العدد 4569
الأحد 18 أبريل 2021
banner
الحرية الفكرية.. الطريق إلى العلم والمعرفة والتقدم والرقي
الأحد 18 أبريل 2021

منذ بداية عهد الخلفاء الراشدين (رضي الله عنهم) وحتى نهاية الخلافة أو الدولة العثمانية مع بداية القرن الماضي، انشغل العرب والمسلمون في حروب الردة، وفي الخلافات والاقتتال والمواجهات المسلحة والصراع على السلطة فيما بينهم، لكنهم تمكنوا أيضًا وفي الوقت نفسه من نشر الدعوة، والانتصار في غزواتهم وحروبهم، وفتح البلدان والأمصار، فتهاوت أمام زحفهم الأنظمة والدول والإمبراطوريات التي كانت سائدة وقتها، ونجحوا نجاحًا لافتًا باهرًا في توسيع رقعة الدولة الإسلامية وتمديد حدودها ونفوذها، وحققوا ازدهارًا اقتصاديًا وثراءً ماديًا وسياسيًا في وقت قياسي لم يشهد مثله  التاريخ من قبل ولا من بعد، إلا أن الدولة الإسلامية لم تعش عصرها الذهبي، ولم تتمكن من تحقيق التقدم العلمي والرقي الحضاري بمعانيها الحقيقية إلا خلال فترة حكم هارون الرشيد وابنه المأمون في حقبة الخلافة العباسية.

إن السردية التاريخية العربية والإسلامية في كثير من رواياتها وصفحاتها وفصولها تصف هارون الرشيد بأنه مولع باللهو، منغمس في الشهوات والذات والنزوات، وشديد القسوة والبطش والتنكيل بخصومه، وعلى خلاف هذه الروايات، أو على الرغم منها ومع افتراض صحتها، فإن التاريخ يشهد بأن مسيرة التقدم والرقي الحضاري للدولة الإسلامية قد بدأت في عهده عندما وضع أهم قواعدها بتأسيس “بيت الحكمة” كأول دار كتب عامة ظهرت في الإسلام، وأمر بأن يجمع فيها تراث الحضارات القديمة وكتبها المتنوعة، والمخطوطات بمختلف اللغات، واهتم بشكل خاص بجمع كتب الطب والفلسفة والفلك والعلوم الإنسانية، وجعل على الدار مشرفين من العلماء، أجزل عليهم الهبات والعطايا، وكان يجلهم ويقدرهم، وعيَّن فيها المترجمين ووضع على رأسهم العالم والمترجم الموسوعي المشهور وقتها جون أو يوحنا بن ماسويه، إلى أن أصبحت دار الحكمة مركزا للبحث العلمي، وتنوعت أقسامها بين الترجمة والنسخ والتأليف والتجليد، وكان لها أثر كبير في نقل العلوم والفنون والآداب والفلسفة وأسس الحضارة للعرب والمسلمين.

وقد بلغت الخلافة الإسلامية أعلى مكانتها الحضارية والسياسية على مستوى العالم بأسره في ذلك الوقت في عهد ابنه المأمون الذي واصل مسيرة والده ودفع بعجلة الرقي والتقدم بوتائر أسرع بحيث شهدت الدولة الإسلامية نهضة حضارية وتألقًا علميًا وفكريًا، وازدهارًا في حقول العلوم والفنون والآداب.

وقد كان لدى المأمون شغف بالفلسفة والعلم والفلك والرياضيات والهندسة إلى جانب اللغة والشعر والأدب، وكان يختلف ويمتاز عن  أبيه بإيمانه الراسخ بمبدأ الحرية الفكرية، والانفتاح على الفلسفة، وكانت تتردد في مجلسه دائمًا أسماء وأفكار كبار الفلاسفة مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو.

وقد أطلق المأمون حرية التعبير أو حرية الكلام للباحثين وأهل الجدل والفلاسفة، فشجع المناظرات والحوارات والعصف العقلي في المسائل الدينية كوسيلة لنشر العلم وإزاحة التخلف والجهل، وكانت المناظرات بين العلماء والمفكرين في مجلسه قائمة على الحجج العقلية والمنطقية واحترام الرأي الآخر، ويروى أنه كان يزن بالذهب كل كتاب قيم جديد يُكتب في عصره، ويمنح الذهب إلى مؤلف ذلك الكتاب.

كما شجع المأمون العلماء على البحث والاجتهاد في أمور تتخطى حدود العقل وتفكيره السائد، أو كما يطلق عليه اليوم “خارج الصندوق”، ما أدى إلى انتشار الفكر الاعتزالي الذي يُعلي من قيمة العقل، ويجعله حكما على النص من دون حدود أو قيود. وبذلك اختلف عن فكر السلفية الذين استخدموا العقل وسيلة لفهم النص وليس حاكما.

إن هذا الطرح لا يعني أننا نتجاهل أو نتغاضى عما اقترفه وفعله الرشيد والمأمون مع من رفض الانصياع والخضوع لهما أو خالفهما في الرأي، فقد زج الرشيد بإمام الشيعة موسى بن جعفر الصادق في السجن بعد خلاف نشب بينهما، إلى أن فارق الحياة في غياهب زنازينه المظلمة، وبعد أن انضم المأمون إلى تيار المعتزلة وآمن بنظرية “خلق القرآن” وجعلها عقيدة رسمية للدولة وسعى إلى فرضها بالقوة والإكراه على جميع المسلمين، وتتبع وهدد كل رافض أو منكر لها بالتنكيل والقتل والسجن، بحيث عرفت هذه المرحلة بـ “محنة خلق القرآن”، وكان أبرز مَن تعرّض للاضطهاد والتنكيل والجلد والحبس لرفضه هذه المقولة هو الإمام أحمد بن حنبل، الذي قضى أكثر من عامين ونصف العام في سجون العباسيين.

هذا في جانب، أما الجانب الذي أردنا التركيز عليه في هذه الوقفة هو التأكيد على عدم صحة القول بأن التقدم الفكري والعلمي والفلسفي والثقافي والحضاري يأتي على حساب المعتقدات الدينية، وأنه بطبيعته يتناقض معها كما يحاول أن يروج البعض، ففي الوقت الذي ازدهرت فيه حركة التأليف والترجمة والعلوم الانسانية والفلسفية وعلوم الطب والفلك والرياضيات والهندسة وغيرها في عهد هارون الرشيد وابنه المأمون، فقد ازدهرت في الوقت نفسه علوم الكلام والحديث والفقه الإسلامي، وولد علم تفسير القرآن وفصله عن علم الحديث، وانبثقت مظاهر التنوع والتعدد في الفكر الإسلامي، فظهرت في الفقه مدرستان كبيرتان هما مدرسة أهل الرأي في العراق ومدرسة أهل الحديث في المدينة المنورة، وقد ولدت أيضًا وترعرعت المذاهب الاسلامية السنية الأربعة في كنف الدولة العباسية، وعاصر هذه الحقبة أئمة الفقه الأربعة أبوحنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل.

كما عاش في الحقبة ذاتها عدد من أئمة المذهب الشيعي الاثني عشري وفي مقدمتهم الإمام جعفر بن محمد الصادق، أكبر مؤسسي الفقه الشيعي والذي نسب مذهب الشيعة الإمامية إليه، فسمي بالمذهب الجعفري، وقد حظي الإمام الصادق في تلك الفترة بمكانة مميّزة من العلم عند أئمة مذهب أهل السنة والجماعة، فقد روى عنه مالك بن أنس، وعدّه أبو حنيفة أعلم أهل زمانه.

ونعود إلى عنوان هذا المقال لنؤكد أن التقدم العلمي والرقي الحضاري لا يمكن أن يتحققا بشكل فاعل في أي مجتمع أو أي دولة مهما كبرت وعلا شأنها وارتفعت مكانتها، ومهما توسع نفوذها السياسي وثراؤها المادي وسيطها العسكري، إلا عندما تكون مبادئ الحرية الفكرية معززة ومصانة فيها، والتي من دونها يصعب على العقول التحرر والانطلاق، ويصعب ترسيخ الأسس العلمية اللازمة لتمكين الدول والمجتمعات من اكتساب المعارف وتعظيمها والتي تؤدي بدورها إلى الإنتاج والإبداع وهما سر ومنطلق التقدم والرقي.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .