+A
A-

أحمد جمعة.. أدخل الرواية العربية إلى أرض جديدة وأخرجها من لعنة العزلة

عودنا الزميل الأديب والكاتب القدير أحمد جمعة أنه دائم الانشغال في عمله ولا يعير اهتماما إلى الجمهور ولا يهمه من الذي يقرأه أو ما آراؤه تجاه عمله، المقياس الوحيد الذي يزن به درجة الإتقان في عمله هو شعوره الشخصي بالارتياح عند مطالعته. الكاتب يحتاج إلى ثلاثة أشياء، تجربة، ومراقبة، وخيال، وأي اثنين بل أحيانا أي واحد من هذه الثلاثة كفيل بأن يعوض عن حصة المفقود منها، وأحمد جمعة يبهرنا بتجربة الثرية وخياله الواسع في جميع رواياته وقصصه، فهي روايات مكتوبة بقوة خارقة ولا يمكن أن نطلق عليها إلا أعمالا إبداعية عميقة وأصيلة، فبالمهارة العظيمة يكشف أحمد جمعة للقارئ العالم الداخلي لأبطاله ويستخدم جميع الوسائل الفنية ليضفي عليهم السرور أو الألم، والحب والأسى.
من خلال اطلاعي على روايات أحمد جمعة" بيضة القمر، قمر باريسي، الخراف الضالة، يسرا البريطانية، رقصة أخيرة على قمر أزرق، خريف الكرز، حرب البنفسج، وغيرها" يمكننا القول إنه يريد أن يقول لنا إن الطريق لا يزال مفتوحا أمام الإنسان ومازال عليه واجب البحث الأبدي في عالم الزمان والإرادة والتقهقر.
روايات أحدثت انقلابا مثيرا يبعث بفضل طبيعته الفريدة في عالم التجربة الأدبية، فماذا يمثل الأدب إن لم يبلغ ذلك الانقلاب الداخلي؟ أحمد جمعة تخطى كل المفاهيم القديمة في الرواية العربية، وخلق لغة جديدة فتحت الطريق الواسع أمام الباحثين والنقاد، وهذا ما جعل أعماله الروائية تترشح بصفة مستمرة إلى أهم وأكبر الجوائز العربية والدولية – فرع الرواية- وهذا يكفيه فخرا بأنه من أكثر الأدباء الخليجيين ترشيحا لنيل الجوائز، مع أن الجوائز وكما يقول جان بول سارتر ليس مقياسا لتوصيل شيء من الحقيقة الكامنة في نفوسنا.
الرواية هي الحرية أولا بأن تمدنا بشواهد تنحتها من عظم الواقع ولحمه، لا لكي تكرر لنا ما نعرفه، بل لكي تنبهنا إلى أننا لا نعرف حقا، وأن الواقع هو أعقد وأعمق مما تقدمه لنا حواسنا المفتحة على الأضواء والظلال، وما يفسره لنا وعينا الآلي المحذر. واستطاع أحمد جمعة أن يدخل الرواية العربية إلى أرض جديدة ويخرجها من لعنة العزلة - إن صح التعبير - بالأسلوب الشفاف والصورة القريبة الصادقة والتجربة الفريدة، ففي روايته الأخيرة "القرنفل التبريزي..أبو العلاء المعري وخليله" شعرنا برغبة عارمة في أن نلمس بيدنا كل شيء، وأن نرى كل شيء، أن نمشي في الوحل مع المعري بلا طريق إلى ما وراء الوهدة الواسعة..
يصور أحمد جمعة المشهد بما يلي:
"عندما عدت من رحلة تأملي القصيرة بصومعة أبي العلاء المعري التي شيدتها في رأسي، بعد فقداني الاتصال به منذ أن أغلق على نفسه الضريح، وهجر معرة النعمان، وبعد أن استوطنت غربان البين إدلب وديار الشام. ولم تنتش فيها قرنفلة التبريزي، منذ ذلك الحين، لجأت إلى الذكريات البيضاء كالثلج لإزاحة صور الوضع الراهن الموجعة، تذكر رحلتي مع تغاني إلى مرتفعات الثلوج بشتاءات الشام إبان الدراسة، استذكرت قمم الثلج بجبال كومو التي يلفها بساط ثلجي خفيف، يترك مساحات خضراء، فتبدو كلحية بيضاء تكسوها بقع سوداء!
أعود بذكرياتي هذه الساعة للتخفيف من وزن صخرة هائلة، أحملها فوق ظهري وأصعد بها قمة جبل الوجود الذي وضعني الساعة، بيد ندا الحساني، في خدعة وجودية لم تكن واردة على البال بالمطلق. هل استفدت من رحلة البحث عن ومضة ضوء بمعرة أبي العلاء؟
نعم ولا! تفاصيل الأمس تختلف عن تفصيل اليوم وحذافير الغد. عليَّ الآن عبور طريق طويل وشائك ومدم مع ندا الحساني وتحمل الصخرة التي فوق ظهري؛ لأن هناك منعطفا آخر يؤدي إلى غير هذا النفق الذي لابد لي للمضي في تضاريسه، لعل ثمة نقطة ضوء في نهاية هذا النفق".
إن القارئ لأدب أحمد جمعة سيدرك أنه أمام ثورة على التقليد المتعارف عليه في فن وتقنيات الرواية.