العدد 2788
الخميس 02 يونيو 2016
banner
أفضال التفاصيل الصغيرة: وليد بطراوي مثلاً
الخميس 02 يونيو 2016

قديما قالوا: “الشيطان يسكن في التفاصيل”، ربما هذا القول الإنجليزي يُعنى بالمفاوضات والمعاهدات، وهي – كما علّمنا معلمونا الخارجون عن نصوص كتب التاريخ في المرحلة الإعدادية – ما ضيّعت الكثير من الحقوق العربية، وهي التفاصيل التي لم يكن العرب ليلقوا لها بالاً، ولم يكونوا ليدققوا في ترجمتها فيأخذوا الأمور بظواهرها، وفي باطنها من قِبَلها العذاب والويلات.
وإلى اليوم، فالعرب – في الغالب الأعم – لا يُوْلون التفاصيل ولا شياطينها كثير اهتمام. فإن أخذنا الشكل الهرمي للمجتمعات، وجدنا أن الكثرة الكثيرة من عِلية الأقوام في الدول العربية تستريح عند المديح، وتطمئن أنها فعلت أكثر مما يتوجب عليها فعله، وتطرب لسماع المدائح التي تتوالى وتتكاثر وتتوالد وتصبغ الأجواء في أي محفل، وقد يتردد المدّاحون للحظات لنسبة شروق الشمس وغروبها لقياداتها السياسية في الكثير من البلدان، وذلك لكثرة ما انتهكت كلمات المديح الاعتيادية حتى صارت ممجوجة، ولابد من تجديد صيغ الإطراء لتكون مؤثرة.
وهذا الأمر يتدرج طبقة عن طبقة، فكل صاحب مسؤولية تطربه هذه الكلمات الرنانة، وفي البداية يشعر أنها نفاق، ويشعر تالياً أنها مجاملة زائدة نوعاً ما، وبعد مدة يشعر أنها مجاملة معقولة مقبولة، إلى أن يبدأ في البحث عن المديح في ثنايا الكلام، ويصير يطلبه في أي خطاب يُوجَّه إليه، ويصدق ما يقال فيه، ويريد له أن يتكرر على أنه حقيقة لا مجاملة، يهتم بالصورة الشكلية الكبرى، ولكن من دون الذهاب إلى التفاصيل التي شكلت أسس هذه الصورة، ورسمت الإنجاز.
في فلسطين المحتلة، في رام الله بالتحديد، يسكن الزميل الصحافي وليد بطراوي، الذي بالإضافة إلى عمله الإعلامي الذي يأكل منه عيشاً، اختار وسماً خاصاً به يذهب إلى الاهتمام باليومي، والاعتيادي والبسيط من الأمور. في قول آخر أكثر تحديداً وأقل كلمات: يهتم بالتفاصيل، وبشيطاين التفاصيل.
تفاصيل بطراوي، التي انكبّ عليها تشريحاً بالكلمة والصورة، التفاصيل نفسها التي لا تترك شاردة ولا واردة، تكشف عن إهمال أحياناً، أو قلة حيلة، أو “قلة عقل” أو “قلة أدب”، أو تتحدث ربما عن شبهات وشكوك في مسائل فساد وسوء استغلال السلطة، واستخدام المحسوبيات، وعلى الرغم من صغرها، فإن كل كبير يبدأ من فتات الأشياء وصغيرها، والصغائر تتراكم وتكبر وتصبح أمراً واقعا، وتصير لدى المستفيد من انحرافاتها من المكتسبات، وتتحول إلى حقوق، وتضطر السلطات للنزول الى رغبة المواطنين، ولكي يرضوا عنها ويصرفوا همّهم في أمور أخرى بعيدة عنها وعن مساوئها، أو مخازيها، أو إهمالها العفوي أو المتعمد، أو استفادات آخرين منها؛ فتقوم السلطات (لا أعني بلداً بعينه) بالاستجابة للمواطنين، وإظهار أن هذه الاستجابة تعطّفاً منها، وتفهّماً لما يعيشه المواطنون، فتشرعن الأخطاء التي كانت يوماً ما صغيرة، حتى يجف مجرى الأسمنت على اعوجاجه، ومن يمكنه بعد ذلك أن يغير سيل المخالفات اللاحقة المؤسسة للمزيد من التخطي والتجاوز؟!
وليد بطراوي يطارد بشكل يومي المخالفات التي تعجّ بها شوارع منطقته، التصرفات الطارئة في المكاتب، والشوارع، أشجار الأرصفة، وسيارات المسؤولين المستخدمة في غير محلها، الحفريات التي لا تبدو لها نهاية، وسيارات الشباب ودخانها المتصاعد من دون ضابط، التفات إلى ما لا يلتفت إليه الآخرون لشدة ما ألِفوه في حياتهم، ورضوا به، وارتضوا أن يتعايشوا معه على اعتبار أنه صار جزءاً من الثقافة العامة. قلَّ المستنكرون الذين لم تكن تعجبهم ذات يوم التصرفات العوجاء، وصاروا – كما الزعماء والرؤساء والمسؤولون – يتغافلون عن الصغائر والتفاصيل ذهاباً إلى المشهد الأكبر، فلا الذين على قمة الهرم ولا الذين عند سفحه وقاعدته ملتفتين إلى هذا الذي يفتّ في المجتمع شيئاً فشيئاً، يسري ويتفشى فيه بخفة ومن دون كثير ضوضاء، يترسّخ كما الأوساخ التي يتعايش معها الفرد من دون أن يشعر، وقلّما تحين التفاتة من المتعايشين مع الأخطاء، والمتعاطين معها، والمتغلغلين فيها بقدر تشرّبها إياهم، يمارسون الخروقات يومياً من دون أي شعور بفداحة ما يرتكبون، هؤلاء تكون طبقة من الحساسية تجاه “الغلط” قد امّحت وزالت ربما للأبد، وتحتاج أعماراً وأعمالاً وقرارات سياسية صارمة، ومددا زمنية من التطبيقات المتواصلة والصادقة، ومسؤولين متوالين على الدرجة نفسها من التفاني والإخلاص للوصول إلى الهدف نفسه، وأطقما متناوبة من العاملين على التفاصيل عينها، لعل الناس يبدأون في نسيان ما كانوا يقترفونه ويصبح ذلك من قبيل التاريخ البائد عندما يعتادوا الصحيح من التصرفات، واحترام المال العام، والشارع العام، والحق العام، والنقل العام، والفضاء العام، وليس على مقولة “مال عمّك ما يهمّك”.
عين المراقب هذه قد تفعل شيئاً، ربما افتخر بطراوي ذات يوم أنه لكثرة ما كتب عن موضوع معيّن جاءت بعض الاستجابات طلباً للحل، أو ربما أملاً بأن “يحلّ عن سماهم”، ولكنها إضافة إلى الحلول الترقيعية، أو اليومية، أو الهادفة إلى سد الباب الذي تأتي منه ريح الانتقادات وحسب، والتي ربما لا تتحول إلى أسلوب ممنهج لحل المشكلات الصغيرة، ومتابعة المخالفات المسكوت عنها بفعل “العيش والملح” الذي حدث بينها وبين الرسميين؛ فإن المنشورات البطراوية شبه اليومية – وهذا في رأيي الأهم – ربما تتساقط كأحجار الدومينو، وتتسع دائرة الاهتمام، وتنتقل عدوى المراقبة اليومية للتفاصيل لأناس أكثر، وتسري في المجتمعات ثقافة لا ترضى بالأحوال المائلة، ولا ثقافة الـ “نص نص”، أو القبول بعبارة “معليش”، أو الإغضاء خجلاً عندما يعجز الطرف الآخر عن الرد بمثل منطقك وتعوزه الحيلة فيصيح محاولاً إنهاء النقاش “وهل أنت ستصلح الكون؟!”، لا سيدي، فقط إصلاح الشارع ومستخدميه، هذه غاية المنى إن استطاعت المراقبة اليومية أن تعرّي الأخطاء التي يراها البعض في غاية التفاهة مقارنة بالقضايا الكبرى التي تواجه الوطن.. أي وطن كان.
إذا كان معظم النار من مستصغر الشرر، فإن القضايا الكبرى لا يمكن أن تحلها زمرة من الذين لا يمكنهم الالتزام بأدنى القواعد والتصرفات اليومية السليمة، ولا يأخذون التفاصيل مأخذ الجد حتى يطردوا الشيطان منها ويكون البناء عليها بأسس قوية.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية