العدد 3574
السبت 28 يوليو 2018
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
الغريفي من الغرفة إلى الغوارف!
السبت 28 يوليو 2018

عشت مع السيد عبدالله الغريفي أشهرا في سوريا في سنة 1995 وأعرف السيد عن قرب، قرأت تفاصيله وخريطة تضاريس تفكيره المطعّمة بنكهة أفكار المرجع السيد محمد حسين فضل الله.

كان رجلا أكثر انفتاحا، وذا مرونة سياسية. كان عمري حينها 25 عاما، وكنت أشبه بقنبلة موقوتة سياسيا، ومتوترا كفهد افريقي بما تحكمه مرحلة العمر من توتر شبابي ينضح حمما ودخانا.

عمر أشبه بطنجرة بخار بسبب تتبيل “سبايسي” السياسة. كنت كما الآن، إذا آمنت بفكرة، تخالط دورتي الدموية، إلا أن الفارق أن اليوم تضرب مضاربها بعقلي بمنهج فلسفي، وواقعية مقاتلة، وبالعناد ذاته.

بالنسبة إلي، عشت في مراهقتي الفكرية، قريبا من فكر المرجع فضل الله، وقرأت كتبه، وتفسيره “المودرن”، وأنا في عمر الـ16.

وكنت معجبا في طريقة فلسفته للحياة، وانفتاحه على الشعر والموسيقى والفقه الميسر عند الكهولة.

كنت أرى في السيد الغريفي امتدادا لقناديل فكر فضل الله، أحمل أملا أنه يملك ذات الإيقاع البركاني للسيد، باعتبار أن فضل الله شخص كان دائما يمشي بجوار العاصفة وبين أسنانها، ويمتلك علاقة كنسية مع الطوفان. مفكر نقدي، ويمتلك قدرة على تكسير “التابوات” المحرمة، وليّ عنق الموروثات، وإزالة أتربة التخلف من على سجادة التاريخ.

كنت أتساءل: هل الغريفي سيقود انقلابا فكريا إصلاحيا للثقافة الشيعية في البحرين، في أفكار التعاطي مع السلطة، ويخرج الناس من فكر المقاطعة والتوتر والفكر الثوري اللاواقعي الذي عادة ما حول الواقع من الدخول في التحالفات إلى الصراخ على هامش رصيف سياسي معزول؟

السيد الغريفي يمتلك ابتسامة قلما تكون موجودة في رجال الدين وأخلاقا تتدلى منها اكسسوارات محبة ومرح، ومرونة في القدرة على القفز على الألغام، وقيما أخلاقية لا تحتاج إلى عبقرية لاكتشافها من أول لقاء.

كان الأمل أن يكون هناك فضل الله جديد في البحرين، لكن بنكهة وطنية بحرينية وملامح غريفية. المفاجأة أن السيد الغريفي ذا القدرات المرنة، والفكر المنفتح ظلم إمكاناته، وتاريخه، وترسانة فكره، وحجز له مقعدا في زاوية مركونة في زقاق فقهي ضيق، متواريًا عن طرح قناعاته المنفتحة، والواقعية عند المنعطفات المصيرية التي تمر بها البلاد!!

كثيرا ما كنت أسائل نفسي، ما الذي جعل السيد صامتا عند المنعطفات، وملتحفا بلحاف الصمت، أو مقزّما دوره في دفتر أحمر يروج فيه لزهد الحياة، في وقت الساحة السياسية، كانت تلّح عليه، وتستدعيه بإنقاذ موقف ولو مناصحة بلا فيتامين؟؟

لم يكن هناك من مبرر للصمت إلا الخوف من عفريت الجماهير الهائجة، والمعبأة بهياج الرومانسية الثورية، التي قادت في نهاية المطاف إلى كل تراكمات الخيبات، وتكدس الجروح واكتئاب الأمل.

