العدد 2764
الإثنين 09 مايو 2016
banner
أقدامنا وأحذية الآخرين
الإثنين 09 مايو 2016

أعتقد أن الكثير من المشاكل التي نعاني منها، إما بشكل شخصي، أو جماعي، وخصوصاً في المسائل الدينية، مردّها إلى تصوراتنا عن الآخر الذي غالباً لا نعرفه كما يجب، والذي تتقدمه إلينا الكثير من الأساطير والأقاويل غير المدققة، وما يفعله أكثر الناس منا هو أن يقوم بجمع ما يسمع على بعض المعايشات التي رصدها عن بعض أتباع المختلف، ومنها يصدر الحكم بأن الأقوال هذه صحيحة، وغالباً ما تكون الصورة الشوهاء عن الآخر هي الحاضرة في الذهن، ونحاول جاهدين إثبات ما يمكن أن يؤكد أفضليتنا عنه.
في الآونة الأخيرة وصلني رسم كاريكاتيري بالغ الذكاء، اختصر عليّ الكثير من الكلام الذي أحاول إيصاله وأتشكك ما إذا أصبت في التعبير عنه أم لا. وذلك أن الرسام رسم “فسطاطين” متناظرين تماماً، يمثل تصوراتنا عن أنفسنا وعن الآخرين، فكل ما هو جميل لدينا، هو نفسه قبيح لدى الآخر، فنحن الطهر وهم العهر، ونحن الفتح وهم الغزو، ونحن السموّ وهم الدنوّ، وعلى هذا يمكننا القياس والتفصيل.
“الآخر” هذا التعبير الذي يعني أنه ليس “الأنا”، ولا يشبهني، ربما لا يعني لي شيئاً، ولكنه في غالب الأحيان، يعني الكثير، والكثير من الصفات هي، في ثقافتنا وقدرتنا على التعاطي، عدائية، لا تقبل الآخر، ولا يمكنها أن تتعاطى معه بارتياح، بل يأتي التعاطي مع الآخر في سياق ارتياب، وتوجس، وأهمية مراقبته، حتى لو لم يبد منه أي شيء سيئ، فعلينا ألا نغفل فـ “الآخر” ينتظر منا غفلة ليحقق شيئاً ما، على اعتبار “أننا” الأطهار و”هُم” الأشرار، فلا يمكن أن نولّيهم ظهورنا. وعلى الرغم من الكثير من الوقائع والحوادث السيئة التي تأتي من الشبيه، ومن القرين، ومن المنتمي، ومن الجماعة ذاتها، إلا أننا على استعداد لنسيانها، أو التقليل من شأنها. ولكنها إن أتت من “الآخر” فإن لها شأنا آخر، وحسابا آخر، وتفسيرا آخر، ووزنا آخر مختلفا ومضاعفا عن الفعل نفسه إن أتى من الشبيه. ولا نتردد في وضع أي سوء يقوم به الآخر في خانة جديدة طويلة جداً من سلسلة الشواهد التي يمكننا الاستناد إليها حين نتحدث عن الآخر ومدى إضراره بنا.
“الآخر هو الجحيم” كما قال جان بول سارتر، الآخر ليس شرطاً أن يكون “آخر” الرأي، بل ربما “آخر” العمر، أو “آخر” الصحة، وفي كل الأحوال فالحواجز ترتفع بيننا وبين الآخرين، وإن أتى آخرون أشد اختلافاً سيّجنا أنفسنا والآخرين، ليحمينا السياج من الآخر لنؤجل خلافاتنا لريثما نتعرف إلى هذا الآخر الجديد وكيف نتصرف معه، وهكذا نحكم علاقات القرب والبعد، والانتماء والنفي، بمدى ما نعرف عن الآخر، ومدى ما نتشابه معه، ومن هنا فإننا لا نتورع عن إطلاق أقذع الألفاظ والصفات على الآخر، ولا نتردد في إحالته إلى مسخ، مخيف، لأن “الأنت” لن تكون “الأنا” أبداً.
هذا “المرض” النفسي والتكويني، يكاد يعمّ القطاعات الأكبر من المجتمعات المتأخرة، وربما هذا أحد أسباب تأخرها إذ ترنو إلى نقاء مزعوم، وتتوهم أنها بنفيها الآخر يمكنها أن تتسامى وتتقدم وتبزّ الآخرين، بينما الآخرون كان بعض أسباب تقدمهم أنهم تخففوا من مسألة نبذ الآخر.
لا تعرف البشرية جنساً اعتزل عن الآخر، وتخلى عن التعاطي معه، إلا من يعيش في مجاهل الغابات المطمئنة إلى هدوئها ونقائها واكتفائها عن التعامل مع الآخر، فكان أن لا تزال على وضعها البدائي ذاته.
إقصاء الآخر، رغبة دفينة في الانتحار، وفي الألعاب المنزلية الكلاسيكية، التي يجري فيها تركيب القطع الصغيرة لتغدو صورة متكاملة، القطعة لا تكون قادرة على الانتماء إلى الصورة الكلية إن لم يكن لديها بروز كما أن فيها جوانب ناقصة يجري إكمالها من قبل القطع الأخرى، وبالتالي فلا فضل لقطعة على أخرى، ولا أولوية لأنها جميعاً تكمل بعضها البعض، كما يطلق دائماً على مكونات المجتمعات بأنها لوحة فسيفسائية مؤلفة من قطع يقود تناغمها إلى صنع لوحة، وكلما كانت القطع موزعة بشكل جمالي، وليس بشكل كتل متشابهة ومتجاورة، كانت اللوحة أكثر إبهاراً وجمالاً.
ومع أن تراثنا العربي والإسلامي يعجّ بالمقولات التي لا نستحضرها في كل محفل، وندلل على أن لنا من الامتداد التاريخي ما يمنحنا هذه الحصانة ضد التحصّن عن الآخر، والتعامل معه بكل أريحية، الإبقاء على الثوابت مع التعاطي الخلاق، إلا أن الممارسات غالباً ما تفشل في الترجمة الفعلية لهذه التوجيهات والأقوال، فنسقط جميعاً في التخبط منذ أول وهلة لظهور الآخر إذ تعمل لدينا آليات النبذ والتحصن ضده والحذر منه.
لهذا كله، يصعب علينا أن نضع أقدامنا في أحذية الآخر، أن نتخيل أنفسنا للحظات معدودات أننا هو، أن نقف على الطرف الآخر لننظر إلى أنفسنا بعينيه: كيف يرانا؟ كيف يفكر بنا؟ أم أننا نعتقد أن الآخر مجرّد من الأحاسيس ليمكننا أن نفعل به ما يحلو لنا من دون حرج!

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية