+A
A-

فريد رمضان: “المحيط الإنجليزي” سرديَّة التعايش

نسج الكاتب البحريني فريد رمضان خيوط روايته ما بين الواقع والخيال، ليستخرج أسطورة “الحجر الأحمر”، ويبني شخصية “يوسف”، إحدى تلك الشخصيات المتعددة التي في “المحيط الإنجليزي”، الصادرة عن دار سؤال اللبنانية خلال العام الحالي 2018، وكما رصد تاريخ الإنسان وطعم الطين وذاكرة البحر، قام رمضان بأرشفة الذاكرة المنسية التي لا يمكن الوقوف على ملامح إنسانها إلا من خلال يوميات المستشرقين في الأساطيل البحرية، أو في الإرساليات الأميركية والبريطانية، أو من خلال وثائق الحملات التبشيرية في شبه الجزيرة العربية التي كانت بأمسّ الحاجة لأدوات الحفر والبحث والتنقيب، وهذا ما فعله فريد رمضان خلال 13 سنة هي الوقت الذي استغرقته كتابة هذا العمل الذي يقع في 480 صفحة ويؤسس لأسلوب جديد في الرواية الخليجية، لا تعتمد على السرد التاريخي، بل على بناء الشخصية الروائية من خلال البحث في نسيج الذاكرة. في حديثه مؤخرا لموقع الاتحاد الاماراتية كشف رمضان الأسرار والمصاعب التي واجهته أثناء كتابة العمل وهذا جزء من هذه المقابلة.

 

وقال: “لم تكن الرواية أو فكرتها وليدة اللحظة، كان المشروع يتشكل ببطء وحذر كي لا أقول بثقة! وتبلورت كمشروع بعد التجربة الروائية الأولى “التنور، غيمة لباب البحرين” والصادرة في العام. تولد سؤال الهوية في حيّ البوخميس وهو من أعرق أحياء المحرق الشعبية القديمة، حيث ولدت وعشت في مجتمع يمتاز بوفادة إنسانية جميلة متنوعة في الهويات والأصول والأعراق، يشكل رجاله ونساؤه رافداً مهماً لخدمة تجّار جزيرة المحرق بمهنهم البسيطة ولكن الضرورية، لعل أهمها الغوص وصيد اللؤلؤ لخدمة ربابنة السفن وتجار اللؤلؤ، وآخرون يمتهنون مهنة الفلاحة، البناؤون والحدادون والنجارون والقلافون والخياطون والحراس الشخصيون (الفداوية) والصاغة وغيرها. ونساء يمتهن الطبخ في منازل الشيوخ والتجار وسقاية الماء وغسيل الملابس. كل هذه المهن شكلت قيمة اقتصادية عالية ميزت البحرين قبل اكتشاف النفط واللؤلؤ الصناعي، أجناس شكلت بتنوعها المذهبي والعرقي والمجموعات الإثنية العصب الأساس للبنية السكانية لمعظم مناطق جزيرة المحرق والعاصمة المنامة. وشكلت حارة البوخميس كحارة شعبية في المحرق، نموذجاً صالح التربة للتعايش بشكل نموذجي ومميز يقوم على التكافل الاجتماعي مع وجود استحقاقات منحازة هنا وهناك. تفتحت عيناي على طقوس العزاء التي يمارسها إخوتنا الشيعة بثرائها المتنوع، وكنا نشارك فيها بحكم علاقات الصداقة التي تربط المنازل والعائلات والأرض المشتركة. شاهدت حفلات الزار، وهي تنظم أسبوعياً في (المكيد) وداخل المنازل، وأخرى عامة تقام وسط ساحة مخصصة ومُعلَّمة بعمود يبلغ السماء، تربط فيه الأقمشة ويكسر حوله بيض الدجاج وتدلق القهوة ويحفر موضع النحر ليستقبل دم الذبيحة ومن حق الجميع المشاركة فيها بممارسة ومحاكاة أرواحه القديمة المعذبة على الطريقة الممباسية أو الحبشية. دختُ مع أصوات شيوخ الموالد النبوية والذكر.

كل هذا أتاح لي كطفل مصادقة خليط من أرواح ضائعة وضائقة بجسدها. وتوجب عليّ أن أعود بهذه الذاكرة وأتوقف أمام خيالات هذا الطفل الملونة بكل أشكال الطيف وأضحى أهله من كل لون وهوية وعرق، لذا فإن الرواية لم تبدأ بل كانت تكبر من عمل إلى آخر وتنتقل من بيت إلى بيوت لها لهجاتها ولغاتها وحيواتها السابقة والحاضرة. ساهمت في هجرتها وتحولاتها عوامل داخلية وخارجية، سياسية واقتصادية واجتماعية.

وعن دمج الواقع والخيال في رواية تدور أحداثها ما بين نهاية القرن الثامن عشر ومطلع التاسع عشر قال للاتحاد: ”لا أعرف كيف أجد في الحدث الواقعي ما يضاهي الخيال، ويندمج معه ويتحول فيه. وهي تجربة يمكن رصدها في معظم كتاباتي، دائماً يشكل حدثاً واقعياً مؤرخاً عبر الصحافة أو كتب التاريخ أو السير الذاتية والحكايات الشفهية نقطة بناء لمتخيل سردي يتسع ويأخذ بعده الأسطوري والأنثروبولوجي، ورواية مثل هذه تنبسط جغرافياً على تخوم ممتدة من الهند وشبه الجزيرة إلى افريقيا وأوروبا، ويستحيل فيها المحيط إلى مكان رئيس لشخصيات لا ترسو في مرفأ حتى تنتقل إلى بندر أو ميناء. حركة مد وجزر تصيب الجميع بين الواقع والخيال، بين الشخصيات الحقيقية، كالأخوين الأميركيين المبشرين بيتر وصموئيل زويمر وجزءا من سيرة التنصير في المنطقة خاصة مسقط والمنامة، وبين حوادث مختلقة، وأخرى واقعية مثل مدرسة العبيد المحررين وخيالية، مثل قرية سقر!

ثمة متعة لا تضاهى، بالنسبة لي على الأقل، وأنا أبصر القلوب وهي تحب وتعشق وتشيخ في عالم أوكل الخالق فيه للبشر مهمة لم تمنح لأي من الكائنات الأخرى على سطح الأرض، إلا أن البشر خانوا هذه الأمانة وتعلق بعضهم بكائنات ربما أجمل مثل الطيور. كل حدث مبني من السراب ينبعث مثل العنقاء. ربما بهكذا تفسير يتداخل العالمان!

وعن مصادره ذكر فريد: ” كل شيء يمكن لك أن تتخيله، رواية تمتد هذا الامتداد الزمني والجغرافي، وتتناول قضايا وتاريخ المنطقة من التبشير بالمسيحية والعبودية والاحتلال الإنجليزي، إلى قضايا شخصية ونمط معيشة وسلوك إنساني متنوع الثقافة والمرجعيات تتطلب بالتأكيد كل ما يخطر على بالك من مصادر وبحوث ومكتبات علمية وبحوث شخصية ومقابلات ومراجعات وصور فوتوغرافية وأفلام وثائقية، ملفات شركة الهند الشرقية، المذكرات والسير الشخصية ودليل الخليج بشقيه الجغرافي والتاريخي والسفر، والكثير الكثير من الخيال وبناء الشخصيات والتحبيك. والسؤال، جوهر الحياة”.