، عن الذين وصلوا إلى مقاعد البرلمان بقوة تصويتية فارقة، والذين ذهبوا إلى جولة الإعادة، إلا أن مملكة البحرين قد شهدت بالأمس عرسًا ديمقراطيًا سيظل راسخًا في الأذهان لسنوات طويلة. أما السبب، فيكمن في ذلك الإقبال، والتنظيم، والالتفاف حول مسيرة الاستحقاق وإخراجه في أبهى صوره لتصبح البحرين أنموذجًا متقدمًا لممارسة الانتخابات البرلمانية في المنطقة. لقد اختفى الاحتدام من الشارع الانتخابي، وبدت الشوارع وكأنها حفل بهيج لسباق مستحق، لفرح سوف يتم الإعلان عنه بعد ظهور النتائج النهائية للتصويت.
قبل خط النهاية وخلال فترة الصمت الانتخابي التي بدأت منذ صباح الجمعة وحتى البدء في عملية التصويت صباح أمس السبت كانت المقار الانتخابية عبارة عن خلية نحل، عن زوار ومؤيدين أو حتى متنافسين من كل مكان، وكان للكلمات ذلك الحس الوطني الذي يحث الناخب أن يعطي صوته لمن يستحق، وأن يذهب هذا الصوت للمترشح الجدير، والنيابي القدير، كانت المقار الانتخابية عبارة عن ندوات ومؤتمرات وطنية مفتوحة، تجمع الجمعيات المهنية، وتدعو إليها التجار إلى جانب المواطن العادي، المهندس بجوار الطبيب، بجوار رجل الأعمال بجوار طلاب العلم من كل حدب وكل صوب وبينهم الأكاديميون وأساتذة الجامعات والمثقفون والصحفيون ورجال التعليم وأساتذة التنوير المجتمعي والنشطاء في كل مكان بالبلاد.
وعندما بدأت عملية التصويت شعرت كأي مواطن آخر، أننا أمام لحظة تاريخية لا يجب أن تمر مرور الكرام، وأننا أمام مطلب شعبي قد يتجاوز قضايا المعيشة والإسكان والتضخم إلى ما هو أبعد بكثير، إنه التعليم الذي يشهد حراكًا وطنيًا ملموسًا، إنه التعليم العالي تحديدًا وكيفية أن يكون متقدمًا الصفوف؛ من أجل علاج مشكلات المجتمع والتعاطي مع قضاياه، الاهتمام بالبحث العلمي وتخصيص ميزانية حكومية تليق بالتحديات التي يواجهها الوطن في ظل أزمات اقتصادية عالمية يؤشر إليها الخبراء وجهابذة العلوم المالية، والمؤسسات النوعية في العالم المتقدم منذ بضعة شهور.
كيف يمكن لمجلس النواب القادم مواجهة هذا التحدي؟ السؤال كبير ومطروح ويحتاج لحوار مفتوح بين النواب والشوريين وأصحاب الكلمة العليا في إدارة شئون المال والاقتصاد في البلاد، حوار برلماني حكومي يشارك فيه المتخصصون، والممارسون، وصناع القرار، بالإضافة إلى الباحثين والعلماء والأكاديميين في الجامعات، ولا ضرر ولا ضرار لو كانت هذه الحوارات مفتوحة على كل من يدلي بدلوه من المتخصصين المخضرمين في إدارة الأزمات وتجنب تداعياتها.
إنه الحوار الوطني الكبير الذي ننتظر أن ينطلق هذه المرة من تحت قبة البرلمان، حوار يقوم على تكريس العلم ليكون في خدمة المجتمع، وعلى تأسيس مرحلة جديدة من النهوض بالعملية التعليمية حتى نواكب بها المتغيرات ونواجه بها أعتى وأشرس التحديات.
لن أضرب أمثلة عن دور العلم في الارتقاء بالنماء المستدام، في مواجهة أسرار الطبيعة المتغيرة، والانتصار على غدرها الرهيب، ولن أكون مبالغًا لو قلت إننا بالعلم وحده نستطيع أن نمر من هذا النفق الطويل نحو آفاق أكثر رحابة واتساعًا لكي يدلي الجميع بدلوهم في تلك القضية الاقتصادية والعلمية الكبرى.
يقولون: طالما النفط سيرتفع فلا مشكلة، وهنا أؤكد بأن ارتفاع النفط يضاعف التضخم، ويزيد “الطين بله”، ويضعنا جميعًا أمام التحدي الأكبر، كيف نستفيد من الوفورات وتعظيم الفائدة منها؟ ماذا يمكن أن نقدمه للمواطن وتحت أيدينا عجزًا في الموازنة يتحول بأمر الله إلى فائض؟ ثم كيف نواجه الإنفاق القليل بمضاعفته على البحث العلمي والارتقاء بالجامعات ودعمها وتذليل العقبات من أمامها؟ هذا هو السؤال الأكبر أيضًا ونحن أمام دورة نيابية محتشدة بالأماني، مثلما هي مدججة بالقضايا والمشكلات.