الرمز الشعبي يجب أن لا يوفر آراءه الحساسة، أو قراره التاريخي ساعة إلحاح اللحظة التاريخية على البوح، والتوسل بحزن لإبداء رأيه، ولو بكلمة خجولة لإنقاذ وطن أو إيقاف أمة تصر على الانتحار أو الهرولة راقصة للمسلخ السياسي دون أن تجد رمزا منقذا يمنعها من الانتحار الجماعي.

وهنا يأتي سؤال مهم بعد كل التراجيديات التي حدثت، وانتحار الأماني وانتشار دخان الاكتئاب السياسي في كل زقاق، وعلى عتبة كل بيت، ووسط مقبرة كل قربة، ماذا لو امتلك الغريفي الجرأة، وقال للناس في انتخابات 2002، بالله عليكم لا تقاطعوا، بل شاركوا في الانتخابات!! في السنوات الأربع تكدست ملفات ساخنة وجروح متورمة. ومضت السنون، وكان أداء المشاركة لجمعية الوفاق يخلو من خبرة التعاطي مع السلطة أو صناعة التحالفات مع المواقع المرنة من السلطة.

حتى جاءت 2011، وكارثية “الدوار”، وفي الوقت ذاته كان السيد إما صامتا أو مسافرا بحقيبة تلح عليه عند المنزلقات. وراحت جمعية الوفاق مصرة على الاستقالة الجماعية محاولة أن تحجز لها مقعدا مع رومانسية الثوريين، ومخافة خسران عدد كبير من الجماهير، والرصيد البنكي لبطاقات ائتمانية شعبية الجمهور، وهنا بقي الغريفي في غرفته السياسية يغرف غرفة حزن إضافية من بحيرة التاريخ المسكونة بسمك الخيبة.

كان “الدوار” أشبه بمصيدة زمن ولعنة حظ وزعت بالتقسيط في سندويشات الزمن المسمومة، ضعف فيه الجميع والخاسر الأكبر هم المعتدلون، سواء من السلطة أو المجتمع، وكان الطريق إلى تعملق وتفريخ خطوط متشددة تعتاش على ثقافة الإلغاء والتعميم المطلق.

ففي عمق الجماهير من يرى كل شيعي مع السلطة خائنا حيث شاعت ثقافة التخوين، ضعف خط الاعتدال من كلا الجانبين، وتباعدت المسافات المسكونة سلفا بتاريخ متوتر غبي مسكون بالنوم على سرير الماضي البعيد.

وجاءت فرصة انتخابات 2014 كمرحلة للتوبة السياسية من أخطاء الماضي، إلا خطأ المقاطعة فاجعة الفواجع كان سيد الموقف، وهنا أيضا بقي الغريفي في غرفة كان بإمكانه لو نطق لجعلها غوارف زلال، واستبدال كل غرفة صمت، 100غرف انفراج.

2018 كانت اللحظة المتأخرة، لكن أخيرا خرج السيد الغريفي ذو السلالة الذهبية من آل هاشم وآل نزار مبادرا.

مرحلة الغريفي الصامتة أفرزت هذه المرة سعيا دؤوبا لتدوير الزوايا (الغريفية)، محاولات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من إناء مكسور، وإن كان في نهاية الشوط الإضافي قد تنتهي بركلات جزاء مع الألم ليفوز فريق واحد، اسمه الوطن.

مهم موقف الغريفي، وخطوة في الاتجاه الصحيح، وإن كانت أشبه بعقد علاقة مع الألغام. ولأن الأخطاء تجعلك أكثر حكمة، وواقعية، أصبح لزاما إعادة ترميم العلاقة، تقود إلى حوار مفتوح، دون جعل المتطرفين يخطفون المشهد.

وهنا يجب على كل المعتدلين تعليق الجرس في عنق تمساح الزمن، وأن تسود ثقافة خطاب الصدمة مع الجمهور رضي أو غضب ما دام الهدف خدمة الوطن والجمهور، وإن اكتشف ذلك متأخرا. سيدنا العزيز الغريفي، دع الغرفة والتحق بالغوارف!!

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .