د.نادر كاظم: القراءة حياة أخرى تضاف لأعمارنا القصيرة
د.نادر كاظم أكاديمي وكاتب وناقد ثقافي من البحرين. حاصل، مرتين، على المركز الأول في جائزة الكتاب البحريني المتميز: الأولى في مجال النقد لعام 2003م عن كتابه "المقامات والتلقي"، والثانية في مجال الدراسات الإنسانية والاجتماعية لعام 2004 عن كتابه "تمثيلات الآخر". ومهتم، منذ منتصف التسعينات، بالنظرية النقدية، والنقد الثقافي، والدراسات الثقافية، وله في ذلك العديد من المشاركات في المحاضرات والندوات والمؤتمرات داخل البحرين وخارجها.
وكتب نادر كاظم الكثير من المقالات النقدية والفكرية في الصحافة البحرينية والعربية.
كما أن له دراسات كثيرة منشورة في دوريات بحرينية وعربية، وهو اليوم يركز اهتمامه على قضايا تقع في دائرة واسعة بين الثقافة والهوية والتاريخ والفكر السياسي، وله في ذلك العديد من الكتب منها "لا أحد ينام في المنامة"، و"الشيخ والتنوير" و"المقامات والتلقي" و"تمثيلات الآخر"، و"استعمالات الذاكرة" و"خارج الجماعة" و"لماذا نكره؟".. فكان لنا معه هذا الحديث.
- كيف كانت البداية في مجال التأليف والكتابة؟
البديات الأولى كانت في كتابة المقالات في ملحق "رؤى" الثقافي في صحيفة الأيام، وكان ذلك أثناء دراستي البكالوريوس بجامعة البحرين منتصف تسعينيات القرن العشرين. كانت هذه الفترة مرحلة انتعاش ثقافي في البحرين والجامعة، فلم يكن وجودنا في الجامعة معزولاً عن الحياة الثقافية. وكان هذا عامل تشجع لاستمرار التواصل مع المشهد الثقافي خارج الجامعة. فكانت البداية بالمقالات إلى أن أصدرت أول كتبي في العام 2003 بعنوان "المقامات والتلقي"، وهو الكتاب الذي فاز بجائزة الكتاب البحريني المتميز. وبعد عام أصدرت كتابي الثاني "تمثيلات الآخر"، وأيضا فاز بجائزة الكتاب البحريني المتميز في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، وهكذا تواصلت حياتي مع الكتب حتى آخر كتاب "الشيخ والتنوير".
- هل يمكن القول إنك تأثرت بأسلوب كاتب معيّن سواء على المستوى المحلي أو العالمي؟
الحقيقة لا أدري بمدى تأثري من عدمه، ولكني كنت مأخوذاً بمتابعة ثلاثة كتاب أساسين كانوا يستأثرون بجلّ اهتمامي القرائي وهم: ادوارد سعيد المفكر الأمريكي الفلسطيني المعروف، فكنت مبهوراً به وبكتبه "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية"، و"تمثيلات المثقف" وغيرها. امتلك إدوارد سعيد العمق والإحاطة الشاملة مترامية الأطراف، والروح الإنسانية الجريئة. كل هذه كانت عوامل جعلتني مأخوذاً به، ونعم تأثرت به من حيث مجالات الاهتمام وطرائق الفهم والتحليل حتى إني اخترت موضوع أطروحتي للدكتوراه وأنا واقع تحت تأثير إدوارد سعيد. كتب سعيد عن "الاستشراق"، وكتبت أطروحتي عن "الاستفراق" أو التمثيل العربي للسود الأفارقة. الكاتب الآخر هو عبدالله الغذامي الناقد الثقافي السعودي المعروف. كان الغذامي ناقداً أدبياً مميزاً ويمتلك قدرة استثنائية في تحليل النصوص وتطبيق النظريات الحديثة، ثم شدّني إليه أكثر عندما انتقل إلى مجال النقد الثقافي، وعندئذ شعرت أن هذا هو ما كنت أبحث عنه. لقد فتح الغذامي لنا، نحن نقاد البحرين آنذاك، عبر النقد الثقافي، البوابة التي كنا نبحث عنها للإفلات من مصيدة "النقد الأدبي". والكاتب الثالث هو عبد الفتاح كيليطو الناقد المغربي المعروف. يمتلك كيليطو أسلوباً متفرداً في الكتابة، كان يكتب كتابة نقدية فريدة كما لو كان يكتب أدباً وبجمل قصيرة وفصول تكاد تكون مقالات قصيرة. نعم أستطيع القول إني تأثرت بهؤلاء الثلاثة في بداياتي، ولكن في نهاية المطاف ومع مواصلة البحث والكتابة، يبتكر الكاتب أسلوبه الخاص.
- من أين آتى اهتمامك بتوثيق ذاكرة المكان خاصة أن لتأريخ المكان شغفاً لا ينتهي؟
جاء شغفي بالمكان من شغفي بالتاريخ وإعادة تركيب السياقات التاريخية للموضوعات التي تشغل اهتمامي منذ أن كتبت كتابي "طبائع الاستملاك" و "استعمالات الذاكرة"، و"الشيخ والتنوير"، و "لا أحد ينام في المنامة". وهذا الكتاب الأخير هو الكتاب الذي تكرست فيه على إعادة تركيب ذاكرة المكان، ذاكرة المنامة كمدينة مثلت لي ظاهرة متفردة في تاريخ البحرين، فصغر مساحة المدينة من جهة، وانتعاشها اقتصاديا منذ القرن التاسع عشر إلى ما بعد منتصف القرن العشرين، إلى جانب التنوعات الاثنية والدينية الكبيرة، وقدرة المكان الصغير على استيعاب تنوعات كبيره مثل هذه. كل هذا كان لافتاً لي، وهو مدخلي لتاريخ المكان (المنامة). إن فرادة المكان تحفز أي كاتب.
- ماذا كانت الغاية من كتاب 'لا أحد ينام في المنامة"؟ وما مدى النجاح الذي لقيه الكتاب لدى القراء؟
لم يكن لدي غاية سوى مجاراة فضولي في البحث عن المنامة، ومحاولة استكشاف تاريخ هذه المدينة والأسباب الحقيقية التي أعطت هذه المدينة تفردها وخصوصيتها. هذا باختصار هو الدافع الأساسي، أن استكشف تاريخ هذه المدينة منذ تكونها حتى إزدهارها إلى ما آلات إليه في السنوات الأخيرة كمدينة عتيقة إلى محاولات إحياء المنامة هذه الأيام، وانتعاش بعض مناطقها كمنطقة باب البحرين. أما عن اهتمام القراء فإني أتصور أن هذا الكتاب أكثر كتبي حظاً في هذا الجانب، فقد لاقى الكتاب اهتماماً منقطع النظير من قبل القراء في البحرين وخارج البحرين إلى درجة طبعته الأولى نفدت خلال شهر من صدوره في ديسمبر 2018. وأنا هنا أستذكر بشيء من الفرح الغامر ذلك الاهتمام الذي ناله الكتاب من قبل أهل المنامة الذين تعاملوا مع الكتاب على أنه كتابهم الذي ذكّر الجميع بعظمة مدينتهم وفرادتها.
- قمت بتأليف العديد من الكتب والإصدارات، فأين وجدت نفسك أكثر؟
مع كل ما ألفته، فكل كتاب كتبته كان جزءاً من روحي أوزّعها كتاباً كتاباً. وهنا أريد أصارحك بشيءٍ، فأنا أتحول إلى شخص آخر في فترة تأليف أي كتاب من كتبي، في هذه الفترة أشعر أني أضع جزءاً من روحي في الكتاب. لا يوجد كتاب من كتبي من أول كتاب حتى آخر كتاب، اشتغلت عليه ببرود أو شعرت بملل أو انقطعت فجأة عنه بشيء آخر، فأنا أعمل بشكل متواصل دون انقطاع حتى أنتهي تماماً حين اسلّمه إلى الناشر. كل كتاب كان يأخذني بالكامل إلى درجة أني أشعر بالإرهاق جسدياً لطول مدة الجلوس للكتابة حيث تتقافز عندها الآلام من الظهر إلى أصابع اليدين إلى العينين.
- ما رأيك في تحويل الكتب والروايات إلى أفلام؟ هل يضيف قيمة للكتاب؟ وهل يعتبر الكتاب هو الأساس؟
لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال بنعم أو لا ببساطة. ففي هذه الحالة عليك أن تأخذ كل تجربة على حدة. فالحاصل أن بعض الأفلام قد أضافت إلى الروايات قيمة لم تكن لها، ولكن في أغلب التجارب كانت الروايات أهم من الأفلام. عالم الفيلم عالم مختلف عن عالم الروايات. تعتمد الرواية على الكلمة في السرد والوصف والحوار والتأملات الذاتية، وهذا ما يفتح المجال أمام مخيلة القارئ لتخيّل ملامح للشخصيات والأمكنة، وهو ما تفتقده، على نحو كبر، حين تتحول الكلمات إلى مشاهد سينمائية. نعم هي مشاهد جذّابة ومؤثرة وأخاذة، إلا أن جزءاً كبيراً من روح الرواية يتلاشى، وجزءاً كبيراً من مساحة التخيل أمام القارئ يختفي بتحويل الرواية إلى فيلم. ولربما كان هذا ما يجعل بعض الروائيين الكبار يستاءون حين رأوا رواياتهم العظيمة تتحول إلى أفلام كما حصل مع ماركيز وساراماغو وإمبرتو إيكو. وفي المقابل قد تلعب كفاءة المخرج والممثل وطاقم العمل على تقديم فيلم متميز حتى لرواية غير متميزة.
- هل تشعر بالفخر لما أنجزت من كتب وانتشار تأثيرك على شريحة كبيرة من الناس؟
إذا كان الفخر يعني التباهي والتكبر والإعجاب فأنا بعيد عن هذا النوع من الفخر. نعم أشعر بالرضا عما قدمت حتى الآن، وهذا إحساس نابع من نجاحي في تحدّي نفسي لأتمكن من كتابة 12 كتاب، ومراجعة وتحرير وتقديم ثلاثة كتب مهمة في مدة قصيرة بدأت منذ العام 2003 حتى اليوم في 2021. ومع هذا فأنا لا أدع الإحساس بالتميز أو التفوق تتحكم فيّ، فليس لدي هذا النوع من الإحساس بالتفوق على أحد سوى نفسي. أما من حيث التأثير على القراء فمن الصعب قياس التأثير ومداه، فنحن لا نعرف هل تأثر الناس أو لا، وهل سيتغير شيء في طريقة تفكيرهم أو سلوكهم بعد قراءة كتاب، إلا إذا صارحك أحد القراء بذلك، وهذه حالة نادرة عرفتها أكثر من مرة مع بعض القراء، أذكر أنه بعد صدور كتابي "طبائع الاستملاك"، قدمت محاضرة في الإحساء بالمملكة العربية السعودية، وبعد الانتهاء صارحني أحد القراء بالتالي: "لقد خرجت على التقاعد بسبب كتابك، قرأت ما كتبته عن بناء الدولة وصنع الإنسان المنضبط، فشعر أنني لا بد أن أنقذ نفسي من هذا المصير الذي رسمته في الكتاب للإنسان المنضبط". كانت هذه حالة نادرة من حالات المصارحة.
- بالتأكيد أضافت لك تجربة القراءة والكتابة الكثير فهل تنصح بخوض هذه التجربة؟
أنا قارئ قبل وبعد أن أكون كاتباً، فأنا واحد من الكتّاب الذين لا يستغنون عن القراءة أبداً، وأقرأ في كل مجال من المجالات، أقرأ الكثير من الروايات، وكتب الفكر والفلسفة والتاريخ والاجتماع والأنثروبولوجيا، وحتى كتب البيولوجيا والطب، وكان واحداً من أعظم الكتب التي قرأتها في حياتي كتاب في الطب وفي تاريخ مرض السرطان بعنوان "إمبراطور الأمراض" لسيدهارتا موخيرجي. إذا أردتني أن أعرّف القراءة فسأقول هي حياة أخرى تطيل عمري، فكل كتاب أقرأه يضيف لي عمراً فوق عمري القصير. كان الجاحظ يقول إن "القراءة هي عقل غيرك تضيفه إلى عقلك". القراءة هي أنبل أنواع الاستغلال، تخيّل كاتباً قضى عشر سنوات وهو يؤلف كتاباً، ثم يأتي قارئ ما ليهضمه في أسبوع، عشر سنوات من البحث والتعب ومحاولة فهم موضوع ما، كل هذا من أجل أن تقرأه أنت في أسبوع.
- في ضوء انتشار الروايات، هل تنصح بالاكتفاء بقراءة الروايات أو الاتجاه لأنواع آخرى لاثراء المحتوى؟
فيما يتعلق بالانتشار الحاصل للرواية، فهذه ظاهرة جديدة وترجع لعوامل متعددة مثل التوسّع فيما كانت تسميه مدرسة فرانكفورت بـ"صناعة الثقافة"، بمعنى أن إنتاجات الثقافة أصبحت تعامل كما تعامل أية سلعة أخرى، أي من أجل الربح، فحتى تربح من وراء إنتاج سلعة ما فإن عليك أن تنتج بكميات كبيرة ليكون المشروع ناجحاً تجارياً، ولكن لمن ستنتج كل هذه الكميات الكبيرة من السلعة؟ ليكون الكتاب سلعة مربحة ينبغي أن يبيع بكميات كبيرة، وحتى يبيع بكميات الكبيرة فإن علهي أن يستهدف عامة الناس لا نخبة المثقفين وهم القرّاء الاعتياديون تاريخياً للكتاب. وهنا ستواجه مشكلة أخرى، وهي أن عامة الناس ليس لديهم الوقت الكافي ولا القدرة المتخصصة لقراءة كتب متخصصة أو نخبوية، وهذا يعني أن تخصيص النشر للكتب والروايات سهلة الاستيعاب والهضم فضلاً عن المتعة التي تحققها للقراء الذين يقرأون الرواية وكأنهم يشاهدون فيلماً سينمائياً. كان منظري مدرسة فرانكفورت يعتقدون أن إنتاجات الثقافة الشعبية، والرواية اليوم نموذج للثقافة الشعبية واسعة الانتشار بين الناس، ليس فقط رديئة، ولكنها ضارّة أيضاًن فمن يتعود على سلاسة الروايات العاطفية والاجتماعية لن يستسيغ قراءة كتاب فكري أو فلسفي يقدم العمق على السلاسة. وأنا من حيث المبدأ أؤمن بأن من حق كل إنسان أن يقرأ ما يريد و ما يلبي احتياجاته، وأنهم أحرار في تفضيلاتهم القرائية، ومن منطلق هذه الحرية فأنا لا أتخيّل نفسي حبيس قراءة الروايات فقط، ثمة جمال وعمق ونفاذ بصيرة وآفاق أوسع في مجالات أخرى غير الرواية، وأنا لا أحرم نفسي من هذا أبداً.
- هل تعتبر الكتابة مهنة أم هواية و لماذا؟
الكتابة بالنسبة لي ليست هواية إذا كنت تقصد بالهواية أنها نشاط ترفيهي اتسلى به وقت فراغي، والكتابة أيضاً ليست مهنة، فأنا لا أكتب مقابل ان أتلقى أجرأً من وراء الكتاب. من الصعب تحديد موقع الكتابة بين هذين الاثنين الأمرين، فهي حاجة ملحة ولصيقة بك ككاتب، وهذا يجعلها أكبر من هواية، وهي أنبل من كونها مهنة تتلقى مقابلها أجراً. نعم، كان إدوارد سعيد يقول إن المثقف يجب أن يكون هاوياً لا محترفاً، وكان يقصد أن المثقف لا ينبغي له أن يتلقى أجراً بحيث يكون كاتباً تحت الطلب، فإذا توقف الطلب والدفع توقفت الكتابة عنده. المثقف الهاوي، عند سعيد، هو المثقف يقوده شغفه بالكتابة. فاذا كان للكتابة كل هذا الشغف فهي أكبر من كونها هواية أو نشاطاً عابراً للتسلية وتزجية الوقت، الكتابة على الضد من ذلك، تأخذ منك الوقت، وتمنحك التعب والمشقة في أحيان كثيرة. نعم هي تعطيك الوقت ولكن بعد أن تموت بحيث يستمر جزء منك يواصل الحياة في كتبك.
- من هو الكاتب الناجح؟ وهل هناك معيار للنجاح مثل عدد المبيعات أو شي آخر؟
لا تستطيع تحديد معيار النجاح بشكل صارم. نعم إذا كنت تريد معرفة الكاتب الرابح تجاريا فإن مبيعات الكتاب معياراً مهماً. لكن النجاح التجاري ليس هو النجاح الحقيقي للكتاب والكاتب بكل تأكيد. أما بقية معايير النجاح فلا يمكن أن تكون إلا معايير نسبية. قد يقول أحدهم إن مدى العمق في التحليل هو معيار نجاح الكاتب، ومع هذا، فكيف تحدد المعنى الدقيق لمدى العمق هذا؟ ما تراه أنت عميقاً قد يراه آخر سطحياً، وعلى هذا فما تراه أنت نجاحاً للكاتب يراه غيرك فشلاً. قد يقول آخر إن رأي مجموعة معينة من النخبة هو ما يحدد نجاح الكاتب أو فشله مثل ما يحصل في تقييم الأفلام أو تحكيم الجوائز الأدبية، فاذا ارتضينا هذا المعيار ممكن أن نعطي المهمة لهؤلاء النخبة. إلا أنه ليس عليك أن تنتظر إجماعا من جميع الناس على رأي هذه النخبة. أما على المستوى الشخصي فأنا أرى أن معيار النجاح ذاتي بالدرجة الأساس، فإذا استطاع الكاتب يكتب ما يريد بالصورة التي يريدها، فهذا هو النجاح الحقيقي للكاتب.
- كيف هي الكتابة اليوم؟ هل هي بصدد التجربة أو النشر؟
حجم الكتب التي تصدر عربيا زاد خلال العقود الأخيرة، فتضاعف حجم المطبوعات العربية على نحو كبير. تاريخياً كانت الكتابة امتياز النخبة، بما إن عدد النخبة في الماضي محدود فإن عدد إصداراتهم كان محدوداً أيضاً. ما يحصل هذه الأيام ليس تضاعف عدد النخبة فقطن بل إن الكتابة أصبحت تلبي حاجات أخرى لم تكن أساسية في الماضي، كان نشر الكتاب سابقا مسألة صعبة ومحاطة بتدقيقات وتهيب من قبل الكاتب والناشر معاً، فليس كل ما يكتب يمكن أن يجد طريقه إلى النشر. كانت جدية الكتّاب تتواءم مع جدية دور النشر. أما اليوم فتغيّر كل هذا، هناك اليوم استسهال كبير في عملية النشر، فعندما تحوّلت دور النشر لتكون شركات تجارية بحتة، صار بإمكان أي شخص أن يكون كاتباً إذا استطاع أن يدفع تكلفة طباعة كتابه. الموضوع الآخر يتعلق بدواعي النشر هذه الأيام، أصبح النشر مورداً رمزيا من موارد الرأسمال الرمزي والثقافي، ولهذا يقبل الكثيرون على نشر الكتب طلباً للمكانة الاجتماعية، ومع كل هذا، ففي نهاية المطاف، سيستمر الكتاب والنشر، وعلى الزمن أن يقول أن يقول حكمه على الجميع.
- هل ترى أن الهدف من الكتابة هو التأثير على القارئ أو تغييره مثل ظاهرة تحول القراء لكتّاب أو readers became leaders
الكتابة في الأصل حاجة ذاتية لأي كاتب حقيقي. فنحن نكتب لأنفسنا في محاولة لفهم موضوع ما أو استكشاف عالم ما أو عيش تجربة ما كتابياً، كان ثيودور أدورنو، مثلاً، يقول" بالنسبة للإنسان الذي لم يعد لديه وطن، تصبح الكتابة مكاناً له ليعيش فيه". فالكتابة مسألة ذاتية، لكن النشر مسألة أخرى، نحن نكتب لأنفسنا، لكننا ننشر للآخرين، أما ما الغاية من وراء النشر. فإني أتصور إن الغاية هي توريط القارئ معنا في التجربة. النشر هو رغبة منا في إشراك القارئ معنا فيما كتبنها لأنفسنا.
- ما رأيك في التجدد الذي حصل من خلال استخدم الكتب الالكترونية والكتب المسموعة ومراجعة الكتب، هل تغني فعلا عن الكتاب الورقي؟
لا أتصور أن المسألة مسألة استبدال شيء بشيء بالضرورة، بل هو إعناء للكتاب الورقي وتكثير حياته عبر حيوات أخرى، فالنشر الإلكتروني والمسموع يضيف إلى الكتاب الورقي أكثر مما يضره. سابقاً جرى الحديث على أساس أن الكتاب الورقي سينقرض مثل عربات الخيل بعد اختراع السيارات، وهذا ما لم يكن مع الكتاب الورقي. لهذا أقول إن التطورات في مجال النشر الإلكتروني والسمعي تضيف إلى الكتاب الورقي وتغنيه وتوسع حضوره، سابقاً، على سبيل المثال، ما كان بالإمكان قيادة السيارة وقراءة كتاب ورقي، فجاء الكتاب الصوتي لتلبية هذه الحاجة.
- هناك الكثير من عناوين الكتب التي الفتها مصاغة بصيغة السؤال مثل "لماذا نكره؟"، و"لماذا الحرب؟"، فهل هي لدفع فضول القارئ لمعرفة السبب و الاجابة أم لتغيير اعتقادته؟
عادة ما أضع عناوين كتبي بعد الانتهاء من تأليف الكتاب كاملاً، لا أعرف كيف يتولد العنوان في ذهني، لكني أحرص على أن يكون مختصراً وواضحاً وبالتأكيد له صلة بالموضوع ويبعث على التفكير، وهنا اضع نفسي مكان القارئ، وأحكم على عنوان كتابي كما لو كنت قارئاً.
- هل من الممكن إعتبار القارئ المعيار الاساسي لوجود الكتاب، ففي حال عدم وجود قارئ لا يوجد كتاب؟ أو أن هناك معايير وعوامل أخرى؟
قلت منذ قليل إن الكتاب يكتبون لأنفسهم، لكنهم ينشرون للآخرين، وهذا يعني أن حياة الكتاب مرهونة بقراءته، فالقارئ هو الذي يمنح الكتاب فرصة الاستمرار والبقاء، إلا أن هذا لا يعني القراء المباشرون، بمعنى إن إذا صدر كتاب معين ولم يقرأه أحد في وقته، فهذا لا يعني موت الكتاب ونهاية مصيره، لأن من الممكن أن يأتي قراء مستقبليون يجدون في هذا الكتاب ما لم يجده قراؤه المعاصرون، فنحن لم نكتشف قيمة كتاب مثل "ألف ليلة و ليلة" إلا في العصر الحديث، ومؤلفات نيتشه وشوبنهاور وآخرين لم تلق نجاحاً في زمنها، لكنها منذ منتصف القرن العشرين وهي تتربع على قائمة الكتب الخالدة في تاريخ البشرية. هذا ما اقصده عندما أقول إن القارئ المعاصر ليس هو الحكم النهائي على قيمة الكتاب. الأمر الآخر هو القراء متفاوتون من حيث مستوياتهم في الفهم، فكثيرا ما يفاجأ الكاتب بفهم مغلوط لكتابه!
- من المؤكد أن تأليف الكتب إنجاز تفخر به، ولكن هناك دائما خصوصية لأول كتاب ألفته، فهو البوصلة التي ستمشي عليها، فما هو رأيك؟
الكتاب الأول تجربة استثنائية بكل تأكيد، فهو مثل الوقوع في أول تجربة حب في حياتك، ومع هذا، فإن هذا لا يكتب مصير الكتب الأخرى، كما أن فشل تجربة الحب الأول أو نجاحها لا تعني فشل تجارب الحب أو نجاحها في المستقبل، فكذلك الأمر مع الكتاب الأول، ومع الزمن تكتشف أن الكتاب الأول ليس وحده الذي يمتلك المكانة الاستثنائية، إنما كل كتاب يصنع خصوصيته الاستثنائية.
- هل تؤيد القراءات الجماعية أم لا و لماذا؟
القراءة بالنسبة لي تجربة فردية، فأنت تحتاج أثناء القراءة أن تكون لوحدك وفي جو من الخلوة يسمح بالتأمل وقراءة السطر أكثر من مرة، كما يسمح بتدوين الملاحظات ووضع الكثير من الخطوط تحت الفقرات. وأنا لا أتخيل أن هذا ممكنا مع القراءة الجماعية، إلا إذا كنت تقصد النقاش الجماعي حول كتاب قرأه أكثر من قارئ كل على حدة، فهذا النوع من النقاشات مهمة لما فيها من إثراء وتنويع زوايا الرؤية والفهم.
- هل هناك اعمال قادمة
هناك كتاب سيصدر قريبا بعنوان "تاريخ الأشياء"، وهو يؤصّل لنوع من الزمن أسميه زمن الأشياء. فقد اعتدنا على التاريخ لزمن البشر والجغرافيا، إلا أننا لم نلتفت كثيراً إلى تاريخ الأشياء التي صنعها الإنسان والتي تبقى بعد موته، وتغيّر حياتها إلى الأبد. أكتب عن هذا الزمن من خلال أشياء أراها مهماً في البحرين.
- ما هي رسالتك للقراء
أنا جزء من مجتمع القرّاء، فعندما أقول لهم شيئاً فأنا أقوله لنفسي أولاً: لا تتوقفوا أبداً عن القراءة، لأن الحياة قصيرة، والقراءة حيوات أخرى تضاف إلى أعمارنا القصيرة.