العدد 2792
الإثنين 06 يونيو 2016
banner
اليوم الاثنين... ماذا يعني؟
الإثنين 06 يونيو 2016

ربما يكون هذا اليوم (الاثنين) الذي يُنشر فيه هذا المقال، أول أيام شهر رمضان المبارك لهذا العام، أو ربما لا يكون، لا يهم، فالأيام كلها تتشابه إن فقدت بريقها ورونقها وقدرتها على الإدهاش والإمتاع والمؤانسة (نعم إنه عنوان كتاب شيخنا أبي حيّان التوحيدي)، حيث تتساوى الدقائق بالساعات، والأيام بالشهور، والشهور بالدهور، فليس في إيقاع من لا طموح له، ولا همّة تحركه، ما يجعل الأيام فوارق، ويطيّب الأوقات، ويوشّي السنوات بما يجعل فيها وسماً يميزها.
أتساءل أحياناً عندما كانت حياة الأقدمين رتيبة، ماذا كانوا يسموّن السنوات، حيث لم يكن للتاريخ أي مكان في قاموس الناس؟ فمثلاً: أسمى القريشيون ذلك العام الذي حاول فيه أبرهة الحبشي غزوهم بجيش يتقدمه فيل بـ “عام الفيل”، فما العام الذي كان قبله؟ وما الذي بعده؟ كذلك أسمى أجدادنا الأٌقربون السنة التي أهلكت عدداً كبيراً من راكبي البحر بـ “سنة الطبعة” لأنه كان الحدث الأهم في تلك السنة. الأمر نفسه ينطبق على “سنة الرحمة” التي حصد فيها الطاعون والكوليرا أكثر من 10 آلاف بحريني ما بين 1903 و1907، ثم عادت لتضرب في 1924، ولكن كيف يميّر الناس بين هذه السنوات وما قبلها وما بعدها؟
الدكتور سعد الصويّان، وهو “أكاديمي سعودي وأستاذ علم الاجتماع في جامعة الملك سعود باحث مختص في التاريخ الشفهي والشعر النبطي في الجزيرة العربية”، بحسب تعريف ويكيبيديا، زار البحرين في أواخر الثمانينات ربما من القرن العشرين، وألقى محاضرة في نادي الخريجين فأراد أن يعرّف نفسه، فقال: “وُلدتُ في السنة التي وَلدت فيها نعجتنا...”، كما أخبرته والدته، مثيراً زوبعة من الضحك بين الحاضرين في إشارة إلى أن الناس في منطقته إذا لم يجدوا حدثاً مهماً يسِم ذلك العام، اخترعوا أي حدث، مهما كان اعتياديا، وعابراً، متكرراً، ليجعلوه اسماً لذلك العام.
لا أعرف متى نسي الناس تواريخهم، ولماذا نسوه أو أُنسوه، إذ كان التاريخ أمرا معلوما ومعمولا به منذ آلاف السنوات، منذ الفراعنة، واليونانيين، وكذلك المسلمين الذين أرّخوا السنين والحساب بالهجرة النبوية، وسرت كتب التاريخ تؤرّخ الحوادث باليوم والشهر والسنة، ومع ذلك تأتي القرون اللاحقة، لتنفرط حبات الزمن من أيدينا، وتنقلب الآيات، ليعود الناس من بعد أن كانوا معلمي البشرية لبضعة قرون قليلة هي عمر الحضارة العربية الإسلامية المنتجة، إلى مجتمعات يتفشى فيها الجهل، وتكثر الخرافات، ويخيّم عليها الكسل بكل أشكاله ومناحيه، ويغدو يومهم مثل أمسهم ومطابقا لغدهم، مطمئنين إلى الرتابة، يتوارثون العادات حتى أصبحت ديناً لازماً، ويجري عزل من يسعى في تفكيكها أو الخروج عليها، أو مجرد التفكر في معانيها، ينعمون في بحبوحة من الجهالة، يمكننا تخيل أن أمماً تتقدم وأخرى تتأخر، ولقد رأينا في القرن الماضي كيف انقلبت موازين القوى بين دول سادت لقرون، ثم بادت وأخذت الراية دول أخرى بديلة عنها، ولكن لم يحدث أن غرقت الدول التي ضعفت في مستنقعات الجهل والتخلف، وباتت الكثرة من أبنائها عاجزة عن القراءة والكتابة والإبداع والتغيير والابتكار والخروج عن السقوف المسموكة بفعل ثقافة المجتمع التي يُخشى إن تبدّلت ألا يعود المجتمع ليتعرف على نفسه.
لم يعد الجهل والجمود صنوانا للتعلم والأمية، بل إننا اليوم في وسط يمور بالعلم والمعارف التي تتبدل بسرعة خارقة، وكمّ كبير ومتاح من البيانات والمعلومات سواء في المطبوعات أو تلك الموجودة على الشبكة، وهي أمام الجميع، ولكن الفوارق لا تزال فاجعة بين من يستفيد منها، من يراقبها ويخزّنها، بين من ينتجها وبين من لا يزال يعمل على تعلم تهجئتها علمياً واستيعابها فكرياً، وهذا ما يسمى بالفجوة الكبرى بين الأمم التي باتت على ضفاف أبعد من أن ترى بعضها بعضاً بالعين المجرّدة، وهي لم تكن ذات يوم فجوة معرفية، تتعلق بالعلوم والتكنولوجيا، وإنما الفجوة في الأساس تقوم على عزم الأمم التي تريد الحياة والتقدم، وما أنتجته خلال العقود والقرون الماضية من أنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية وإعلامية وتعليمية، راعت خصوصيتها التي لم تعقها عن الأخذ بالتجارب الأخرى الناجحة بما يلزم، من دون تخوف من انهيار الأنظمة الاجتماعية التي انبنت عليها، بل أوكلت الأمر برمته إلى قوى التغيير، لأن الانتظار من شأنه أن يمرر الكثير من المياه من تحت الجسور الراسخة الثابتة في مكانها، وتعلمت الأمم أنها إن لم تماش التغيير، فالتغيير سيسير مبتعداً عنها، وسيكون من الصعب عليها اللحاق به، وإن فعلت ذلك متأخراً ستصبح غريبة عن ذاتها، لأن التغيير لن يكون طبيعياً وتدريبجاً، وهو الأمر الذي خاضته أمتنا العربية مراراً في شأن التغيير، وفي كل مرة تنكص وتعود وراء النقطة التي انطلقت منها، وهذه واحدة من أمراضنا الفكرية التي لا يمكن لأحدث الملابس والمركبات والأجهزة والتقنيات أن تجمّلها أو تخفيها.
إحداث التغييرات على مستوى الأمم لا يأتي من أطراف منفردة،  فهي مسألة تحتاج إلى الكثير من التوافق في الرؤية بين مستويات الهرم المجتمعي، وانشداد هذا الهرم بطبقاته للوصول إلى المحطات المرجوّة، وهذا يدفع إلى استحداث تعليم متقدم ومحترَم من قبل مؤسسات المجتمع وخصوصاً متخذي القرار فيه، ووجود حريات ذات مدى عال، مفتولة بالمحاسبة والمراقبة، وعدالة تظلل الجميع بسقف متساو، وليس كالخيمة التي ترتفع في أجزاء منها وتلامس الرؤوس في أجزاء أخرى، حتى تتلون الأوقات، وتكتسي الأيام طعماً مختلفاً تزدحم فيها الخطوات الذاهبة سريعاً وبثبات نحو الأهداف.
 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .