+A
A-

عرض كتاب: "سينمائيات سعودية"

ليس هناك من شك في أن الأفلام السعودية القصيرة التي صنعها مخرجون شبّان في السنوات الاخيرة جديرة بالمشاهدة والمتابعة والتحليل، فهي تمثل، في مجملها، نتاجًا لثقافة خاصة اتسم بها فكر ووعي هؤلاء الشباب. والحق ان كل فيلم أنتجوه يحمل طرحًا سسيوثقافيًا مهما، ينهل من واقع الحياة التي يعيشونها، بما فيها من أحلام الابحار في محيطات الفن السابع، وبما تشير اليه طموحاتهم في المستقبل.

الأفلام التي أُدرجتها هنا بين ضفتي هذا الكتاب، ما هي الا اختيارات مما كتبتُ في الصحافة الورقية (صحيفة الحياة) أو الالكترونية، ومجلتي الفيصل والقافلة على وجه الخصوص، وهي لا تمثل حصرا لأفضل الأفلام المنتجة، ولكنها من أهمها، وان كان قد غاب عني الكتابة عن أفلام أخرى جديرة بالإشارة اليها والحديث عنها، حيث لا تتاح مشاهدة كل ما ينتج... ولكن ربما سنحت فرص المشاهدة ومن ثم الكتابة في وقت لاحق.

أما الآن وتزامنًا مع انعقاد الدورة الخامسة لمهرجان الأفلام السعودية بالدمام، فإنه لا يسعني الا أن أضع هذا الكتاب بين يدي القارئ المهتم، وآمل أن يجد عنده شيء من القبول، رغم أن قناعتي تشي بأن كل فيلم مذكور هنا يحتاج الى سبر أعمق وتحليل أوفى ومراجعة أدق حتى تكتمل القراءة.

وبالطبع لا يخفى اهتمامي بنشر المقالة/الدراسة الضافية التي كتبها الناقد والمخرج الاستاذ فهد الاسطاء، والتي كان نشرها في مجلة المجلة في مايو 2013م، ولحرصي على أن يطلع عليها أكبر عدد ممكن من المهتمين، فقد طلبت منه إعادة نشرها في هذا الكتاب، والحق أنه لم يبخل بالموافقة، بل أنه طلب مني أن أمنحه بعض الوقت لكي يطوّر الدراسة ويضيف اليها ما استجد في الساحة منذ 2013م وحتى 2018م، وقد فعل مشكورًا في وقت قياسي... مقالته المهمة هذه، ترصد بسرد تأريخي قصة الفيلم السعودي، كما أطلق عليها في عنوانها، وقد وثق كثيرًا من الحقائق ودعمها بالنظرة التحليلية لما تضمنتها الأفلام، وحرص على بيان المهرجانات التي شارك فيها كل فيلم والجوائز التي نالها، كما انه قسم مراحل انتاج الفيلم السعودي الى مراحل زمنية مرتبطة بما يميزها من قواسم مشتركة، وأظنه، بل أجزم بأن تقسيمه هذا أصاب الحقيقة، وأنه بذلك قد قفل باب الاجتهاد في تصنيف الأفلام حسب مراحل محددة... لهذا كله وجدت أن تكون هذه المقالة الجزيلة خير مقدمة لهذا الكتاب. وأن كنت قد كتبت مقالة عامة لها نظرة شاملة تشابه ما كتبه فهد الاسطاء، لكنني تناولت زوايا وهو تناول زوايا أخرى.

على كل حال، أرجو أن يحظى القراء بشيء من القيمة التي يتوخاها هذا الكتاب... ولا يغيب عن الذكر بأنني قد احترت لعدة أيام في إيجاد عنوان له، غير أنه وفي خلال نقاش مع المصمم المثقف الأستاذ كميل حوّا الذي أشار الى عنوان «سينمائيات سعودية»، فهتفت على الفور: نعم هذا هو العنوان الضائع عني. واستأذنته بأن أطلقه على الكتاب.

بقي أن ألفت الى تحريض الإداري السينمائي والشاعر الاستاذ أحمد الملّا، الذي لا يكف عن الاخذ بيد صناع الأفلام الشباب، والذي يعمل بحب حقيقي لحراك السينما في السعودية، فهو الذي دفع بي لإنجاز هذا الكتاب، وبالطبع هو الذي يدفع بهذا المهرجان الى الأمام.

الى جانب هذا وذاك، أجزم بأن اختيار المهرجان لتكريم الإداري السينمائي القدير الاستاذ مسعود أمرالله، هو اختيار موفق للغاية، لا سيما وأنه يواصل منذ ما يقارب العشرين عامًا في تعزيز فن السينما في الخليج العربي، وفي السعودية بشكل خاص، عدا دوره الإقليمي والدولي في رفع مستوى السينما العربية. ذلك من خلال قدرته الفائقة في تنضيد منصة سينمائية رصينة وذات أبعاد متشعبة تصب في نشر الثقافة السينمائية المتكاملة بدءًا من مسابقة أفلام الامارات، ثم مهرجان الخليج السينمائي ثم مهرجان دبي السينمائي وما قدم من منجزات رصينة.

وكذلك الامر بالنسبة لتكريم الفنان السعودي الشامل الراحل لطفي زيني الذي سبق عصره، وكان ظاهرة مدهشة في الفن السعودي والعالم العربي، فقد مارس العديد من الفنون بتمكن وموهبة حقيقية دون ادعاء، لقد كتب سيناريوهات لأعمال كثيرة، ونظم قصائد جميلة، وكتب كلمات أغاني عذبة وحميمة، ثم غنى المنولوج وأخرج أعمالا للأطفال، وعندما دخل قلوب الجماهير من بوابة التلفزيون قدم مسلسلات و  أفلام وسهرات واسكتشات لامست النبض وأشعلت الوجدان، وكما نجح كفنان نجح أيضاً كرجل أعمال ومنتج ووسيط فني.

الحديث عن لطفي زيني يقودنا الى دور الفن اليوم، دوره في التثقيف والوعي والمتعة التي تؤدي بالإنسان الى الازدهار الذاتي، ومن ثم النماء الوطني، الذي يبقى في حياة الشعوب وتاريخ الأمم. ولهذا فإن لطفي زيني مثل قائم لأهمية الفنان في تنمية المعرفة والتثقيف والترفيه البناء، والسينما خير مسار في هذه السياقات، فغني عن القول أن السينما أصبحت تدخل في صلب تكوين صناعة المعرفة والوعي بما يحيط بنا، خصوصا إذا عرفنا أن حجم الاستثمار فيها عالمياً يقدر بنحو 2.2 تريليون دولار، وهي تشكل 7% من الناتج الإجمالي العالمي. ووفقًا للإحصائيات، فإنه يعقد في العالم أكثر من 3000 مهرجان سينمائي، أي بواقع 8 مهرجانات يومياً، ما يدل على ما تحتفظ به السينما من أهمية وتأثير ثقافي وتوعوي واقتصادي.

 ما أتمناه حقيقة أن يصبح لدينا تراكم كمي ونوعي من الأفلام الطويلة، وأن يكمل الشباب مسيرة الرائد عبدالله المحيسن، وأن تزداد الأسماء المحققة للأفلام الروائية الطويلة، الى جانب المخرجة هيفاء المنصور والمخرج محمود صباغ، فهناك أسماء متمكنة ولا زالت الساحة تنتظر انتاجاتهم من الأفلام الطويلة.

خالد ربيع السيد

جدة ـ فبراير 2019م


مدخل عام

قصة الفيلم السعودي

بقلم: فهد الاسطاء

البدايات القريبة

يذكر الكاتب خالد البسام رحمه الله في كتابه " يازمان الخليج " جانبا من التغطية الصحفية التي قامت بها وسائل الإعلام في دولة البحرين الشقيقة أثناء زيارة الملك الموحد عبد العزيز آل سعود رحمه الله عام 1939م حينما أبلغ الشيخ حمد بن عيسى أل خليفة رئيس دولة البحرين إدارة المسرح بحجز عرض سينمائي يحضره الملك عبد العزيز والوفد الملكي حيث تم حينها عرض فيلما مصريا بعنوان " الهارب " أنتج عام 1936م . ربما هذه أبلغ إشارة تم توثيقها حول علاقة الدولة السعودية الثالثة التي أسسها الملك عبدالعزيز يرحمه الله بالسينما.

إلا أنه على مستوى التأليف السينمائي المعتبر فربما تكون أبعد إشارة نجدها لموضوع السينما في السعودية هي ما ذكره الناقد والمؤرخ السينمائي الشهير الفرنسي جورج سادول في كتابه المهم (تاريخ السينما في العالم)، والذي يعتبره الكثير إنجيلاً للسينمائيين في العالم؛ بسبب حجم التقصي والمعلومات والجهد الذي بذله جورج سادول المتوفى سنة 1967م حينما استمر -ولمدة ثماني عشرة سنة- يقوم بتعديل الكتاب والإضافة إليه في كل طبعة حتى أكمله عام 1958م تحت مسمى (تاريخ السينما في العالم) متحدثًا باسترسال عن أكثر من خمسين دولة ذات إنتاج سينمائي بعد عناء كبير، وسنوات من السفر والتنقل والتردد على المكتبات السينمائية، وحضور أكثر من مائة مهرجان سينمائي حول العالم، والانتقال للعيش في دول متعددة؛ ليكون أقرب إلى إدراك إنتاجها السينمائي، حيث زار الهند والصين واليابان والمكسيك وكوبا والبرازيل والأرجنتين والاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا –في وقته- ورومانيا وهنغاريا ويوغسلافيا وتونس والجزائر ومصر وسوريا ولبنان، وكان -على حد قوله في زياراته هذه- يمتنع عن زيارة المتاحف والأماكن السياحية، ويحبس نفسه في قاعات العرض ليشاهد ما يقارب المائة فلم من الأفلام الطويلة في كل بلد، حتى خرج الكتاب في طبعته الفرنسية فيما يقرب الخمسمائة وأربعين صفحة، منها السينما العربية التي كتبها استجابة لما عهدت إليه اليونسكو بكتابة مقتطفات مكرسة عن السينما العربية، وتاريخها وحالها الحاضر وتطوراتها. وهو مع ذلك يقول عن كتابه هذا: "إنها لصفحات قليلة تعجز عن احتواء سبعين عامًا من التاريخ في سبعين بلدًا، خصوصًا إذا ما أريد للكتاب أن يظل مقروءًا، وأن لا يأتي شبيهًا بدليل للهاتف يعدِّد أسماء السينمائيين وعناوين الأفلام".

ومع ذلك فقد واصل الإضافة حتى ما قبل وفاته بسنة، حيث ذكر في الطبعة 1967م عدة صفحات عن سينما الجزيرة العربية، ومنها السعودية، حينما قال:

"كانت المملكة السعودية عام 1965م الدولة الوحيدة في العالم العربي التي يجهل سكانها رسميًّا كلَّ شيء عن السينما".

وهو يعزو هذا الأمر للموقف الديني المتشدد وقتها تجاه السينما، بالرغم من وجودها داخل المجمعات السكنية للموظفين الغربيين مثل موظفي شركة (أرامكو)، والتي تعرض أحدث الأفلام وقتها.

لكنه في نفس الوقت –وهو يذكر هذا عام 1966م في طبعة الكتاب الأخيرة– يقول:

"وبناءً على ما فعله الملك فيصل في افتتاح التلفزيون حينها، فإن هناك أيضًا اتفاقات جارية مع شركات أمريكية لبناء شبكة من دور السينما يرتادها السكان العرب" كما أشار أيضًا لشراء الملك فيصل نفسه -حين إقامته في لندن- نسختين من فيلم (لورنس العرب) التحفة السينمائية الشهيرة لديفيد لين، والحائزة على أوسكار أفضل فيلم عام 1962م".

وما حدث فيما بعد هو أن الصالات السينمائية افتتحت خلال السبعينيات الميلادية عبر الأندية الرياضية على وجه التحديد للرجال فقط، وفي بعض السفارات الأجنبية والبيوتات الشهيرة خاصة في جدة والطائف إلا أنه كان عرضا عشوائيا يفتقد التنظيم والتهيئة اللازمة للمشاهدة والتسويق المناسب، والاختيار الجاد، بالرغم من أنها لم تدم طويلاً، حيث تم إغلاقها -وبشكل نهائي- مع أشياء كثيرة تراجع عنها المجتمع السعودي وقتها، وانسحبت الحكومة السعودية من دعمها لعدد كبير من مناشط الانفتاح كردة فعل آنية تجاه أحداث الحرم الشهيرة عام 1400م، واقتحام جهيمان وجماعته للمسجد الحرام بدعوى دينية تبناها –يشير المؤلف روبيرت ليسي في كتابه (المملكة من الداخل) لشيء كبير من هذا الأمر –.

لكننا في عام 1975م سنشهد ما يمكن أن يشير إلى أول فيلم سعودي بشكل رسمي حينما اخرج عبدالله المحيسن فيلما عن ( تطوير مدينة الرياض) وشارك به في مهرجان الأفلام التسجيلية في القاهرة عام 1976م قبل ان يقدم من جديد عام 1977م فيلما سينمائيا أكثر أهمية وحضورا وحسا فنيا وهو الفيلم الوثائقي (اغتيال مدينة) في عرض درامي حول الحرب الأهلية اللبنانية، ومدى الضرر الذي ألحقته هذه الحرب بمدينة بيروت الجميلة، وحاز حينها على جائزة (نفرتيتي) لأفضل فيلم قصير، كما كان الفيلم قد عرض في مهرجان القاهرة السينمائي عام 1977م  وقد تم عرض الفيلم خارج المسابقة ضمن عروض أفلام الشخصية المكرمة في مسابقة أفلام السعودية 2008م ومهرجان جدة الثالث للأفلام عام 2008م.

وهذا ما يجعلنا نرسم ملامح المرحلة الأولى من تاريخ الفيلم السعودي، والتي يمكن تسميتها:

مرحلة المخرج الوحيد

حيث يتواجد فيها وكأول مخرج سعودي الاستاذ عبد الله المحيسن وحيدًا بعدد ليس بالكبير من التجارب والأفلام، والتي نجح في إيصالها خارج المملكة من خلال العروض والمشاركات في مهرجانات عربية متنوعة بدأها مع فيلم ( تطوير مدينة الرياض) ثم (اغتيال مدينة) كفيلم سينمائي ثم بعد سنوات من التوقف، يعود المحيسن من جديد عبر فيلم (الإسلام جسر المستقبل) عام 1982م، والذي يصور فيه المراحل التاريخية للقضايا العربية والإسلامية بداية من هجمات التتار والمغول، مرورًا بالاستعمار الإنجليزي والفرنسي، وتسلل اليهود إلى المنطقة العربية، وانتهاءً ببروز القوتين العظيمتين في العالم، حيث يجسِّد الفيلم المعاناة العربية والإسلامية بشكل مؤثر، وقد شارك المخرج بالفيلم في مهرجان القاهرة السادس، ونال الجائزة الذهبية، كما عرض الفيلم خارج المسابقة ضمن عروض أفلام الشخصية المكرمة في مسابقة أفلام السعودية 2008م.

وانتهاءً بفيلم (الصدمة) عام 1991م وهو وثائقي يقدم فيه رؤيته الخاص عما حدث في عام 1990م من أحداث غزو الكويت، ومن ثم تحريرها وحرب الخليج والأثر الذي أحدثته هذه الأزمة على المنطقة، وهو آخر أفلام المحيسن في هذه المرحلة، قبل أن يعود المحيسن نفسه عام 2006م ليشارك في المرحلة الثانية، ويسجل نفسه كأول فيلم روائي طويل أيضًا عبر فيلم (ظلال الصمت).

*مرحلة المهرجانات السينمائية

وهي المرحلة الأهم والأبرز  والتي مازالت تواصل مسيرتها، حينما جاءت هذه المرحلة كاستجابة طبيعية للاهتمام السينمائي الكبير الذي انتشر بين عدد من الشباب السعودي مطلع الألفية الجديدة، وتمثل في كثرة المنتديات والمواقع السينمائية كالموقع الشهير (سينماك) الذي كان قد بدأ كموقع بسيط حول الأفلام الأمريكية باسم (استراحة) ثم (موقع الأفلام العربي) من تأسيس الشاب هاني السلطان حتى اشتهر فيما بعد باسم (سينماك) مع بداية الألفية وليصبح الكثير من أعضائه وخلال الثلاثة عشر سنة الماضية من أبرز شباب السينما السعوديين في مجالات الاخراج والسيناريست والكتابة الصحفية وصناعة الافلام بشكل عام ، ومن ثم كان هناك انتشار الصفحات والملاحق السينمائية والمقالات التي تتحدث بشغف واهتمام بالغ عبر الصحف السعودية ممن بدأوا بأسمائهم المستعارة في سينماك مثل محمد الظاهري وحازم الجريان وحسام الحلوة وفهد الاسطاء في جريدة الشرق الأوسط ورجا المطيري وعبدالمحسن الضبعان ومحمد الخليف وطارق الخواجي في جريدة الرياض وعبدالله ال عياف ومحمد بازيد في جريدة الوطن و عبدالمحسن المطيري في جريدة الجزيرة وغيرهم ممن مازال يعمل في الحقل السينمائي صناعة وكتابة حيث يمكن ملاحظة أن اغلب هذه الاسماء الشبابية من ابرز مؤسسي وأعضاء الموقع حينها الذي كان قد بدأ عام 2000م , ثم يمكننا الاشارة أيضا لصدور بعض الكتب السينمائية من كتاب سعوديين كحالة جديدة غير مسبوقة في مجال التأليف الفني السعودي.

ماكتبه السعوديون في السينما

مثل كتب الاستاذ خالد ربيع السيد ( الفانوس السحري : قراءات في السينما) ،لاحقا اتبعه بالجزء الثاني 2014م في قراءة لمجموعة أفلام خليجية،  فيما أصدر 2008م أيضا "فيلموغرافيا السينما السعودية 1977م-2007م” كأحد إصدارات وفعاليات مهرجان الأفلام السعودية

في كتابه " الفانوس السحري" حاول المؤلف تتبع أبرز مراحل السينما منذ بدايتها مع عصر الريادة كما أطلق عليه ثم عصر الأفلام الصامتة ثم عصر ماقبل الحرب العالمية الثانية ليبدا ما أسماه بالعصر الذهبي مطلع الأربعينيات، ثم الانتقالي فالفضي فالعصر الحديث، وأخيرا عصر التكنولوجيا الحديثة  متعرضا فيما بعد للسينما الهندية والمصرية قبل أن ينتقل لعدد من القضايا السينمائية وبعض تجارب المخرجين وموضوعات في السينما العربية متخذا من الأسلوب المبسط والمختصر وسيلة للطرح  بعد ان كتب  مقدمة شيقة عن علاقته بالسينما منذ الطفولة مضمنا الكتاب عددا من مقالاته السابقة في الصحف  و في نفس العام 2008م أصدر الدكتور فهد اليحيى كتابه " كيف تصنع فيلما..مدخل إلى الفنون السينمائية "

حيث هدف المؤلف إلى التوجه لهواة صناع الأفلام متحدثا بالتوضيح والصور أهم الأدوات التي عليهم أن يعرفوها إضافة لقائمة من المصطلحات السينمائية التي عرف بها بشكل ملفت مدعما ذلك بالصور والرسومات كالتصوير والإضاءة والمونتاج والديكور والأزياء والخدع والمؤثرات والإخراج وغيرها الكثير بعد مقدمة جميلة أيضا عن علاقته بالسينما منذ الصغر.

 ولتتشكل في النهاية خلال عقد من الزمن ظاهرة فنية عمادها الشباب المتحمس والمتيم سينمائيًّا مشاهدة ومتابعة كان قد تمكن في منتصف هذا العقد الأول من الألفية الجديدة من امتلاك الجرأة ليتقدم خطوة أكثر فعالية ويشارك في المهرجانات السينمائية العربية من حوله في أبوظبي ودبي وبيروت ووهران وغيرها، وليضع نفسه في مجاراة مع التجارب الفيلمية العربية والخليجية الأخرى، مستفيدًا منها ومكتسبًا في نفس الوقت الخبرة والتجربة المشجعة للمواصلة حتى يومنا هذا، حيث حقق المخرجون السعوديون العديد من الإنجازات المشرفة في هذه المهرجانات، وحصلوا على عدد من الجوائز المهمة.

رواد البدايات السينمائية

ويمكننا الإشارة هنا لأبرز الأسماء والمجموعات السينمائية مثل المخرجة "هيفاء المنصور"، والتي يمكن اعتبارها أيضًا أول مخرجة سعودية، ومن أبرز أفلامها: (من ؟) حول هوية المرأة وكينونتها من خلال استلهام قصة قاتل متخفي بلباس امرأة وحجابها و (الرحيل المر) دراما شاعرية حول الفقد والذكريات، و(أنا والآخر) حول الاختلاف والوحدة الوطنية من خلال قصة ثلاثة شباب مختلفي التوجهات، تتعطل سيارتهم في منطقة بريَّة معزولة، وقد عرض الفيلم على قناة الشاشة في الشوتايم وقتها، لكن أبرز إنجازاتها جاء مع فيلم (نساء بلا ظل)، والفائز بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مسابقة أفلام الإمارات، و(الخنجر الذهبي) في مهرجان مسقط السينمائي.

وهو رؤية ذاتية يناقش الفلم العديد من قضايا المرأة السعودية المهمة، والموقف الصعب الذي تجد نفسها فيه ما بين عادات وتقاليد اجتماعية، وبين رؤى دينية تقليدية.

 إلى أن تعود مرة أخرى عام 2012م لتحقيق الإنجاز الأكبر والأهم من خلال فيلمها الروائي الطويل (وجدة) الفائز بجائزة المهر العربي في مهرجان دبي السينمائي، وجائزة أفضل فيلم طويل في مهرجان الخليج السينمائي في دورة 2013م، والمشارك في مهرجان فينيسيا، والمتوج بثلاث جوائز تقديرية هي: جائزة سينما فناير، وجائزة الاتحاد الدولي لفن السينما، وجائزة (انترفيلم)، ويجري منح هذه الجوائز لتكريم المتفوقين من المتخصصين في صناعة السينما، كما يمكن اعتباره أول فيلم سعودي طويل يصور داخل السعودية بهوية وممثلين سعوديين تمامًا، يلقى كل هذا الاحتفاء والاهتمام العالمي، وينال إعجاب العديد من النقاد ومتابعي السينما العالمية، وهو دراما اجتماعية بمزيج كوميدي حول أحلام طفلة في امتلاك دراجة هوائية وقيادتها في الشارع وسط إسقاطات اجتماعية متعددة تقدمها المخرجة هيفاء المنصور.

ومن الأسماء التي يهم ذكرها في هذه المرحلة من حيث تعدد مشاركاتها، بالإضافة لتحقيقها إنجازات جيدة، ونجاحات مشهودة باعتلائها منصات التتويج:

عبدالله ال عياف: الفائز بجائزة لجنة التحكيم في مسابقة أفلام الإمارات عن فيلم (إطار) 2006م، وجائزة أفضل فلم قصير في مهرجان الخليج السينمائي عن فيلم (عايش) 2010م، كما حقَّق فيلمه (مطر) الجائزة الثانية كأفضل روائي، وفيلمه الوثائقي (السينما500 كم) الجائزة الأولى في مسابقة أفلام السعودية في الدمام 2008م.

بدر الحمود: أبرز المشاركين مع كل عام، وحقّق الجائزة الثالثة لأفضل فيلم قصير في فئة الطلبة عن فيلم (أبيض وأبيض) عام 2007م، كما حقق مؤخرًا مع آخر أفلامه (سكراب) الجائزة الثالثة لأفضل فيلم قصير في المسابقة الرسمية لمهرجان الخليج السينمائي عام 2013م.

عهد كامل: أخرجت فيلم (القندرجي) عام 2009م، والذي فاز بالجائزة الأولى في مهرجان بيروت السينمائي الدولي 2010م. فاز الفيلم بالجائزة الثانية في مهرجان الخليج السينمائي لأفضل فلم قصير 2010م، كما فاز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان وهران الجزائري 2010م، كما حقق فيلمها الأخير (حرمة) الجائرة الثانية لأفضل فيلم قصير في المسابقة الرسمية لمهرجان الخليج السينمائي عام 2013م.

محمد الظاهري: ضمن مجموعة تلاشي السينمائية الفائز عن فيلم (شروق/ غروب) بالجائزة الثالثة لأفضل فيلم قصير في مهرجان الخليج 2009م وفضية مهرجان بيروت الدولي، وجائزة الفيبريسكي الاتحاد الدولي للنقاد.

حسام الحلوة: ضمن مجموعة تلاشي قدم فيلمين هما: (مابي !)، و(عودة) الفائز بأفضل سيناريو في مهرجان الخليج 2010م.

سمير عارف: الذي شارك في المهرجانات السينمائية بعدة أفلام قصيرة مثل: (طريقة صعبة)، (نسيج العنكبوت)، و(عيون بلا روح)، و(مجرد كلمة)، و(انتظار)، كما شارك في مهرجان الخليج في دورته السادسة 2013م بأول فيلم روائي طويل هو (صدى)، والذي يحكي قصة طفل "ولِد سليمًا معافى لأبوين يعانيان من الصم والبكم، ما وضعه في مواجهة مشاكل اجتماعية ونفسية مع المجتمع الخارجي الفضولي، وخاصة زملاءه في المدرسة. ورغم سعادة الوالدين بهذا الابن إلا أن الأب يقرر الامتناع عن إنجاب آخر، ما يوقع الأسرة في صراع نفسي كبير".

عبدالعزيز النجيم: متواجد دائم في المهرجانات، وأبرز أفلامه (تمرد)، و(احتباس)، وفيما أهمها (وينك) الفائز في مهرجان تربيكا السينمائي بالدوحة بجائزة أفضل فيلم قصير.

فيصل العتيبي: والمهتم بتقديم أفلام وثائقية على وجه الخصوص، حيث شارك في عدة مهرجانات عالمية متنوعة بمجموعة أفلامها أهمها: (الزواج الكبير)، وفيلم (الحصن) الفائز بالجائزة الثانية كأفضل فيلم وثائقي في مهرجان الخليج السينمائي في دورته الثانية.

محمد التميمي: كمخرج أفلام (أنميشن) حيث فاز مرتين متتاليتين عام 2009م و2010م بجائزة لجنة التحكيم الخاصة فئة الطلبة ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان الخليج السينمائي عن فيلمي (بي جي 13)، و(الجنطة).

وليد مطري: الفائز بالجائزة الثانية في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في مهرجان الخليج 2009م عن فيلم (انتقام)، والذي يحكي قصة "أربعة إخوة يعانون من قسوة ظروف الحياة بعد فراق والديهم. يتورط أحدهم مع أكبر عصابات المخدرات بعد أن وجد في سيارته حقيبة رئيس العصابة. هناك تتغير حياة هؤلاء وتنحدر نحو الهاوية، فيما يقتل الصغير أخاه الكبير، فتبدأ رحلة الانتقام". كما شارك بفيلم قصير لاحقًا بعنوان (ألم طفلة).

عوض الهمزاني: الفائز في مسابقة أفلام الإمارات للأفلام القصيرة في مهرجان أبو ظبي عن فيلمه الوثائقي (فتون) بالجائزة الثانية.

فهمي فرحات: حقق الجائزة الثالثة عن فيلمه الوثائقي (ليلة عمر)، وفهمي متواجد بشكل متواصل عبر مهرجان الخليج، حيث قدم عدة أفلام مثل (شعر لولو المجعد) و(قصة أحمد وبابا نويل)، بالإضافة للأفلام الوثائقية (السعوديون في أمريكا) و(رجل وثلاث عجلات)، و( ليلة عمر)، وفيلم طويل هو (المؤسسة) حول مؤسسة هندسية يقرر صاحبها دمج قسمي الرجال والنساء معًا مما يخلق وضعًا طريفًا "في إسقاط اجتماعي حول قضية الاختلاط المثيرة للجدل سعوديًا".

انجي مكي: الفائز بالمركز الثالث لأفلام الطلبة عن فيلم (بدري!) في مهرجان الخليج 2009م كما شارك لاحقًا بفيلم (رقصة متجمدة).

ممدوح سالم : والذي كان مخرجا قدم مجموعة أعمال مابين الروائي والوثائقي مثل (انتماء) و (ليلة البدر) إضافة لتاسيسه مهرجان جدة السينمائي عام 2006م والذي كان يسمى بمهرجان العروض المرئية.

نايف فايز : من اوائل الشباب الذين فازوا حيث كان قد حصد عبر فيلمه الاول " بعيدا عن أنظار الكاميرا" جائزة افضل فيلم فئة الطلبة في مسابقة أفلام الامارات عام 2007م حول المعنى الحقيقي للمعاناة الانسانية بعيدا عما يمكن ان تنقله لنا عدسة الكاميرا عادة.

توفيق الزايدي : الذي قدم عدة أفلام وثائقية منذ عام 2006م لصالح قنوات فضائية  ثم فيلمه الروائي القصير "الصمت" الحائز على جائزة أفضل مونتاج في مهرجان جدة السينمائي  عام 2009م و " الآخر" الفائز بجائزة افضل فيلم قصير في مسابقة الأفلام السعودية بالرياض

طلال الحربي: وكان قد بدأ منذ مسابقة أفلام الامارات في أبو ظبي عبر فيلم " وصول " ثم المشاركة في مهرجان الخليج السينمائي بفيلم "أررياض" قبل أن يفوز عام 2013م بجائز افضل فيلم وثائقي قصير في المهرجان السينمائي لدول مجلس التعاون في دورته الثانية بالكويت عبر فيلم "رفرفة أمل"

عبد المحسن الضبعان: أحد ابرز أسماء مجموعة تلاشي السينمائي وكان قد قدم قدم أربعة أفلام أهمها: (الوقائع غير المكتملة لحكاية شعبية) 2010م في قصة ديكودراما تجريبية رائعة وطريفة يتحقق المخرج فيها من حكاية قديمة لامرأتين تعملان على قتل الرجال الذين تزوجون على زوجاتهم وفيلم (ثلاثة رجال وامرأة) 2009م حول ثلاثة شباب يخططون لعمل فيلم لكنهم يفتقدون العنصر النسائي ضمن أفلام مجموعة تلاشي السينمائية، كما قدم بشكل مستقل فيلمي (الباص) و(المفتاح)

رجا ساير المطيري: أحد مؤسسي موقع سينماك والاسم الأول في الكتابة السينمائية والنقدية بشكل متواصل عبر جريدة الرياض وحتى الآن منذ بروز ظاهرة السينما السعودية وظل مرافقا لها بالرصد والتحليل وحاضرا في مختلف المهرجانات السينمائية والمحافل الفنية وتواجد أيضا في عدد من ملجان التحكيم .وسبق وان قدم فيلم ( هامش ) ضمن تجارب الشباب السعودي المبكرة

فهد الاسطاء: رئيس مجموعة تلاشي السينمائي والذي ساهم كتابة ونقدا وإخراجا منذ بداية الحركة السينمائية وتم تكريمه عام 2013م مرشحا عن السعودية من قبل الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربي في المهرجان السينمائي لدول الخليج العربية في دورته الثانية في الكويت (لجهوده ودوره الريادي في فنون السينما) وأول أفلامه كانت عبر مجموعة تلاشي بالفيلم الوثائقي (تجربة في الطابق السابع)

 

كما يتواجد عدد من المخرجين الذين سجلوا حضورًا مهمًا في المهرجانات المتنوعة وإعجابا جماهيريًّا حتى دون تحقيق  جوائز مثل عبدالله أحمد الذي قدم خمسة أفلام هي: (الهامس للقمر)، و(المغزى)، و(الموعد)، و(كورة حبيبتي)، و(نص دجاجة)،كما شارك ممثلاً في عدة أفلام أهمها فيلم (عايش)، وعبد المحسن المطيري أحد أكثر السعوديين مشاركة بعدة أفلام تجاوزت السبعة من خلال مجموعة تلاشي السينمائية مثل (مشروع ) و (القناع) أو بشكل مستقل مثل (يوميات شاب على حافة الهاوية) و (رجل بين عصابتين وقبر) و (الحلم) و (سكايب) ونواف المهنا الذي قدم أيضًا مجموعة أفلام مخرجًا وممثلاً بشكل مستقل مثل (مجرد يوم) الحائز على شهادة تقدير مسابقة أفلام الإمارات 2006م أو ضمن مجموعة تلاشي مثل (آخر يوم)، و(لا يوجد سوى دجاج مقلي في الثلاجة).

وهناك غيرها من الأسماء التي بدات مبكرا ومازالت أغلبها تواصل حضورها المتكرر في عالم المهرجانات السينمائية، مثل علي الأمير (طفلة السماء)، وحمزة طرزان (النافذة)، ومحمد سندي (فاتن تقودني الى الجنون)، وجاسم العقيلي (مابعد الرماد)، عبدالرحمن عايل (نكرة) ومنصور البدران (عنجليزي)، وطارق الدخيل الله (حنين شاعر)، ومحمد الباشا (عصافير الفردوس) وغيرهم، حيث يمكن بالإجمال حصر أكثر من خمسين مخرجًا سينمائيًّا من الشباب السعودي الطموح، والذي مازال يتلمس خطوات النجاح بشغف وتحدٍّ عبر المشاركة المتكررة في هذه المهرجانات السينمائية.

المجموعات السينمائية ... طريقة أخرى للعمل

كما أنه يمكننا ملاحظة أحد أهم ملامح هذه المرحلة، وهي تكون المجموعات السينمائية، حيث يعمد بعض الأصدقاء المهتمين سينمائيًّا لتكوين مجموعة يتعاون فيها الكل باختلاف مواهبهم وتجاربهم لإنتاج الأفلام القصيرة مثل مجموعة (القطيف فريندز) برئاسة فاضل الشعلة وعضوية عدد من الشباب السينمائي في القطيف مثل موسى ال ثنيان وبشير المحيشي واحمد الجارودي وجاسم العقيلي ، والتي بدأت مبكرًا، وهدفت في بادئ الأمر إلى التوجه نحو التسويق الشعبي مثل أول افلامهم (رب ارجعون) وهو فيلم وعظي رسالي حول شاب مقصر يرى حياته بعد الوفاة حيث انتشر الفيلم كثيرا بين اوساط الناس قبل أن تتجه المجموعة بشكل أكثر احترافية الى المشاركة في المهرجانات لتقدم عدة افلام مثل "شكوى الأرض" و "حلم بريء" لبشير المحيشي والذي كان فيلم افتتاح مسابقة الافلام السعودية بالدمام حول صبي وحلمه البريء في امتلاك آلة تصوير و"العصفور الازرق" لموسى آل ثنيان وأفلام اخرى يغلب عليها الطابع الانساني والتوعوي لكنها تحقق افضل إنجازاتها عبر فيلم (بقايا طعام) 2007م للمخرج موسى آل ثنيان حول موضوع الفقر والبؤس فيما نجح الفيلم بالحصول على جائزة أفضل فيلم في مسابقة أفلام من الإمارات الدورة السابعة 2008م، وجائزة النخلة الذهبية لأفضل فيلم روائي في مسابقة أفلام السعودية الدورة الأولى 2008م، وجائزة أفضل فيلم روائي في مهرجان جدة السينمائي الدورة الثالثة.

ثم في عام 2009م تنطلق مجموعة تلاشي السينمائية بعضوية تسعة من الشباب السينمائي القادم من خلفية المتابعة السينمائية المكثفة والكتابة النقدية الصحفية مثل: محمد الظاهري في فيلمه (شروق / غروب) حول يوم في حياة طفل يعمل بعد المدسة بائعا في احدى شوارع الرياض فيتعرض لمواقف لا إنسانية، و حسام الحلوة في فيلمه (مابي) حول الفرد والجماعة واشكالية التمرد والقطيع، و (عودة) حول زوج يعيش لحظات اتخاذ قرارا صعبا في حياته ليحرر نفسه كما يرى في الوقت المناسب، وفهد الاسطاء في فيلمه (تجربة في الطابق السابع) وثائقي حول الصداقة وشغف السينما حينما يقوم المخرج بتحدي ثلاثة من اصدقائه ليقوموا بإخراج أفلام حسب شروط محددة وصعبة، ومحمد الخليف في فيلمه (حسب التوقيت المحلي) يتعرض بشكل ساخر لموضوع اغلاق المحلات مع الاذان من خلال حكاية شاب يبحث عن شيء يأكله، و محمد الحمود في فيلمه (ظلال) والذي يقدم بلقطة واحدة طويلة قصة فتاة وأختها تقرران الذهاب للسوق في اسقاط حول اشكاليات جدلية في المجتمع مثل زواج الصغيرات والحجاب بالإضافة للمصور والمونيتير تركي الرويتع وعبدالمحسن الضبعان وعبد المحسن المطيري ونواف المهنا والذين سبق الحديث عن افلامهم حيث قدمت المجموعة سبعة أفلام في مهرجان الخليج 2009م حظيت بإعجاب جيد وإثارة لافتة للجدل عبر موضوعات أفلامها وطريقة تنفيذها دفع بلجنة التحكيم لمنحها شهادة تقدير " لسعيها في تأسيس سينما شابة في السعودية " ، كما قدمت في السنة التي تليها خمسة أفلام أخرى محققة نجاحًا جيدًا في مجمل مشاركاتها بفوز فيلمي (شروق/ غروب)، و(عودة).

وفي حين تراجعت المشاركة السعودية خلال آخر سنتين على مستوى الكم، وبحسب مستوى النجاح أيضًا، إلا أنها عادت هذه السنة 2013م من خلال نجاح كبير بفوز الفيلم الطويل (وجدة)، والأفلام القصيرة (حرمة)، و(سكراب)، و(مجرد صورة) في مهرجان الخليج السينمائي في دورته السادسة.

الفيلم الطويل .. يبدأ

كما أن هذه المرحلة شهدت إنتاجًا ليس بالكثير على مستوى الأفلام الروائية الطويلة، يأتي في مقدمتها الفيلم الأهم حتى الآن، والأفضل بجوائزه المتعددة فيلم (وجدة) لهيفاء المنصور، وقبله في عام 2006م كان هناك فيلم المخرج عبد الله المحيسن (ظلال الصمت) كأول فيلم سعودي روائي طويل شارك من خلاله في مهرجان أبوظبي، وفاز في مهرجان القدس السينمائي. ترشح الفيلم للمسابقة النهائية لمهرجان روما 2007م، ونافس معه 15 فيلمًا من بلدان مختلفة.

وهو يناقش أزمة الفرد العربي الواقع تحت وطأة الحاضر، ورعب المستقبل، والمحمل بتراكمات الماضي من خلال قصة يمتزج فيها الواقع بالخيال، حيث يعمد أحد الأنظمة المتسلطة باستبدال طرقه القديمة في السيطرة إلى طريقة جديدة من خلال إنشاء معهد منعزل في قلب الصحراء يبدو في ظاهره مركزًا للعلاج بالتنويم، والتأهيل بالتنويم، والتأهيل بتنمية القدرة على التحكم في النفس، وتزاول فيه، في الحقيقة، التخدير وغسيل المخ لتدمير الكفاءات الخارجة عليه. وجاء هذا الفيلم بالتزامن أيضًا مع فيلم آخر في سباق نحو تحقيق أول فيلم سعودي روائي طويل وهو فيلم (كيف الحال) الذي أنتجته شركة (روتانا) لكنه -كما يبدو- ليس سعوديًّا بدرجة كافية، حيث أخرجه الكندي "ايزدور مسلم"، وكتبه المصري بلال فضل، فيما أدى البطولة السعودي هشام عبد الرحمن، بمشاركة ممثلين من السعودية والخليج والدول العربية، لكن الفيلم يسجل نفسه كأول فيلم سعودي يعرض بشكل تجاري عبر الصالات السينمائية قبل أن تعود روتانا عام 2008م مرة أخرى لتقديم فيلم آخر، وبنفس الطريقة من خلال الممثل الكوميدي فايز المالكي في شخصيته الشهيرة (مناحي) المتصفة بالعفوية والبساطة والذكاء الفطري، حينما يترك الصحراء ليذهب إلى المدينة؛ فيواجه صعوبة التأقلم فيها، من قصة مازن طه، وإخراج: أيمن مكرم، ويحتفظ هذا الفيلم بشهرة كونه أول فيلم سعودي يعرض تجاريًّا داخل السعودية بشكل رسمي قبل أن يكثر الجدل الذي أدى إلى إيقاف عرضه بعد أن عرض في جدة والطائف ثم الرياض. ويتزامن في نفس العام أيضًا تقديم الممثل راشد الشمراني فيلمه الطويل (صباح الليل)، والذي شارك به في مهرجان الخليج السينمائي في دورته الأولى، وحظي بشهادة تقدير عن دوره في هذا الفيلم الذي أخرجه السوري مأمون البني، لكنه من قصة وسيناريو راشد الشمراني الذي حاول في هذا الفيلم أن يمارس نوعًا من الإسقاطات السياسية والاجتماعية عبر شخصيته الشهيرة (سائق الشاحنة أبو هلال) حينما يجد طريقة للعودة بالزمن إلى الوراء ليحاول ببساطته وظرافته المعهودة التدخل في تغيير مجرى ثلاثة من حوادث التاريخ العربي الشهيرة.

وبالإضافة لما سبق ذكره مثل أفلام (وجدة) لهيفاء المنصور، و(صدى) لسمير عارف، و(انتقام) لوليد مطري الفائز بالجائزة الثانية في مهرجان الخليج 2009م. فإن قائمة المشاركات السعودية للأفلام الروائية الطويلة في مهرجان الخليج السينمائي ومهرجان أبوظبي وغيرها تضم أيضا فيلم (المؤسسة) لفهمي فرحات، وأفلام الرعب المتناسخة من بعضها مثل (القرية المنسية) عام 2008م لعبد الله أبو طالب حول مجموعة شباب سعوديين وسياح أجانب في زيارة لقرية معزولة يتبين أن الأرواح تسكنها، و(الشر الخفي) لمحمد هلال حول فلة مسكونة بالأرواح والأحداث المرعبة، وكان الفيلم قد شارك في مهرجان الخليج 2010م. و(وادي الأرواح) والذي عرض أيضًا تجاريًّا لجراح الدوسري حول معلم يُعيَّن في منطقة نائية، فيواجه في طريقه أحداثًا وأرواحًا مرعبة أيضًا. وهو ثاني تجربة لجراح، والذي كان قد سبقها بتجربة فيلم روائي طويل أيضًا من نوع الغموض والإثارة والخيال العلمي بعنوان (استنشاق الهاوية) عام 2006م.

السعوديون يصنعون مهرجاناتهم

بقي أن نشير إلى أن هذه المرحلة المتعلقة بالمهرجانات السينمائية انعكست ولفترة مؤقتة بشكل إيجابي تجاه الداخل السعودي، حيث أقيمت عام 2008م أول مسابقة أفلام سعودية وبشكل مهرجاني مقارب لمهرجانات السينما عامة من حيث العروض والفعاليات والتي تولى رعايتها النادي الأدبي، وجمعية الثقافة والفنون بالمنطقة الشرقية، وشارك فيها 33 فيلمًا سعوديًا داخل المسابقة بفروعها الروائية والوثائقية والأنميشن، بالإضافة لعدد من الأفلام السعودية والخليجية خارج المسابقة بلجنة تحكيم يرأسها الناقد السينمائي البحريني الكبير أمين صالح وعضوية الناقد خالد ربيع السيد والمخرج المعروف عبدالخالق الغانم والاديب الدكتور مبارك الخالدي وفهد الاسطاء وحقق المهرجان وقتها نجاحًا جيدًا ولافتًا على مستوى التنظيم أيضا يقف خلفه الأديب الشاعر أحمد الملا مدير المسابقة والذي جاء بفكرة المسابقة وبذل الكثير حتى تحققت واقعا جميلا اختتم فعالياته في حفل توزيع الجوائز بحضور وزير الثقافة والإعلام حينها الدكتور إياد مدني الذي أبدى سعادته بالمهرجان، ووعد بمستقبل أفضل للسينما والشباب السينمائي في السعودية، لكن المؤسف ذكره أن المسابقة لم تقدِّم سوى دورتها الأولى فقط قبل خمس سنوات! وفي الجهة المقابلة وعلى ضفاف المنطقة الغربية كان هناك المهرجان الأسبق، والذي بدأ عام 2006م كمهرجان عروض بمسمى مهرجان جدة للعروض المرئية تحت رعاية شركة رواد ميديا بقيادة الإستاذ والمخرج ممدوح سالم قبل أن يتحول في دورته الثالثة عام 2008م لمسمى مهرجان حقيقي، وبرعاية شركة روتانا بمسمى "مهرجان جدة للأفلام"، حيث تقترب أجواؤه بتنظيمه وفعالياته من مسمى المهرجانات السينمائية الحقيقية مبشرة بميلاد مهرجان سينمائي سعودي منافس قبل أن تتحطم أحلام الشباب السينمائي في السعودية بإلغاء المهرجان صبيحة افتتاح الدورة الرابعة عام 2009م فيما كان المشاركون والضيوف قد حطوا رحالهم في فندق الاستضافة! حيث يعزو الكثير السبب في ذلك لما ذكره جورج سادول قبل اربعين سنة وهو الموقف الديني تجاه السينما وفعاليات الأفلام عامة ومن ثم الاستجابة الحكومية لمثل هذا الموقف!

كما يجدر الإشارة الى أنه وفي نفس العام 2008م – احدى سنوات السينما الذهبية سعوديا - والذي افتتحت فيه مسابقة الأفلام السعودية كان هناك وعلى الساحل الشرقي أيضا الدورة الأولى – والوحيدة ايضا - لملتقى الأفلام القصيرة بالأحساء والمنظم من قبل لجنة الفنون المسرحية التابعة لجمعية الثقافة والفنون والذي اختتم فعالياته بحصول مجموعة القطيف فريندز على أربع جوائز من أصل ثمان هي أفضل قصة وافضل فيلم متكامل ( بقايا طعام) وأفضل تصوير وأفضل ممثل (شكوى الأرض).

وحيث إن شركة روتانا ظلَّت دائمة بهذا القرب من السينما فإنها بدأت عام 2012م بالدورة الأولى "لمهرجان الفيلم السعودي" واستمرت لدورات أخرى حيث يتقدم المشاركون بأفلامهم التي يتم عرضها فقط عبر شاشة روتانا يوميًّا طيلة أيام المهرجان أمام لجنة تحكيم تعطي رأيها بشكل مباشر، فيما يتم إعلان الفائزين في وقت لاحق وهذا ما يجعله مهرجانًا بشكل صوري نوعًا ما، حينما يفتقد التجمع الحقيقي للمهرجانات السينمائية، حيث ملتقى السينمائيين وسط فعاليات متعددة، وتبادل للخبرات ونقد التجارب. لكننا لا يمكن بأي حال سوى الإشادة بخطوة شركة روتانا التي تعاملت وفق الواقع المفروض حتى الآن سعوديًا تجاه السينما وشبابها.

المرأة السعودية .. مخرجة ناجحة ومميزة

ومما يلزم الإشارة إليه أيضا وسط هذا التصاعد الحركي سينمائيا في السعودية منذ بدايتها منتصف العقد الأول من الالفية الجديدة ومن ثم خروجها نحو العالم عبر المشاركات الخارجية إلى ظاهرة تبدو مميزة للغاية وتشكل إحدى سمات صناعة الأفلام في السعودية وهي وجود " المخرجة " السعودية التي تكاد تتفوق باستمراريتها وإنجازاتها خاصة بالنظر إلى فارق الظروف والإمكانيات والقبول الاجتماعي. فبعد المخرجة هيفاء المنصور التي يمكننا اعتبارها حاليا المخرجة السعودية الأشهر من بين المخرجين السعوديين إجمالا ليس بسبب بداياتها المبكرة نسبيا فحسب وإنما استمراراها في مسيرة الاخراج السينمائي وصولا لعالم هوليوود  حينما قدمت  فيلما أمريكيا بنجوم معروفة مثل ايلي فانينغ و ميسيا ويليامز العام الماضي عبر فيلم Mary Shelley عام 2017م . ثم فيلمها عبر شبكة نتفليكس Nappily Ever After عام 2018م سنجد قائمة أخرى كبيرة من العمل والإنجاز السينمائي لعدد من المخرجات السعوديات طيلة السنوات الماضية مثل المخرجة المميزة عهد كامل قد تواجدت في فيلم هيفاء بدور رئيسي في فيلمها وجدة كممثلة رائعة استطاعت مؤخرا عام 2018م أن تحقق إنجازا مهما حينما شاركت في تمثيل دور مهم في المسلسل البريطاني Collateral بجانب النجمة كالري موليغان ومن تأليف الكاتب ديفيد هير الذي سبق وأن كتب أفلاما مهمة مثل " الساعات " والقارئ" , لكن عهد كامل قبل ذلك كانت قد قدمت نفسها كمخرجة متميزة منذ عام 2009م بفيلم قصير بعنوان "القندرجي"  من بطولة المصري عمرو واكد في دور  إسكافي عراقي، يعود إلى عائلته بعد أن أسرته قوات الاحتلال ظلماً لمدة عامين كاملين. حيث تلاحقه ذكريات كئيبة حتى منزله. وهو الفيلم الذي فاز بجائزة «ألف» الذهبية لأفضل فيلم شرق أوسطي قصير وذلك في الدورة العاشرة لمهرجان بيروت الدولي للسينما وجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان وهران الجزائري 2010م كما فاز بالمركز الثاني كأفضل فيلم قصير في مهرجان الخليج السينمائي في دبي في دورته الثالثة. قبل أن تكرر هذا الانجاز مرة أخرى حينما فاز فيلمها الأخير " حرمة " بالمركز الثاني ايضا في دورة مهرجان الخليج السينمائي عام 2013م وتكرر انجاز الفوز ايضا بذهبية مهرجان بيروت السينمائي في دورته الثالثة عشر من بين اكثر من 70 فيلما عربيا قصيرا كما شارك الفيلم ضمن المسابقة الرسمية في مهرجان برلين للأفلام القصيرة. حيث يحكي الفيلم بحس إخراجي مميز قصة امرأة يموت عنها زوجها وهي حامل لتبقى وحيدة تصارع من أجل بقائها وتحسين معيشتها وسط إجحاف القانون ومطامع الآخرين حولها .

ويزامن تلك الفترة مخرجة مختلفة في رؤيتها الفنية وهي  ريم البيات والتي تواجدت ايضا مع بدايات الصناعة الفيلمية النسائية أواخر العقد الاول حيث كانت قد بدات أول أفلامها  " ظلال " عام 2008م مشاركة حينها في مهرجان الخليج السينمائي بدبي , لتتوجه بعدها بفيلم ذي طابع تجريبي مثير حينما اعتمدت أكثر من 5000 صورة فوتغرافية لتكوين فيلما قصيرا مدته 6 دقائق بعنوان " دمية " والذي اختير في مهرجان «الربيع العربي» في باريس وشارك في الدورة الثالثة لمهرجان الخليج السينمائي في دبي حيث يتناول الفيلم  في إسقاطة ذكية وحادة موضوعا مؤلما حول زواج القاصرات !! بينما حققت أكثر انجازاتها بما يقارب 11 ترشيحا في مهرجانات دولية وفوزها كأفضل مخرجة في مهرجان مدريد وميلان 2017م  بفيلمها القصير الأخير "ايقظني" والمشارك في مهرجان دبي السينمائي في مسابقة المهر الخليجي القصير و الذي تسرد فيه بحس شعري لمدة 24 دقيقة قصة أزمة منتصف العمر عبر امرأة تحاول استعادة هويتها في ظل احساسها بالرفض الاجتماعي والشعور بالتأنيب .

ومن عالم الكتابة الفنية والنقدية في الصحف والمجلات وكتابة النصوص الدرامية تأتي المخرجة هناء العمير لتقدم أول أفلامها عام 2009م بفيلم وثائقي مفعم بالموسيقى بعنوان " بعيدا عن الكلام " ترصد فيه زيارة فرقة ارجنتينية تعزف التانغو للرياض ولقاءها بفرقة غنائية سامري من عنيزة. وكان الفيلم قد شارك ايضا تلك السنة في مهرجان الخليج السينمائي قبل أن تعود هناء مرة أخرى لاخراج أول افلامها الروائية القصيرة بعنوان " شكوى " والحاصل على الجائزة الأولى " النخلة الذهبية " كأفضل فيلم في مهرجان الأفلام السعودية في دورته الثانية عام 2015م , حيث يحكي الفيلم قصة أمرأة موظفة تتداخل في حياتها مشاكل وضعها المهني وحياتها العائلية ليخلق لديها ارتباكا  نفسيا ربما يؤثر عليها  في اتخاذ قراراتها , وكانت هناء قد أحدثت تعاونا ناجحا مع المخرجة هند الفهاد في كتابة سيناريو فيلم "بسطة" 2015م للمخرجة هند والفائز بجائزة أفضل سيناريو في مسابقة الفيلم السعودي في مركز الملك فهد الثقافي 2017م وقبلها حقق أهم جوائزه وهي جائزة لجنة التحكيم الخاصة لافضل فيلم خليجي قصير في مهرجان دبي السينمائي  عام 2015م والنخلة الفضية في مهرجان الأفلام السعودية  وأفضل فيلم في مهرجان الشباب للأفلام في جدة والمركز الثالث كأفضل فيلم خليجي في مهرجان دول مجلس التعاون في أبوظبي . وبعد هذا النجاح الكبير في فيلم "بسطة"  والذي يحكي وقائع يوميات النساء البائعات على الأرصفة . تستعد حاليا المخرجة هند الفهاد لفيلمها الجديد " شرشف " الذي يأتي كرابع أفلامها بعد "ثلاث عرائس وطائرة ورقية" عام 2012م و يتحدث عن تنميط المجتمع للمرأة وتحديد فرص تطلعها المستقبلية , وكان الفيلم قد شارك في مهرجان ابوظبي ومهرجان الأفلام السعودية في دورته الثانية 2015م , ثم فيلم "مقعد خلفي" عن دكتورة تتعطل حياتها وتنقلاتها المتعددة بسبب عدم قدرتها على قيادة السيارة في لفتة نحو موضوع تمكين المرأة في المجتمع بضرورة اعطائها حقوقها على قدر المساواة مع الرجل حينما تتكفل ايضا بنفس المسؤوليات. وهو الفيلم الذي كان قد شارك ايضا في مهرجان الخليج السينمائي 2013م ومهرجان الفيلم العربي في اريزونا.

في عام 2014م يبرز ايضا اسم شهد أمين حينما فاز فيلمها "حورية وعين" بجائزة أفضل فيلم وافضل تصوير في مهرجان ابوظبي في مسابقة الأفلام الروائية القصيرة والجائزة الثانية "النخلة الفضية"  في مهرجان الأفلام السعودية  في دورته الثانية 2015م وكان الفيلم قد شارك أيضا  2013م  في برنامج اصوات خليجية في مهرجان دبي السينمائي حيث يحكي الفيلم في دراما فانتازية جميلة قصة الفتاة الصغيرة حنان التي تعيش مع والدها الصياد على ساحل البحر لتكتشف انه يقوم بصيد الحوريات لانتزاع اللآلئ منها !

المخرجة شهد امين خريجة معهد متروبوليتان الفني في لندن كانت قد درست ايضا كتابة السيناريو في نيويورك كانت قد بدأت أول أفلامها "موسيقانا" ثم "نافذة ليلى" عام 2012م والذي تم عرضه في الدورة الخامسة من مهرجان الخليج السينمائي حول طفلة صغيرة منعزلة خلف نافذة غرفتها في عالم وهمي تسعى فيه لمعرفة لغز الحياة.

فيما تستعد حاليا المخرجة شهد لتجربتها الروائية الطويلة عبر فيلم "حراشف" عبر حكاية فتاة صغيرة تتجاوز حادثا موجعا لتمارس حياتها وسط وحدتها وانعزالها.

وفيما تقوم المخرجة هناء الفاسي حاليا بدراسة  الماجستير تخصص سينما في أكاديمية نيويورك للأفلام  في أمريكا لتعزيز موهبتها وشغفها السينمائي بعد ان  كانت قد تخرجت  سابقا من اكاديمية فنون وتكنولوجيا السينما لرأفت الميهي في مصر وبذات اولى تجاربها الفعلية مع فيلم تجريبي قصير بعنوان  "جاري التحميل" والحاصل على جائزة افضل فيلم وافضل مخرجة في مهرجان أمريكا السينمائي الدولي بميتشيغان قسم الافلام التجريبية  والجائزة الفضية للأفلام القصيرة من مهرجان كاليفورنيا وهو حول رجل يتم دفنه في إحدى المقابر لكنه يحاول النهوض حال انصراف الناس ليلحق بالحياة من جديد. وهو الفيلم الذي بدأت فيه علاقاتها مع المهرجانات السينمائية حينما شاركت في مهرجان الخليج السينمائي عام 2010م . قبل ان تتوجه لموضوعات أكثر تحديدا وواقعية كما في فيلم "السحور الأخير" 2016م والذي يستعرض قصة مجموعة من النساء العربيات المقيمات في الخارج حينما يجتمعن لتناول السحور الأخير في آخر ايام شهر رمضان بمشاركة مع فتيات امريكيات لتبدا حينها الحوادث والمفارقات الكوميدية. ثم الفيلم الاكثر درامية وملامسة اجتماعية  "حلاوة" عام 2017م والذي شارك في مسابقة المهر الخليجي القصير في مهرجان دبي السينمائي حيث يحكي الفيلم قصة فتاة تصل لسن البلوغ لتضطر لإخفاء الأمر عن عائلتها حتى تتجنب ارتداء الحجاب وتغطية وجهها !

فيما يبدو مشروعها القادم مع فيلمها الروائي الطويل الاول " رجال الورد " والذي قد وقع عليه الاختيار للمشاركة في ملتقى دبي السينمائي كما اعلنت ذلك الهيئة الملكية الاردنية للأفلام بعد مشاركة المشروع في البرنامج التدريبي: محترف الشرق الأوسط للأفلام وقبوله في ورشة راوي وميد فيلم فاكتوري.

ومن الملفت للنظر كثيرا في السنوات الأخيرة هو ازدياد شريحة المخرجات السعوديات حيث سنلحظ أن الدورة الثالثة من مهرجان أفلام السعودية  2016م قد بلغ المشاركة فيه22 مخرجة سعودية قياسا بالدورة الثانية التي شارك فيها 9 مخرجات فقط فيما تواجد في الدورة الرابعة 12 مخرجة مشاركة  حيث تبرز في هذه المرحلة  مجموعة من الاسماء الجديدة المميزة اخراجيًا مثل مها الساعاتي التي تقدم أفلامها بطريقة تجريبية وغرابة درامية فنية حيث شاركت عام 2016م في مهرجان أفلام السعودية بفيلم "عش ايلو"  ويروي  حكاية  صديقتين تلعبان  بالدمى فيما تظهر امرأة غريبة لتخبرهن عن أسطورة أسوانق الفلبينية، والتي ينفصل رأسها عن جسدها للبحث عن دماء البشر. يحرك الفضول إحداهن للبحث عن عش هذا الوحش في حقول مجاورة، فتضطر صديقتها لمواجهة مخاوفها الدفينة. ثم شاركت من العام التالي بأحد افضل أفلام مهرجان أفلام السعودية في دورته الرابعة 2017م بفيلم " الخوف : صوتيا " حينما تفصح المخرجة عن مشاعر أنثوية مرتبكة وكأن عدة أطراف " ذكورية " تساهم في صنع اوهامها حيث تلوح علامات القيامة في الأفق، فيما تنتظر أمل سماع الصوت الذي سينهي البشرية. وفي خضم صراعها مع أحاسيس الخوف والذنب، يغزو ضيوف غير متوقعين مقر عملها " كما يبرز ايضا اسم المخرجة هاجر النعيم  طالبة إنتاج وإخراج سينمائي بكلية الأفلام بجامعة لايولا ماريمونت بلوس أنجلوس، ونالت شهادة الإنتاج السينمائي من كلية الأفلام بجامعة كاليفورنيا والتي شاركت ايضا عام 2016م في مهرجان أفلام السعودية بفيلم "أمل" حول طبيبة تسعى لإنقاذ والدتها المصابة بمرض نادر بصنع دواء جديد تقوم بتطويره , لكن مشاركتها الأبرز كانت في مسابقة المهر الخليجي القصير في مهرجان دبي السينمائي بفيلم "احتجاز"  2017م  والذي يروي قصة الفتاة السورية لارا، التي سافرت إلى أمريكا بعد تفاقم أحداث العنف والحرب في بلادها، إلا أن خيبة الأمل كانت سيدة المشهد عندما أوقفها الأمن القومي الأمريكي، إثر تورط والدها في أحداث إرهابية وقعت في مطار لندن. فيما شاركت ايضا في مهرجان دبي السينمائي 2015م في مسابقة المهر الخليجي القصير ندى المجددي إحدى دارسات السينما في لوس انجلوس بفيلمها " كيكة زينة " والفائز ايضا بجائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان الشارقة السينمائي الدولي للطفل حيث يروي الفيلم بأسلوب كوميدي خفيف قصة الفتاة زينة التي تحولت هوايتها في صنع الكيكة الى مجال عمل مؤثر في حياتها وعلاقاتها! وفي نفس المسابقة كانت هناك ايضا المخرجة السعودية الشابة مرام طيبة والتي قدمت فيلم "منكير" في دراما تسعى فيه دينا إلى ايجاد حلا سحريا  لتحسين علاقتها الزوجية رغم ظروف البعد . والمخرجة رنا الجربوع التي قدمت فيلما وثائقيا بعنوان " هجولة " حيث تفصح المخرجة بطرافة عن إحدى أغرب الهوايات واخطرها "التفحيط"  مما يمارسه الشباب في السعودية بسياراتهم .

مخرجون جدد..يلحقون بالركب

ومن جهة أخرى لابد أيضا من الاشارة إلى تلك الأسماء الجديدة في السينما التي ظهرت في السنوات القريبة ممن حققت إنجازات مشهودة داخل السعودية وخارجها مثل المخرج عبدالعزيز الشلاحي الفائز بالجائزة الأولى لأفضل فيلم قصير في مهرجان أفلام السعودية في دورتين متتاليتين عبر فيلمي "كمان" و "المغادرون" ومحمد الهليل الفائز بجائزة أفضل فيلم روائي قصير في مهرجان بيروت السينمائي عن فيلم "ماطور" وجائز لجنة التحكيم في مسابقة المهر الخليجي القصير في مهرجان دبي السينمائي عام 2016م وأفضل فيلم طلبة في مهرجان أفلام السعودية عن فيلم «300 كم» و محمد سلمان الفائز بجائزة أفضل إخراج لفيلم "السيكل" بمهرجان الفيلم السعودي 2013م وجائزة النخلة الذهبية لفلمه الوثائقي "أصفر" في مهرجان افلام السعودية 2016م , أفضل مخرج عن فيلم ثوب العرس بمسابقة الاقلام القصيرة بالرياض ٢٠١٨م

  ومحمد السلمان مخرج فيلم " لسان " الفائز في مهرجان أفلام السعودية في دورته الرابعة بجائزة لجنة التحكيم. وحسين المطلق صاحب فيلم "عاطور" الذي شارك في مهرجان مالمو في السويد ومهرجان الشارقة. وفيلم " باص 123" والذي شارك ضمن " أصوات خليجية " في مهرجان دبي السينمائي 2014م .. وغيرهم من المخرجين. كما أن برنامج الابتعاث كان فرصة للعديد من الشباب السعودي لدراسة السينما خارج المملكة ضمن أكاديميات وكليات متخصصة نتج عنها بروز بعض الأسماء الشبابية وتقديمها لأكثر من عمل ومشاركتها في عدد من المهرجانات لعل أبرزها المخرج رائد السماري الذي استطاع مؤخرا في يناير 2019م تحقيق إنجازا كبيرا بفوزه في مهرجان ساندانس الشهير بجائزة لجنة التحكيم للأفلام القصيرة العالمية غير الأمريكية حيث كان قد دخل المنافسة مع 51 فيلماً من مختلف دول العالم،

ومايكتبه السعوديون عن السينما ... يستمر

كما شهدت السنوات القليلة الماضية أيضا عودة التأليف السينمائي ففي عام 2012م أصدر الكاتب طارق الخواجي كتابه "قلعة الأنمي ..تجربة اقتحام" وبالرغم من تخصص الكتاب بالأنمي الياباني إلا إنه تعرض للكثير من أفلام السينما اليابانية والشهيرة في ثنايا بحثه الكبير والاستقصاء اللافت حديثا وتحليلا والذي يجعل الكتاب فريدا من نوعه وإضافة مهمة للمكتبة العربية تراكمت فيه المعلومات التي وضعها في عدة فصول تتناول تاريخ الأنمي والمانجا منذ بدياته وابرز تصنيفاته وثيماته الرئيسية وأهم رموزه في الكتابة والإخراج.

 ثم في عام 2016م تصدر الناقدة والمخرجة هناء العمير استجابة لفعاليات  مهرجان الأفلام السعودية في دورته الرابعة كتابها المميز وعيا وتحليلا والذي خصصته لسيرة وأفلام المخرج الياباني الكبير اكيرا كوروساوا بعنوان "ساموراي السينما اليابانية " ليشكل إضافة جديدة أيضا للمكتبة العربية حينما تناولت بكتابة رشيقة وممتعة أبرز خمسة عشر فيلما للمخرج الكبير كوروساوا بجانب ذكر شيء من حياته وعلاقاته الفنية مع من أسمتهم بمجموعة كوروساوا من مخرجين وكتاب ومصورين قبل أن تختتم الكتاب بترجمة الحوار الذي دار بين كوروساوا و الروائي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز.

و في عام 2017م يقدم الكاتب والناقد السينمائي حسن الحجيلي كتابه " السينما الجديدة ..تأملات في موت السينما بعد سيطرة الثورة الرقمية " والحقيقة ان الكتاب يحوي عددا من موضوعات وقضايا السينما المهمة والحديث عن المخرجين وسرد لقائمة بأهم الأفلام السينمائية أكثر مما يدل عليه العنوان! الذي أسهب فيه الكاتب بشكل ملفت حول أثر السينما الرقمية على شكل الفيلم والسينما الحديثة مختتما كتابه بفصل شيق ومهم بعنوان  " التذوق السينمائي " الذي ذكر فيه قائمة مختارة تمثل توصيته الخاصة بالمشاهدة لعدد من أبرز وأهم الأفلام منذ بداية السينما. كما أعلن الكاتب والمخرج فهد الاسطاء عام 2018م عن مدونته السينمائية Cinemesta.com والتي أدرج فيها كتاباته ورأيه عن أكثر من 1000 فيلم منوع ومختلف من أنحاء العالم فيما يستعد لتحويل هذا المحتوى الكبير لكتاب مطبوع.

قفزة كبرى .. أفلام طويلة تنافس خارجيًا

كما لايفوت الإشارة أيضا إلى إحدى الظواهر المهمة مؤخرا وهي إنتاج الأفلام الطويلة والمشاركة في المهرجانات والمحافل الدولية فبعد فيلم هيفاء المنصور " وجدة " عام 2013م يأتي المخرج محمود صباغ ليقدم عام 2016م  فيلمه الروائي الطويل الأول " بركة يقابل بركة " والذي استطاع أن يشارك في قسم اول فيلم في مهرجان برلين السينمائي كما حصل على جائزة Prize of the Ecumenical Jury كما شارك فيما مهرجان هونغ كونغ وبالمس برينغ قبل أن يعود مرة أخرى عام 2018م ليقدم فيلمه الطويل الثاني "عمرة والعرس الثاني" والذي شارك في مهرجان القاهرة السينمائي . كما يقدم في نفس السنة المخرج عبد المحسن الضبعان فيلمه الروائي الأول "آخر زياردة" والمخرج عبد العزيز الشلاحي فيلمه "المسافة صفر" وكلاهما بدعم من مكرز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي/إثراء ضمن مسابقة أيام الفيلم السعودي.

مرحلة اليوتيوب

وهي ليست مرحلة لاحقة بقدر ما جاءت متداخلة مع مرحلة المهرجانات السينمائية في السنوات الأخيرة كنتيجة طبيعية لانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، فرضتها ظروف التسارع في التقدم التقني، ومستوى التواصل الكبير عبر مواقع الإنترنت، وهي ما يمكن أن نسميها أيضًا بمرحلة أفلام "اليوتيوب والفيمو" أيضًا، لكن المواقع الأخرى -مثل تويتر والفيسبوك- تبدو المواقع الأفضل للدعاية والنشر، حيث يبدو الهدف الأساسي عبر استهداف الجمهور السعودي للمشاهدة، والذي لا يتمكن غالبًا من مشاهدة الأفلام السعودية المعروضة دائمًا خارج السعودية، بالإضافة لكون أفلام هذه المرحلة تعنى بشكل كبير بتلك القضايا الإنسانية والاجتماعية، والسعي وراء إيصال صوتها لأكبر شريحة ممكنة وهو ما يتحقق دائمًا حينما ننظر مثلاً لتجربة المخرج بدر الحمود، الذي حقَّق عبر فيلمه اليوتيوبي (مونوبولي) حول مشكلة السكن في السعودية أكثر من مليون مشاهدة خلال أسبوع واحد فقط، وهو ما يشكل أضعاف مشاهدة جميع الأفلام السعودية منذ بدأت. ومما يجدر ذكره أن المخرج الحمود أبرز وأنجح مخرجي هذه الفترة كرر نجاحه وإن كان بشكل أقل عبر فيلمي (كروة) حول البطالة، و(عمار)، الذي يلقي الضوء على حالة من الإعجاز وتحقيق المستحيل بطلها الشاب المقعد تمامًا عمار بوقس. وفي هذا المجال أيضا كانت انطلاقة القناة الأشهر حاليا في تقديم الأفلام وهي " تلفاز 11" والتي منها عرف الكثير أسماء المخرجين مثل علاء يوسف وعلي الكلثمي صاحب فلم " وسطي " و مشعل الجاسر صاحب فيلم «سومياتي بتدخل النار» كما وكان اليوتيوب أيضا انطلاقا لعدد من المخرجين الذي قدموا فيما بعد أفلاما سينمائية لافتة مثل المخرج علي السمين الفائز بجائزة أفضل تصوير عن فيلم  "لا أستطيع تقبيل وجهي" والمخرجان فارس وصهيب قدس اللذان قدما الفيلم الكوميدي ضمن مسابقة أيام الفيلم السعودي " ومن كآبة المنظر " وعبدالرحمن صندقجي صاحب الأفلام الوثائقية " جليد " "آل زهايمر" "الكهف" و "جليد" الفائز بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان أفلام السعودية 2017م..وعبدالرحمن جراش صاحب فيلمي "كداد" و "مزبن" .. و أنجي مكي صاحب فيلم " بدري" و محمد الملا صاحب فيلم "ماتبقى"  وعبدالرحمن الجندل صاحب فيلم "جابر" وغيرهم آخرون

وبالإضافة لكون هذه المرحلة أيضًا وسيلة للكسب التجاري بطريقة ما فإنها أيضًا ستظل - ولفترة طويلة - الخيار الأولي لعدد من المخرجين الراغبين بإيصال أصواتهم حول قضاياهم التي يؤمنون بها، أو طرح رؤيتهم السينمائية عبر أفلامهم وتلقي آراء المشاهدين حولها بشكل مباشر، والحصول على قدر كبير من المشاهدين وسط انعدام إقامة المهرجانات السينمائية في السعودية، وصعوبة المشاركة أحيانًا في المهرجانات الدولية، والتخلي التام من قبل الوزارات المعنية والأجهزة الحكومية عن دورها في دعم الصناعة السينمائية في السعودية. في تلك الفترة قبل أن تتغير الأمور جذريا.

مرحلة الدعم والانتشار

وهي المرحلة التي نعيشها حاليا والتي تمثل أصدق انعكاس لرؤية وطموح وعمل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بن عبدالعزيز   وتحت قيادة والده الملك سلمان حفظهما الله  تزامنا مع كل التغيرات الكبيرة والجميلة التي تشهدها السعودية في أكثر من مجال ومنها المجال الفني والترفيهي  حيث يمكننا القول الآن أن كل هذا الشغف والطموح والإصرار الذي بدأ منذ أكثر من عشرين سنة لدى الشباب السينمائي السعودي يعيش الآن تتويجا كبيرا بسبب الدعم الرائع الذي تتلقاه السينما وصناعها في السعودية حكوميا ومؤسساتيا مابين الدعم المادي والمعنوي والرعاية الحكومية  ففي الحادي عشر من ديسمبر 2017 تم الإعلان عن السماح بافتتاح صالات العرض السينمائية مما سيشكل مستقبلا فرصة كبيرة لاستمرار الإنتاج السينمائي السعودي متى ما وصلت الصناعة الى مرحلة مقنعة على المستوى الفني والجذب الجماهيري والعائدات المالية . ثم في العشرين من مارس 2018 أعلنت الهيئة العامة للثقافة في السعودية ما يمكن اعتباره مفصلية في صناعة السينما السعودية ونجاحاتها المنتظرة ..حينما أعلنت عن إنشاء " المجلس السعودي للأفلام" معبرة عن هذا الأمر بأنه " يأتي دعما للتنمية المستدامة لقطاع صناعة الأفلام في المملكة... و دعم المواهب، وتطوير القدرات الاستثمارية، لخلق قطاع حيوي ومزدهر لصناعة الأفلام والمحتوى الإبداعي." كما غرد حساب الهيئة في تويتر.

فيما جاء في الخبر الذي حملته الصحف والمواقع الإخبارية ذلك الوقت بأن إنشاء هذا المجلس " يهدف إلى تطوير قطاع حيوي وبيئة مزدهرة لصناعة الأفلام والمحتوى في المملكة، من خلال آليات التنمية الاستراتيجية والمستدامة، عبر المحاور الرئيسة للقطاع: "برامج التنمية والرعاية المتكاملة للمواهب، والأطر التشريعية والتنفيذية الداعمة والمرنة، والبنية التحتية والتقنية المتطورة للإنتاج الفني، وإتاحة الحلول والخيارات التمويلية، ومبادرات تطوير القطاع الثقافي بشكل عام في المملكة والترويج له ولهوية المملكة وثقافتها، داخل وخارج المملكة" .

ومن جهة أخرى  فإنه خلافا للمهرجان الأول في السعودية " مهرجان أفلام السعودية " في الدمام-أصبحت المسابقات والمهرجانات والعروض منتشرة بشكل كبير في أنحاء المملكة عبر جمعيات الثقافة والفنون والمراكز الثثافية وبعض الجهات المهتمة كما تقوم القنوات الفضائية أيضا مثل القناة السعودية بعرض البرامج المتخصصة في السينما ومنها البرامج التي تعرض أفلاما سعودية لعدد من المخرجين الشباب كما هو برنامج " أفلام على السعودية " فيما يأتي الدعم المالي الأكبر حتى الآن هو ما قام به مرز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي /إثراء التابع لأرامكو حينما أعلن عن مسابقة " أيام الفيلم السعودي " حيث يتقدم الراغبون من السينمائيين بتقديم نصوصه القصيرة والطويلة ثم يتم بعد عدة لجان اختيار سبعة أفلام قصيرة وفيلمين طويلين ليتم دعمها بشكل مالي كبير ودعم مخرجيها عبر عدد من الدورات المهمة داخل المملكة وخارجها وقد شهدت الدورة الأخيرة فوز سبعة نصوص قصيرة هي "لون الروح" لفهد الاسطاء،"مخبزنا" أنميشن لأبرار قاري . " صلة " لحسام الحلوة . " الكهف " وثائقي لعبدالرحمن صندقجي. خمسين ألف صورة " لعبدالجليل الناصر" ولد سدرة " لضياء يوسف. "ارتداد" لمحمد الحمود .  ونصين طويلين هما "آخر زيارة" من كتابة فهد الاسطاء وعبد المحسن الضبعان الذي قام أيضا بإخراج العمل و " المسافة صفر " من كتابة مفرج المجفل وإخراج عبد العزيز الشلاحي وتم الانتهاء من تصوير جميع هذه الأفلام والتي سيتم عرضها خلال عام 2019م إضافة لمشاركتها في عدد من المهرجانات الدولية. وهي السنة الثانية التي تقوم فيها إثرا ء بمثل هذا الدعم لكنها الدورة الأولى التي تجعل الدعم منوطا بالفوز حين تقدم النصوص .حيث سبق في عام 2016م دعم مجموعة أخرى من الأفلام القصيرة والتي تم عرضها أيضا في عدد من الدول خارجيا وأهمها العرض الشهير في لوس أنجلوس حيث ذكر حينها موقع NEW BAY MEDIA الامريكي في  سياق تقرير ترجمته عنه الرياض بوست  ان مدينة هوليوود تسعى لتبني جيل جديد من صناع السينما في  المملكة العربية السعودية  مشيرا الى ان هذا الحدث هو الاول من نوعه الذي يحتفل  بالمواهب الإبداعية السعودية في قلب عاصمة السينما العالمية. كما نظم مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي «إثراء»، في الفترة من 10-16 أكتوبر 2017م، فعالية «أيام الفيلم السعودي» في العاصمة الإنجليزية لندن، والتي تأتي ضمن جولة تعريفية للأفلام السعودية، إلى الاحتفاء بصناع الأفلام في المملكة وتعريف الجمهور الإنجليزي بقصص سعودية من خلال عدسات مبدعيها. حيث تضمنت الجولة عرض عدد من الأفلام السعودية وهي: «بلال»، «المغادرون»، «القط»، «لا أستطيع تقبيل وجهي»، «شكوى»، وجلسات حوارية مع مخرجيها، كما تتضمن الجولة ورشة عمل في صناعة الأفلام والتصوير السينمائي وزيارات لأهم وأكبر استديوهات الإنتاج في المملكة المتحدة، يسعى المركز من خلالها إلى إثراء تجربة المخرجين السعوديين عبر لقاء مخرجين عالميين وتبادل الرؤى والخبرات والاتجاهات.

ثم عاد 2018م لتحتضن مدينة لوس أنجلوس الأميركية فعالية «أيام الفيلم السعودي» في دورتها الثانية، فخلال ثلاثة أيام ثم عرض عدد من الأفلام والتي كانت أغلبها بدعم من إثراء مثل، «سومياتي بتدخل النار» للمخرج مشعل الجاسر، «وسطي» للمخرج علي الكلثمي، والوثائقي «القط» للمخرج فيصل العتيبي. إضافة للأفلام «كيكة زينة» للمخرجة ندى المجددي،«300 كم» للمخرج محمد الهليل، «الآخر» للمخرج توفيق الزايدي، «بسطة» للمخرجة هند الفهاد،«عاطور» للمخرج حسين المطلق، «مخيال» للمخرج محمد سلمان و«لسان» للمخرج محمد السلمان، وفيلم «الظلام هو لون أيضاً» للمخرج مجتبى سعيد. واصبح الآن من المعتاد إقامة الأيام الثقافية السعودية بفعالياتها المتنوعة في مختلف دول العوالم والتي يصاحبها غالبا عرض مجموعة من الأفلام السعودية كما وصارت المشاركة في المهرجانات الدولية خاصة المتعلقة بالأفلام القصيرة سمة ثابتة للمخرجين السعوديين.

الباب الأول

مداخلات ورؤى

الفصل الأول

واقعنا في عالم السينما

مصطلح (السينما) يطلق على تلك الثقافة المتجذرة في النسيج المعرفي للمجتمع والتي انبنت خلال قرن وربع ... وسيلة للتعبير عن همومه وشواغله ومطالباته واتجاهاته، وقضاياه، ورؤاه.. انه فن ينهل من كل الفنون، بداية من القصص والروايات التي ينتجها كتاب متمرسون في الاتجاه الأدبي، ومن ثم تحول الى سيناريوهات تصف سير مشاهد الفيلم ليتم تصويرها وتعرض فيما بعد للجمهور، أو ربما ما يؤلفه المخرجون الذين يفضلون نسج قصصهم بأنفسهم (سينما المؤلف)، ومن ثم يخرجونها للجماهير. حقل السينما يضم كم كبير من الفنيين في مختلف المناحي التي تصب في صناعة الفيلم، هي صناعة متكاملة قائمة على المصورين، والمهندسين وكتاب السيناريو والمختصين في الأزياء والديكور والمكياج والصوت والاضاءة والمونتاج والمكساج والاعداد للإنتاج وإدارة الإنتاج...الى آخره. كل ذلك يتواجد في سوق الإنتاج السينمائي ليصب في سوق المستهلك بما يضم من موزعون و وسطاء ومدراء دور العروض ونقاد ومحللون ودعاية وحملات ترويج.. عقود تبرم وأنماط قانونية تتبع لحفظ الحقوق. ناهيك عن التقنية المتبعة في انتاج هذه الأفلام المعتمدة على الكاميرات الرقمية والأجهزة الالكترونية والبرامج الحاسوبية.

هي حراك مؤسسات وشركات يدخل ضمن الاقتصاد العام للدول، ومن شأنه أن يرفع الناتج القومي أو يخفضه. انه حراك يدور حول انتاج الفيلم الفني الروائي الطويل، أولا وأخيرا. ولا بأس بالأنواع الأخرى كالقصيرة والوثائقية والتحريكية

وواقعنا في هذا الحراك لا زال في طور التشكل، ولم يبلغ الحد الذي يشكل فيه صناعة أو سوقًا. منتجنا النهائي لا زال يتمثل في الفيلم القصير، وقلة من الفيلم الوثائقي والتحريكي، ورغم أن هذا الإنتاج القصير حقق الكثير من المكاسب والحضور الدولي المشرف. لكن الأمر برمته لا يدخل تحت مصطلح (سينما) العالمي.

لهذا ينبغي أن نعرف أين نقف نحن، حتى نتحرك الى مرحلة أخرى، وحتى تنتقل صناعة الأفلام الفردية الى عمل مؤسساتي يثري ثقافة الجماهير وينافس المنتج الدولي ويخلق سوقًا كبيرة تتفرع عنها أسواق واختصاصات.

هناك فريق من هواة إنتاج الأفلام اهتم بالقصص الروائية القصيرة، ولا يكمن اغفال إجادة بعض المخرجين في صنع أفلامهم، وندرك جميعاً أن العالم مازال في حاجة ماسّة إلى الاستفادة من الدور الذي تلعبه السينما الروائية وخاصة في إطار الاتصال الثقافي بين الدول والشعوب... لأن في استطاعتها تناول كثير من الموضوعات الحضارية والثقافية والاجتماعية ومعالجتها بأساليب تغري على متابعتها والاستمتاع بها، بل والاستفادة منها.. لاسيما وأن السينما قد درجت منذ فترة طويلة على دبلجة الأفلام بالصوت واللغة التي يفهمها أهل البلد أو بالترجمة المكتوبة، الأمر الذي يضمن مشاهدة الفيلم في أكثر من بلد ولأكثر من شعب وتكون النتيجة مزيداً من التلاقي الثقافي بين الشعوب ومزيداً من التفاهم والتعارف وربما السلام والرفاهية.

واقع معظم أفلامنا يخبرنا أن المخرجين قاموا بأنفسهم بكتابة السيناريوـ عدا قلةـ وتدخلوا مباشرة في الإنتاج والتصوير والموسيقى، ويستطيع المتتبع لهذه التجارب أن يرى الفقر الواضح في كتابة السيناريو التي تعكس وهن المعالجات الفكرية والفنية، مع أن ثمة نشاط كتابي متصاعد تشهده المملكة في حقلي الرواية والقصة، لكن برغم ذلك ظل السيناريو خارج دائرة الحياة الثقافية، فلا يوجد كتّاب سيناريو متخصصون، باستطاعتهم إعادة كتابة النصوص الأدبية بما يناسب السينما أو ابتداع سيناريو من وحي أفكار مبتدعة تكتب للسينما قصداً، أو حتى صناعة توليفات سينمائية معقول، ذلك والجميع يعي بديهية القاعدة القائلة: (لا صناعة لفيلم ناجح دون سيناريو جيد).

هذا الاحتياج الى كتّاب السيناريو المحترفين يصل تأثيره الى حد التوقف عن العمل السينمائي بأكمله، أو ظهور أفلام بمستوى متواضع. ولذلك يربط النقاد نجاح الفيلم بالسيناريو الجيد وبالفكرة الواضحة العميقة والمعالجة الموضوعية عبر اللغة السينمائية، وليس عبر لغة التلفزيون أو المسرح التي تأثر بها بعض الهواة، فبدت أعمالهم كتمثيليات تلفزيونية. وتؤكد الحقيقة العلمية أن السيناريو حرفة لا يتعلمها المبتدئ الا عبر طريقتين أولهما الدراسة الأكاديمية المصقولة بالتدريب وثانيهما الممارسة والتجريب... السيناريو عمل أدبي وصفي أصيل يحدد تفاصيل الحوار بكلمات وألفاظ وربما بلهجات محددة، ويرشد فني الكاميرا الى الحركة التي يجب أن تتخذها والزوايا التي عليه أن يصوب نحوها وينصح فني الجمع والتركيب (المونتير) بحجم وطول اللقطة وما يناسبها من مؤثر صوتي أو موسيقي، بل وأهم من ذلك أن يحرك مخيلة المخرج.

 في كل ذلك لا يغيب على المخرج الجاد أن يأخذ دوره في البحث عن موضوعات يمكن استثمارها وتحويلها الى سيناريو يكشف من خلاله خبايا إمكاناته في تجسد النص وتطويعه ضمن معارفه وخبراته، مع إلمامه بتقنيات التصوير والمونتاج والمزج الفني (المكساج)، وعليه أن يتولى إدارة الفنيين ويشارك في تصميم الأزياء والإضاءة و(المكياج). فالإخراج السينمائي تصور تعبيري متكامل لكيفية رواية موضوع معين بأسلوب خاص لإحراز التأثير المطلوب. لذلك فإن التعاون بين المخرج ومنفذ الإخراج وكاتب السيناريو ومدير التصوير وفني المونتاج، له أثر حاسم في إنجاح الفيلم أو إخفاقه، وهذه الحقائق نفترض أن يدركها المخرجون المبتدئون نظرياً، ولكنهم عملياً بعيدون عنها.

إشكالية الفيلم الروائي القصير

الى جانب ما سبق فإن كثيرا من مهام مخرج الفيلم الروائي الطويل تنطبق على مخرج الفيلم الروائي القصير، وما يحدث في واقعنا الراهن هو التسرع والاعتقاد من قبل المخرج الهاو أنه يمتلك كل شيء في تنفيذ الفيلم القصير، غير مدرك للفارق الكبير بين امتلاك كل شيء وإدارة تنفيذ العمل. هذا التسرع والركض المحموم للالتحاق ببعض المهرجانات الإقليمية يتسبب في تدمير هذه الفورة الشبابية، ولا يعاب هنا على المهرجانات فهي تهدف الى بث الحماسة، وإن كان يؤخذ عليها قبول الأفلام غير الجيدة دونما اشتراطات مسبقة. لكن الخطيئة تقع على الراكضين وراء الشهرة والهالة الإعلامية الكاذبة وهم في كل الأحوال ليسوا مبدعين حقيقين.  

هؤلاء المخرجون عليهم دراسة مشاريعهم بشكل عقلاني بقصد إقناع المنتجين القادرين وشركات الإنتاج بجدية أفكارهم...ولإقناع مؤسسات الدعم الأجنبية، وهم أهل خبرة، بأهمية مشروعاتهم... هذه الموجة من المخرجين الهواة تجعل من طريقة الاشتغال هذه وسيلة لتحقيق أحلامهم السينمائية وذريعة ذكية لفتح آفاق أرحب نحو تجاربهم، وتجاوز بعض العوائق السينمائية التي لا تجعل حقل الابداع الفيلمي لكل من لمس في نفسه القدرة على الإبداع. ثمة مخرجين ـ واحد أو إثنين ـ أثبتوا تمكنهم من تنفيذ الفيلم القصير في الخارج بعدما عجزوا عن تحقيق مشاريعهم السينمائية بالداخل، أو ربما سنحت لهم الفرصة فاستطاعوا أن يجترحوا تجارب بصرية مغايرة ولكنهم متوارون في الخفاء من فرط وعيهم بحقيقة الوهن القابع في الداخل.

إن إشكالية الفيلم القصير مثار جدل يتجدد بتجدد القراءة الفيلمية المجردة، القراءة التي لا تبحث في السينما الا عن (حكاية)، القلق المضني الذي يختصر الكائن في أنه كائن حكاء، انسان ما يقرأ حياته على أنها حكاية طويلة تمتد بامتداد فطرة السرد التي غرست في ذاته.وسرعان ما تكتسب المسألة إطارا أوسع عندما يجري تحليل الفيلم القصير على انه نمط من أنماط الحكاية، وبذلك يتكون التلقي المربوط في وجه من الوجوه بالحكاية ذاتها.

اذا... هنالك من يحكي ومن يحكى له، هذا هو الهاجس... منذ مطولات الف ليلة وليلة الدالة على هذا التشابك للمرويات والسرد المجرد... عندما يترسخ وجود فرد نهم للحكاية، مأخوذ الى نمطية تفرغ أي شكل من محتواه، يصعب حينئذ إنبناء مخيلة سينمائية مبدعة، لكن إذا كان هنالك تدفق متكامل للبناء السردي المروي وتكثيف متنوع، عبر الموروث والمكتسب لدى المتلقي من أساطين الدراما العالمية. إذا كان هنالك مثل هذا التدفق المعبر عن البنية الروائية سيدرك المشتغل بسينما الأفلام القصيرة حقيقة المساحة الزمانية والمكانية للفيلم القصير.

ثم أن اعتياد الجمهور المحلي والعربي، عبر سنوات من التلقي المكرور، على تلك التوليفة الشائقة المتكاملة التي يمثلها الفيلم الطويل تبقيه حائراً في (أين يضع الفيلم القصير من أولويات المشاهدة لديه؟) فالفيلم القصير ليس فيلماً تسجيلياً يطغى عليه الحس الخبري ويعمقه التواجد التكنولوجي المتمثل في الفضائيات ومحطات التلفزيون الأرضية، وهنا تكمن مفصلية مبهمة وغير واضحة الملامح تكمن في أين يصنف الفيلم القصير وما موقعه جماليا في إطار التلقي المجرد، وهو تداخل ربما قاد الي البحث في (ثيمة) أو (ثيمات) الفيلم القصير. أين هي الدراما وأين هي القصة، وأين هي أدوات تكثيف المروي سواء الشفاهي أو الكتابي ونقلها الى السينما؟. وفي كل الأحوال ـ واقعيا ـ لا يمكن قراءة الفيلم القصير على أنه امتداد عملي (مضغوط ومكثف أو موجز) للفيلم الطويل، كما لا يمكن عد القصة القصيرة تكثيفاً واختصاراً للرواية، فكيف نفهم الفيلم القصير في موازاة الفيلم الطويل وفي موازاة الفيلم التسجيلي.

أيضاً تبرز مشكلة تتعلق بالمنظومة التي يتحرك في فضائها الفيلم القصير لامتلاك خواصه المعبرة عنه والتي تيسر فاعلية تداوله. هذه المنظومة التي ترسم حدود الشكل الإبداعي للفيلم وتميزه عما سواه من قوالب التعبير. ربما هي جدلية مخالفة لما هو سائد من مفاهيم ومعطيات تعد الفيلم القصير كيانًا متحققًا واقعيًا وهو جزء من فاعلية تجريبية وانتاجية لا أكثر، فهو ليس جزءًا من ذلك الزخم الذي يستند اليه الفيلم الطويل.

مأزق السينما التسجيلية

في جانب آخر نلمس أن اتجاه عدد من هواة إنتاج الأفلام التسجيلية والوثائقية القصيرة في السعودية، يعد أمرًا ايجابيًا وبديهياً باعتبار أن هذا الاتجاه يشكل أهمية بالغة بالنسبة لهؤلاء الهواة في التجريب الفعلي، فحراكهم بمثابة تحقيق للوصية الشائعة القائلة: إذا أردت أن تصبح مخرجاً فاحمل الكاميرا وأخرج الى الشارع، لهذا لن نختلف بأن جانباً هاماً في حراك السينما يكمن في إنتاج الفيلم التسجيلي الوثائقي.

في هذا المقام ندرك أن هناك مؤسسات تلفزيونية فضائية مملوكة لقطاعات خاصة تنتج هذا النوع من الأفلام، لأغراض تجارية أولا، ثم علمية ومعرفية وأحياناً سياحية تعريفية تصب في خانة التثقيف، وهذه الأفلام أصبحت تنتج بحرفية عالية لتحقق جانب المتعة والمعرفة للمشاهد، وقد نجحت في ذلك نجاحاً باهراً، للدرجة التي دفعت بعض المؤسسات لأنشاء محطات متخصصة تبث طوال الوقت أفلاماً تتناول موضوعات مثل: اكتشافات أعماق البحار، أو رصد التفاعلات الجيولوجية والبراكين وتبعات الزلازل وبواطن الغابات، وعن حياة الطيور والحياة البرية والمعادن والثروات الأرضية والبحرية، وكذلك عن الصناعات وصحة الإنسان ومواقع الآثار القديمة.. وعن آثار تقلبات الطقس ومشاكل البيئة وعجائب الأقليات البشرية المتناثرة في بقاع نائية من كوكبنا الأرضي، وغير ذلك من الأفلام التسجيلية التي لا تبقي على أمر إلا وصورته وحللته ونقلته في لغة سينمائية ماتعة لتبث رسائل جمالية وعلمية شيقة، وهي لا تتحقق إلا بتضافر عدة مجهودات مدروسة وخبرات متوفرة وميزانيات مرصودة.

من هنا وبهذه الحراك الاحترافي باتت مهمة المخرج الفرد شديدة الصعوبة، وضاق الخناق على المشتغل بالسينما التوثيقية، خصوصاً على السينمائيين السعوديين المبتدئين الذين لا يمتلكون الخبرات والإمكانات الكافية ولا دعم القطاع العام أو الخاص، فكان معظم ما أنتجوه لغاية الآن لا يشبع ذائقة المشاهد، ولا يرضي نهمه، ولا يسوق بشكل إقليمي أو دولي.

لقد درجت العادة في مختلف أنحاء العالم حتى منتصف الخمسينيات على عرض شريط الأخبار حيث كان يُعرض قبل بداية الفيلم في دور السينما العامة .. وعلى عرض الأفلام الوثائقية في الأندية والجامعات والمدارس والمكتبات ومراكز الثقافة .. وكانت تلعب دوراً هاماَ في تزويد الجمهور بالمعلومات والمعرفة والعلوم،  ثم اختفت تلك الظاهرة في كثير من البلدان بعد ظهور التلفزيون، وما نود أن نشير إليه هنا هو أن يضع منتجو الأفلام التسجيلية والوثائقية السعوديون نصب أعينهم على العرض من خلال التلفزيون، رغم استحداث تقنيات الشبكة العنكبوتية، فما يقدم من السينما التسجيلية للتلفزيون يجد طريقه الى الملايين ، وما يختاره التلفزيون يكشف عن نجاح ذلك الفيلم.

الفصل الثاني

من الأحواش إلى قاعات الآيماكس

تغير كثير من الأمور عشية افتتاح أول صالة عرض سينمائي في مركز الملك عبدالله المالي بالرياض. وبدا الجمهور المعني بالسينما وغواياتها، على موعد مع حقبة جديدة، لا تقتحم فيها السينما حياة السعوديين من جديد بعد حظر استمر عقودًا، إنما تخرج أيضًا من الأحواش التي كانت تعرض فيها إلى فضاء مختلف كليًّا. حقبة مليئة بالوعود لجمهور السينما ولصناعها أيضًا من السعوديين.

ومنذ الإعلان عن رؤية المملكة 2030 في 25 أبريل 2016م. وحظي قطاع الأفلام بنصيب مهم من الرؤية والتي اتخاذت قرارات مهمة في هذا الاتجاه:

حيث صدرت في 11 ديسمبر 2017م الموافقة على إصدار تراخيص للراغبين في فتح دور للعرض السينمائي بالمملكة.

وأعلنت الهيئة العامة للثقافة عن تأسيس المجلس السعودي للأفلام في 30 مارس 2018م ليكون مسؤولاً عن تطوير صناعة الأفلام في المملكة.

ثم البدء بتشغيل دور العرض السينمائي في 18 أبريل 2018م.

كما أعلنت الهيئة العامة للثقافة عن خطط وبرامج المجلس السعودي للأفلام، وذلك في حفل أقيم في الجناح السعودي المشارك في مهرجان كان السينمائي في 11 مايو 2018م.

بين الإيجابية والتطلع

لنعد لليلة الافتتاح، ونذكر أن الشركة التي عقدت معها هيئة الإعلام المرئي والمسموع، وهي شركة AMC المشرفة على إدارة دور السينما في المملكة والعازمة على تدشين مئات الصالات السينمائية المجهزة حسب المعايير العالمية، جهزت منصتها المعنية بالأمر وفق سقف عالي «هاي كلاس» بتوفير أحدث النظم السينمائية بما تشمله من شاشات تعتمد تقنيات الصورة والصوت بنظام الآيماكس IMAX الأكثر تطورًا في العالم، الذي يتطلب نوعية خاصة من الأفلام وماكينات العرض التي توفر وضوحًا عاليًا للصورة، ناهيك عن فخامة الصالة ذات المقاعد الوثيرة والتكييف المنعش والمرافق المتكاملة، المعدة لراحة الجمهور.

بالطبع لا يغيب عن الإدراك أن المؤشرات الأولية تومئ إلى صناعة سينمائية ناهظة في المملكة، ومقبلة على مستقبل زاهر، نظرًا للتوجهات الجديدة في التحول الوطني ورؤية المملكة المستقبلية الهادفة إلى إنشاء دور العرض تباعًا حتى تصل إلى 30 صالة في 15 مدينة سعودية، وتحقيق دخل يصل إلى مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، وافتتاح من 50 إلى 100 صالة عرض في 25 مدينة حتى 2030 وتحقيق نحو خمسة مليارات بعد التعاقد مع شركة فوكس vox الأميركية.

هذه التوجهات وهذا الحراك الاستثماري السينمائي المواكب للعالم، والمتسارع في الإنجاز، قد يحيل إلى موقفين، الغالب منهما إيجابي ومرحب به، ويصب في تأسيس الصناعة وفق خطوات مدروسة، لكن جانبًا آخر محبط ويحيل إلى عزل المستثمر الوطني -متوسط رأس المال- (ربما مؤقتًا في أحسن الأحوال) عن الدخول في سوق السينما العالمية بمفهومها الواسع، فهذه التقنيات تتطلب رأس مال ضخم، وقوى إدارية ولوجستية متمكنة، بما تشمله من علاقات متشابكة مع المنظومة العالمية للسينما، التي يجهل التعامل معها المستثمر المحلي الصغير والمتوسط، ومن ثم يجد نفسه أمام سوق لا يتحكم في أدواتها ولا يعرف آلياتها، ولا سيما أنه آتٍ من خلفية إدارة واستثمار سينما الأحواش الشعبية.

وقبل كل ذلك فإن هذا المستثمر لا يمتلك عناصر الصناعة السينمائية المتكاملة، وهو الأمر الذي يقود إلى تساؤل مفاده: هل يعدّ هذا الحراك المفاجئ في الواقع السعودي حافزًا للمنتج وصانع الفلم السعودي لبذل المزيد في تجويد صناعته؟ أم أنه سيشكل عائقًا يحد من مقدرته على الإنتاج، وفق المعايير التي تتطلبها دور العرض الفارهة والجمهور الفطن.

وفي هذه الحالة فإن الجماهير السعودية العريضة لن ترضى بواقع الأفلام القصيرة التي تخصص فيها المنتج والمخرج السعودي الهاوي، وإن كانت حققت قبولًا ورواجًا في المهرجانات الدولية التي شاركت فيها، ولاقت استحسانًا بين نسبة قليلة من النخب المتخصصة، إلا أنها تظل أعمالًا للتسلية المملة عبر اليوتيوب، لا طائل منها سوى الترويج الإعلامي الذهني وليس الفعلي، فهي لم ولن تدخل ضمن نطاق تجاري مربح، وصانعوها لم يبلغوا الحد الأدنى من الاحترافية، حتى إن اعتقدوا ذلك فهم مخطئون، فالسوق له أرقامه التي لا تكذب، وهم على كل حال قدموا ما بوسعهم، فهم لم يتأهلوا أكاديميًّا (معظمهم) ليحققوا أفلامًا طويلة تجذب جمهور السينما، عدا تجارب تعد على أقل من أصابع اليد الواحدة. وهكذا، فإن الأمر هنا يختلف، فإما أفلام طويلة مصنوعة بتقنيات عالية تناسب القاعات المتطورة وترضي، في اللحظة ذاتها، ذائقة الجمهور بسقفه العالي في المشاهدة. ذلك الجمهور لن يسعد بدفع 75 ريالًا (أي ما يعادل 20 دولارًا) ثمنًا لتذكرة ليشاهد أفلامًا قصيرة وعابرة لا تحقق المتعة، إنما تمكنه من اكتشاف الركاكة الفنية، وتجبره على التساؤل: هل هذه هي الأفلام التي روج الإعلام لها ولأصحابها؟ إذًا فإما الإنتاج بما يرضي الجماهير العريضة وإما الانزواء إلى حين ميسرة!

ممولون جدد للاستثمار السينمائي

وبنظرة متفائلة، ربما، يقود ذلك إلى احتمالية ظهور منتجين ممولين من الشركات الوطنية، ومن رجال الأعمال الذين وثقوا في صانع الفلم السعودي، وربما أغرتهم فكرة الاستثمار في صناعة السينما تدفعهم إلى التمويل، وإلى التدريب والاستعانة بالخبرات الفنية والتقنية لتجويد منتجاتهم. وهنا ليس من المستبعد أن تساهم الشركات التي تعاقدت مع آي إم سي ومع فوكس لتحقيق ذلك، وفق نظرية إكمال حلقات مراحل الصناعة. ورغم ذلك أجد بعض المهتمين متفائلين أو ربما متشائمين، بأن الحراك السينمائي السعودي على مستوى الإنتاج والتمويل والاتجاه للاستثمار سوف يزدهر سواء أكان من جهات حكومية أو أهلية، ولا سيما أن بعض المؤسسات الوطنية أخذت في العمل على بناء صناعة سينمائية قائمة على أسس منهجية، مثل الدورات السينمائية التي تقيمها مؤسسة «مسك الخيرية».

من ناحية، وبنظرة بانورامية متعمقة لكل المعطيات السابقة، فإنه من الأجدى والأثرى أن تفكر هيئة الإعلام المرئي بإصدار تصاريح وفق شروط أقل صرامة للمستثمر الوطني المحدود الإمكانية (صاحب رأس المال المتوسط)، بحيث يتاح له إنشاء دور عرض من الدرجة الثانية، لتكون أقل من دور عرض إيه إم سي وفوكس، تضع شروطها الهيئة وتخضع لرقابتها بتشكيل لجنة من وزارة الإعلام، ولتسمى على سبيل المثال: اللجنة المنظمة لدور العرض من الدرجة الثانية، فتعرض الأفلام بواسطة أجهزة اللابتوب الموصلة بشاشات كبيرة، وذلك بالكيفية المعمول بها بشكل معتاد في الأندية والمهرجانات السعودية للأفلام القصيرة.

كل ذلك يدفع بالتفكير على مربط الفرس والبحث عن نصوص مجودة تحول إلى سيناريوهات تعكس الرؤى والموضوعات السعودية، لتترجم في أفلام ترضي مشاهدها المحلي أولًا، ثم تنقل الثقافة والفن والحراك الحضاري إلى العالم… نصوص في مختلف قوالب السينما: الحركة، والكوميديا، والفانتازيا، والخيال العلمي، والاستعراض، والتحريك، والواقعي… إلخ. مع الأخذ في الحسبان دائمًا حساسية القبول والرفض من ناحية المتشددين دينيًّا، حتى إن خفض صوتهم الإعلامي، وقصت أجنحتهم التفاعلية وخفتت تأثيراتهم الفكرية، رغم أن هيئة الإعلام اشترطت خضوع محتوى العروض للرقابة وفق معايير السياسة الإعلامية للمملكة، بحيث تتوافق العروض مع قيم المجتمع وثوابته، بما يتضمن تقديم محتوى رصين وهادف لا يتعارض مع الأحكام الشرعية ولا يخل بالاعتبارات الأخلاقية، إلا أنها لم تحدد شروطًا فنية للأفلام التي ستعرض على الجماهير، ولم تقترح بأي شكل من الأشكال تشكيل لجنة فنية تجيز الأعمال قبل عرضها على الجمهور.

أسئلة محرضة

لا بد من التنويه إلى أمور عدة، نعكسها هنا في صيغة أسئلة، أولها: هل سيظل الجمهور السعودي يشاهد في قاعاته الأفلام الأميركية المدهشة التي لا طائل منها سوى التسلية العابرة والانبهار بالآلة الأميركية الفذة؟ وهل ستقبل الشركات الأميركية المستثمرة في هذا القطاع (إيه إم سي وفوكس) التعاقد من شركات سينما دولية أخرى لتعرض أفلامها في السعودية؟ وهل سيكون الجمهور السعودي مواكبًا لمشاهدة الأفلام العربية التي تعرض في المهرجانات العربية وتحقق صيتًا طيبًا؟ هل نترقب دورًا تقوم به الرياض بعد تقليص مهرجان دبي السينمائي؟

وإن تابعنا الأسئلة فسنقول: هل ستفكر هذه الشركة في تنظيم مهرجان دولي يحقق الوجود لمنتجاتها ويدعم سوقها في الحيز العالمي؟ فالقائمون على المهرجانات النخبوية المحدودة والمتقطعة التي تقام في جدة والمنطقة الشرقية لا يستطيعون بإمكاناتهم المتواضعة تنظيم مهرجان دولي يساهم في إثراء السوق الذي دخلته السعودية، حتى وإن كانت السعودية هنا تمثل «دكان عرض» لا ينتج ولكنه يسوق ويستهلك.

الفصل الثالث

نظرة على أفلام لافتة

حفلت السنوات الاخيرة بالعديد من الأفلام السعودية القصيرة التي تحمل موضوعات متنوعة لا تخلو من الأهمية والبعد الإنساني والاجتماعي الملامس لقضيا الإنسان السعودي.

و من يتأمل جوهر الموضوعات المطروقة من قبل صانعات الأفلام السعوديات، على نحو خاص، ويراقب مغازيها، يجدها متجها إلى تكريس جنوح المخرجة السعودية لتناول الإشكالات التي تواجه المرأة، والمتمثلة في محاور محددة، لعل أهمها قيادة السيارة، وحقها في العمل، وقضية الاختلاط بالرجال في بيئة العمل، والقيود التي يفرضها المجتمع عليها، لا سيما وقد ترسخ ذلك في صورة ذهنية ملحة تمس السطح ولا تتعمق في قضايا أكثر أهمية، مثل نظام ولاية الأمر للرجال على النساء، وحقوقها المدنية، والحجاب، وزواج القاصرات، والعضل، وتكافؤ النسب، وغير ذلك من الموضوعات الجديرة بالطرح.. ونشير فيما يلي إلى بعض الأفلام التي كرست هذه النظرة لصانعة الأفلام السعودية.

خنق المرأة

بداية يأخذنا فيلم «حرمة» 2014م للمخرجة عهد كامل، مع قصة أرملة فقدت زوجها لتواجه مصيرها وحيدة وهي حبلى بجنين تريد له أن يخرج إلى الحياة ليخلصها، ربما، من وجودها المُحرّم الذي لحقها بعد فقد الزوج، فيكون حفاظها على الجنين/الأمل دافعها للحياة ولمواجهة النظرة الخانقة من المجتمع، وهي بذلك تتخطى المكانة التي وضعها فيها مجتمعها كحرمة تَحرُم عليها ممارسة حياتها الطبيعية.

وفي فيلم هند الفهّاد «مقعد خلفي»، تناول لمعاناة المرأة السعودية مع سائقي السيارات الخاصة، وتعامل السيدات معهم لقضاء تنقلاتهن، باعتبار ذلك أحد وجوه معاناة منع المرأة من قيادة السيارة.

في حين أن فيلم «هوية» للمخرجة هناء الفاسي يطرح مسألة أهلية المرأة السعودية التي تفتقد العاهل الرجل في حياتها، فتصبح عاجزة عن إدارة أمورها، وذلك من واقع تفاصيل حياة شابة توفي والدها وأصبحت تعيش مع والدتها وتعاني من المشكلات التي تعترض حياتها ولا تجد من يعينها عليها، فتضطر إلى القبول بأول متقدم لخطبتها كي يكون سندا لها، دون مراعاة تكافؤ الزواج من النواحي الاجتماعية أو الإنسانية.

أما فيلم «بسطة» 2015م لهند الفهّاد وبطولة غالية مرشد، فيروي قصة بطلتها سيدة بائعة (بسّاطة) استطاعت أن تجعل أبنائها في مراكز علمية جيدة ولم تتوقف عند ممارسة مهنتها المتواضعة، غير أنها تتعرض للمساومة من قبل رجل أمن ليساعدها في مأزق تعرضت له.

فيما يروي فيلم «كيكة زينة» لندى المجددي قصة فتاة تسعى إلى تأسيس محل لبيع الحلويات، على الرغم من معارضة والدها لهذا المشروع، لكنها تشرع فيه سراً. بما يشير إلى حقوق المرأة في العمل، ولكن المعالجة الدرامية لم تتعمق أكثر من السطح.

 و فيلم «ريم» 2015م من إخراج سميرة عزيز التي تعتبر أول سعودية أنتجت فيلم سعودي في الهند، يدور فيلمها حول فتاة سعودية تسافر إلى الهند لتبحث عن والدتها. تناول الفيلم فكرة التحديات الدينية والثقافية بين المجتمعين، وتتعرض البطلة في خلال رحلة البحث عن والدتها إلى قصة حب لشاب هندي تمكن من مساعدتها خلال رحلتها وبالفعل تم الحصول على موافقة السلطات في المملكة لتتزوجه.

انحياز مبرر

إذن، هذه الأفلام، وغيرها، المهتمة بشأن المرأة ثبتت النظرة للمخرجة السعودية بأنها منحازة للموضوعات التي تتناول قضاياها الخاصة دون الالتفات إلى غيرها، في حين أن هناك العديد من الأفلام التي أخرجتها سعوديات وتناولت موضوعات تمس جوانب أخرى وتناقش شؤون متفاوتة، مثل فيلم شهد أمين «حورية وعين» وفيلم عهد كامل «القندرجي»، وفيلم (73ساعة) لصبا اللقماني، و«جوجو» لنادية الرضوان و«هجولة» لرنا الجربوع و«عش إيلو» لمها الساعاتي وفيلم «جواهر» لجواهر العامري، والأمثلة كثيرة التي تبرهن على سعة منهل الموضوعات والقصص التي تحولها الشابات المخرجات إلى أفلام قصيرة جديرة بالمشاهدة.

وإذا تأملنا فيلم «القناص» 2016م للمخرجة نورة المولد. في البداية يعتقد المشاهد أن الفيلم يتحدث عن فكرة لعبة الكترونية مليئة بالعنف والقتال والجثث ولكن بعد الدقيقة الأولى تتضح فكرة الفيلم: معلمة تستهدف عقول الأطفال بسلاح المعلومات المضللة، لكننا نرى في المقابل كيف تتغلب العقول الواعية لطلابها على هذا السلاح بالعلم الصحيح وتتوحد العقول الصغيرة لتلتهم سلاح المعلمة الفتاك بتوحد نور العلم.

ومع فيلم «أيقظني» 2016م من إخراج ريم البيات نتوقف مع أحداثه التي تدور حول امرأة تمر بأزمة منتصف العمر وتحاول أن تستعيد هوايتها الفنية مع رفض المجتمع لها وتربص كل المحيطين بها، وأيضا شعورها الداخلي بالذنب.

للشباب منحى آخر

في حين نجد بعض الشباب من صناع الأفلام يأخذون منحى آخر في معالجاتهم، فنلاحظ أن فيلم «أربع ألوان» 2015م، للمخرج توفيق الزايدي، يندرج تحت الأفلام التي تتناول شؤون المرأة، فهو يصور حكاية أربع فتيات مختلفات في نمط التفكير وفي نظرتهم للمستقبل والطموح. في اليوم الأول للسنة الدراسية الجديدة تطلق كل واحدة منهن بالون في السماء بعد أن تكتب كل واحدة أمنيتها على البالون، أمنية واحدة فقط تبقى محلقة في السماء بينما الأخريات تنفجر بالوناتهن بعد دقائق من تحليقها بفعل شقاوة أولاد قاموا برمي البالونات بحجر من خلال لعبة. الفيلم يقول: أنه ليس دائما المختلف عنا هو شخص سيئ ومرفوض، فربما يكون أفضل منا بكثير وإصدار الأحكام المسبقة ليس بالضرورة أمرا يؤدي بنا إلى الحقيقة.

أما فيلم «ذاكرة ممتلئة» 2016م، للمخرج محمد المريط وسيناريو الكاتب علي حمادة فهي حدوته تحكي قصة طفل يعيش مع والده المنفصل عن والدته، وتجمعه صداقة مع ولد في نفس عمره، وفي أحدى زياراته لصديقه في بيته يشاهد صورة معلقة لصديقه مع والديه فتتكون لديه رغبة شديدة في أن يجمع والديه في لقاء مفتعل ومخطط له ليساعده صديقه في التقاط تلك الصورة، ولكنهما يفشلان بعد محاولات عدة وفي المحاولة الأخيرة ينجح صديقه في التقاط الصورة بالجوال، ولكن يفشل في تخزينها لأن ذاكرة الجوال ممتلئة فيقوم صديقه بتركيب صورته مع والديه والوجوه لوالدي صديقه، ويقوم بإهدائه الصورة مطبوعة في مشهد مؤثر.

ويعتبر فيلم «ثوب العرس» إخراج محمد سلمان متميزا في طابعه الأسطوري ـ أو الخرافي ـ الشعبي  والذي يدور أحداثه حول اعتقاد بأن من يخيط ثوب عرسه في هذه المنطقة سيموت، وكانت هناك خياطه وحيدة بالمنطقة مقتنعة بهذا الاعتقاد تدعى ”أسمهان” ولكن ما هو رد فعلها وعند اقتراب موعد زفاف ابنتها تضطر لخياطة ثوبها بنفسها وهي تعلم بالمصير الذي سيؤول له هذا الفعل.

أفلام بعيدة عن هموم المرأة

قدم محمد الهليل فيلم «ماطور» 2016م الذي يدور حول رجل منعزل في منتصف العمر، يعيش وحيداً، ويتنقل بدراجة نارية، إلا أن عطلاً أصاب هذه الدراجة أجبره على مخالطة الناس الذين حاول طوال حياته الابتعاد عنهم.. الفيلم بذلك يطرح سؤالا عميقا، فما الذي يجعل الفرد منعزلا وما الذي يجعله متفاعلا مع محيطه؟

في حين أن فيلم «أصفر» 2016م للمخرج محمد سلمان، فيلم وثائقي يحكي عن متاعب سائقي الأجرة ومعاناتهم مع الزبائن على مدى سنوات طويلة، يقطعون المسافات لأجل لقمة العيش، وكيف تغيرت أحوالهم بعد أن بدأت شركات الليموزين تنافسهم في رزقهم، وكيف أثر ذلك على دخلهم المادي، حكاية تروى على لسان شخوصها الحقيقيين تكلموا تارة بمرارة وتارة بمرح وفكاهة، ورغم بساطة الإمكانيات أستطاع المخرج أن يلمس معاناة سائقي سيارات الأجرة الصفراء.

 غير أن فيلم «فضيلة أن تكون لا أحد» 2016م من إخراج بدر الحمود المميز بأفلامه الاجتماعية ذات الطابع المؤثر، وتدور أحداثه حول شاب فقد عائلته عندما التقى مع رجل مسن أعور ينتحل شخصيات متعددة بحثاً عن المؤازرة، الفيلم من بطولة إبراهيم الحساوي ومشعل المطيري، وكلاهما أدى دوره بإتقان وتأثير.

 ثم فيلم «البجعة العربية» من اخراج فهد الجودي وتدور أحداثه حول فتاة سعودية تسافر في بعثة لدراسة الطب في أمريكا مع أخيها، ولكنها تتعلم الباليه وتتقدم في مدرسة خاصة بالباليه وعندما يكتشف أخوها يمنعها من حضور دروس الرقص، ليبدأ الصراع بين رفض أخيها وتشجيع صديقاتها وحبها للباليه، خاصة وأن الرقص هو من أكثر العادات الغير مقبولة في المجتمع ويبقى على عاتقها أن تختار، الفيلم من بطولة آية مختار، لورين ب. موسلي، أحمد الجندي.

لكن فيلم «300 كم» من إخراج محمد الهليل في هذا الفيلم هنالك رجل يقود سيارة من الأحساء إلى الرياض وفي المقعد الخلفي تجلس امرأة وجوارها طفل رضيع، بينما بؤرة النظر للأحداث - الكاميرا- مثبتة من داخل السيارة لتراقب الشخصيات بدقة، وتصور حالة الريبة من وجود رجل وامرأة في مكان واحد، ضمن فيلم ينتمي إلى ما يمكن أن نسميه بسينما "الحالة" النفسية للشخصية.

وفي فيلم «مبنى 20» للمخرج عبدالعزيز الفريح، يصور المخرج عوالم الفقر من خلال قصص ثلاث صغيرات بائسات في الضواحي الفقيرة للعاصمة الفلبينية مانيلا. ففي هذا الفيلم سنلامس وجع الحرمان، ومرارة الفقر في وجوه ستترك للتحدث والتحرك دون تدخل، وكأن الكاميرا ما هي إلا زائر يعرف أنه سيلتقط ما يريد وسيرحل، لذا سنرى الشخصيات تبوح وتتحدث وكأن حديثها سيكون الكلام الأخير لشخوص من هامش العالم.

أما في فيلم "جليد" للمخرج عبدالرحمن صندقجي فسنذهب معه إلى أعلى قمة القطب الشمالي، برفقة مغامرين سعوديين يذهبان إلى القطب الشمالي ليغوصا هناك ويحصلا على لقب أول عربي وعربية يغطسان هناك.

ثم في فِيلم «رفرفة أمل» للمخرج طلال عايل نشاهد قصة درامية واقعية لطفلة اسمها «ياسمين»، تعاني داء التوحّد. ويستعرض الفِلم دور والديها في تعليمها النطق والكلام، مبتعداً عن تجسيد القصة بصورة «معاناة» لكي يعطي بصيصاً من الأمل.

فِيلم «لقطة سريعة: الرحالة» للمخرج السعودي طارق الدخيل الله، يصوّر أحداث يوم من حياة الرحالة الإماراتي «جلال بن ثنية»، البالغ من العمر 25 عاماً. وهو يخوض غمار رحلة شاقة على الأقدام، قطع فيها مسافة 2000 كيلومتر، عبر الصحارى من الرويس إلى مكة المكرمة خلال 52 يوماً.

ضمَّن فِيلم «نعال المرحوم» للمخرج السعودي محمد الباشا أحداثاً غريبة حول أفراد عائلة يتعايشون مع ذكريات جدّهم المُتوفّى. ويسعى بعضهم إلى التخلص منها، في الوقت الذي تبقى فيه قطته وفية لذكراه. ومن خلال حذاء أو نعال الجد، يتطرق الفِلم ضمن قالب ساخر إلى عدد من المفاهيم الخاطئة في المجتمع.

قواسم مشتركة

وهكذا، يبدو مشهد الإنتاج السينمائي السعودي في الفترة الراهنة (العشر سنوات الأخيرة) مشهداً آخذاً في التشكل وفق آلية متسارعة تحاول رسم الخطوط الأولى لملامحه، إذ شرع الشباب السعودي منذ أكثر مما يزيد على العشر سنوات في إنتاج أفلام قصيرة تتزايد أعدادها باطراد ملحوظ، وبات الواقع يزف إلينا، فيلماً أو فيلمين في كل شهر أو شهرين تقريباً، وإن كانت حتى اللحظة لم تتخذ آلية الانتاج شكل الصناعة بمفهوم قائم على أسس منهجية كما هو متبع في كثير من البلدان التي تنتج أفلاما سينمائية بشكل متقن.

 الأفلام القصيرة المنتجة في السعودية تتم بجهود فردية وبإمكانات مادية متواضعة، وبأخطاء فنية فادحة في معظمها وبتجويد مقدر في بعض منها، خاصة وأن المشتغلين على إنتاجها هواة ينطلقون بحماسة كبيرة ورغبة في خوض تجربة التعبير بلغة الفن السينمائي، وهم ـ معظمهم ـ تنقصهم خبرة الممارسة العملية الاحترافية، وأيضاً تنقصهم المعرفة الأكاديمية، وإن كانوا، رغم ذلك، يتمتعون بخلفية ثقافية نظرية جيدة، ومعظمهم شاهد ويشاهد الكثير من الأفلام السينمائية، العالمية منها والإقليمية، خصوصاً ما تنتجه السينما الهوليودية على وجه الخصوص، وعزوفهم في المقابل على مشاهدة السينما العربية: المصرية، الجزائرية واللبنانية وغيرها، وبطبيعة الحال فإن المشاهدة والتأثر وحدهما لا تؤهلان لبناء صناعة سينمائية حقيقية مربوطة بالنواحي الاقتصادية والاستثمارية للشركات ورجال الأعمال.

إذن نلاحظ مع إرهاصات الإنتاج السينمائي السعودي، نلحظ أنها تجارب بدت مدركة لمحدودية إمكاناتها الإنتاجية سواء كانت مادية أو فنية، الأمر الذي دفع بالسينمائيين للاتجاه إلى السينما التسجيلية القصيرة أو الروائية القصيرة (مدة عرضها أقل من 30 دقيقة) ورغم ذلك فإن بعض هذه الأفلام حقق ـ إلى حد ما ـ نوع من الإشادة النقدية، ونالت بعض هذه الأفلام جوائز تقديرية عند عرضها في المهرجانات العربية أو العالمية.

 موضوعاتها... السمة المميزة

من ناحية أخرى فإن الأفلام السعودية القصيرة أخذت تنحى إلى تقصي موضوعات نابعة من المكابدات التي يعيشها صناعها في الحياة اليومية، وتتطرق القصص التي يحولونها إلى أفلام إلى ما يمس همومهم الذاتية أو تلك الناتجة عن خبرات شخصية أو التي تحدث في محيطهم القريب.

ومن يتأمل تلك الموضوعات يجدها متنوعة ولا تنحاز لقضايا محددة بشكل قاطع، إلا فيما ندر، أو قضيا قومية أو مصيرية، بل أنها في مجملها تناولت مشكلات ً تعكس رؤاهم وهمومهم الذاتية، من زاوية احتجاجهم على الواقع، وهم يطرحونها من منطلق: لماذا يحدث هذا؟

وفي كل حال، هم ينطلقون في انتقاءها وانجازها بدوافع ذاتية، تمليها عليهم ثقافتهم ووعيهم، ويناقشون فيها مسائل لها علاقة وثيقة بعادات المجتمع وقوانين السلطة، وربما جاء طُرحهم لبعضها بمباشرة أو سطحية تتماشى مع هامش المعرفة والحرية المتاحة لهم، ولا شك أن ذلك يشير إلى انحسار المخيلة التعبيرية الفنية لديهم، لذا تحقق بعضها في مستوى متواضع، ولكن رغم البساطة تحمل من الأفكار ما يثير التأمل، إذ تكشف عن خصوصية ثقافية أصيلة.

إذن، تبين بعض الأفلام أنماط تفكير الشباب إزاء عرض شواغله الواقعية، والوجودية والنفسية، ولا تخلو من الخيالية والفلسفية، كقوالب يرومون من خلالها التعبير عن هواجسهم. فيحاولون العمل وفق اجتهادات تبلغ الجودة أحياناً، وتخطئها أحيان أخرى، وإن كانت معظمها معقولة التقنيات فيما يتصل بالصورة والتكوينات البصرية والسمعية.

بركة ووجدة

كمدخل لتفهم ذلك، يمكن ملاحظة أن فيلم محمود صباغ «بركة يقابل بركة»، وهو فيلم طويل أنتجه في 2016م، جاء كدليل واضح على تناول موضوعات نابعة من البيئة الاجتماعية، حيث تطرق إلى الصعوبات التي تحجم الشباب عن شق طريق حياتهم، إما بفعل القوانين التي تفرضها إدارات الشؤون البلدية، أو السلطات الدينية أو الأعراف الاجتماعية، وحقق ذلك من خلال قصة حب جمعت شاب وفتاة في مدينة جدة، وبتتبع مسارات القصة نلمس كم كان الاشتغال موضوعيا وانسانياً، مبتعدا عن المباشرة والوعظ والتراجيدية السافرة، فالفيلم لم يركز، على سبيل المثال،  على قضايا المرأة، بمعزل عن المجتمع، أو قضايا الارهاب والوطنية بلغة شعاراتية، ولم يشير إلى حقوق المرأة المهدورة، كما يحدث في الأفلام القصيرة التي تنتجها المخرجات السعوديات الهاويات ويكون طرحها مكثفا في قضية واحدة.

 وكما حدث في فيلم «وجدة» للمخرجة هيفاء المنصور، الذي أنتجته في 2012م، وركز مضمونه لمناقشة وضع المرأة في الواقع الراهن، ومن ثم رسخ مقولة أن المخرجات السعوديات يجتهدن في صناعة أفلام تتعلق بالمرأة لما في ذلك من لفت الانتباه لهن وتحقيق الشهرة باعتبار أنها صاحبة قضية تنافح عنها.. وليس في ذلك مفاضلة أو انتقاص من الأفلام التي تطرحها المخرجة السعودية بشكل عام، فهي نابعة من معاناة لا يشعر بها إلا هي وحدها، إنما هو منحى وظاهرة إيجابية، وأحيانا قد تكون سلبية، باتت مسيطرة على أفلام المخرجات السعوديات، وإن كان ذلك غير مستغرب، ويحدث في ثقافات أخرى لها جذور عميقة في الفن السينمائي.

بدايات جادة

إذا عدنا إلى الوراء لنرصد انطلاقة الإنتاج "السينمائي" السعودي في مرحلته الأولى، نجد أن المخرجة "هيفاء المنصور" في عام 2003م قامت بعرض فيلمها التسجيلي القصير الأول المعنون بـ(من؟) ومدته 7 دقائق، والذي أنتج بإمكانيات مادية متواضعة وبتكلفة لم تتجاوز 1000 دولار على أبعد تقدير، وباستخدام كاميرا فيديو منزلي مخصصة للهواة تفتقد لميزات التصوير السينمائي الاحترافي... وأثار الفيلم ما أثاره من أراء ونقاشات. ومنذ ذاك الوقت والحديث عن قيمة الأفكار والمضامين التي تطرحها الأفلام الواعدة التي أنتجت بعد هذا التاريخ، تتخذ الأولوية في تناولها النقدي، بينما ينبغي مناقشة تفاصيل التقنيات الخاصة بالسيناريو والتمثيل والصورة السينمائية والمؤثرات الصوتية والمونتاج والقصة والإضاءة والى آخره، جنباً إلى جنب مع مناقشة الأفكار والمضامين.

غير أن الوقوف على التجارب التي تحققت قبل سنة 2003م، مؤكد أنها محاولات منفردة ومتقطعة بدأت بأول فيلم سعودي انتج عام 1950م و حمل عنوان "الذباب" وهو فيلم توعوي عن مخاطر الذباب في نقل الأمراض، و من بطولة حسن الغانم الذي يعتبر أول ممثل سينمائي سعودي، و في منتصف الستينيات الميلادية قام التلفزيون السعودي بإنتاج أفلام تلفزيونية، لكن البداية الحقيقية للإنتاج السينمائي السعودي كانت عام 1966م حيث أنتج فيلم "تأنيب الضمير" إخراج سعد الفريح و بطولة الممثل حسن دردير.

وفي العام 1975م قام المخرج السعودي عبدالله المحيسن بإخراج فيلم عن (تطوير مدينة الرياض) وشارك به في مهرجان الأفلام التسجيلية في القاهرة عام 1976م.

وفي عام 1977م، عندما قام المحيسن بتقديم فيلم (اغتيال مدينة) في مهرجان القاهرة السينمائي الثاني، وحصوله على جائزة أحسن فيلم قصير.. وكان الفيلم بمثابة معالجة تسجيلية لأحداث الحرب اللبنانية المشتعلة في تلك الفترة، وتميز الفيلم برؤية سينمائية منطقية بعيدة عن إثارة النعرات الإقليمية، وبرعت عدسة المحيسن في التقاط مشاهد معبرة عن رفضه للحرب والعنف، في قالب من الرثاء للمدينة التي تم اغتيالها كما يشير العنوان، وهي مدينة بيروت. 

سينما الرسالة الأيديولوجية

ثم في عام 1983م قدم المحيسن فيلم بعنوان (الإسلام جسر المستقبل) ، وكانت مدة عرضه 50 دقيقة، جسد فيها صورة سياسية للعالم الإسلامي في نهاية القرن العشرين، من خلال 900 مشهد سينمائي مدعم بالوثائق الحقيقية الأرشيفية المنقولة عن التقارير التلفزيونية ونشرات الأخبار عن أهم القضايا الإسلامية حينذاك، و تمت منتجة هذه المشاهد وفق ثيمة الإسقاط التاريخي على الراهن في ذلك الوقت، وبرز الفيلم في مجمله كدعوة إلى الوحدة العربية الإسلامية البعيدة عن الإيديولوجيات الغربية أو الشرقية.

واستمر المخرج عبدالله المحيسن (ولد عام 1947م)، في عزفه المنفرد، فصاغ بأسلوبه الخاص فيلم (الصدمة) الذي تناول فيه خلفيات احتلال الكويت من قبل الجيش العراقي، وما أدى إليه ذلك الاحتلال إلى نشوب حرب الخليج في عام 1990م.. وركز على انعكاسات ما يدور في وجدان الإنسان العربي جراء تلك الحرب، والذي أصيب بـ "صدمة" هزت الكثير من المفاهيم والقيم الراسخة لديه.. عايش المخرج الأحداث معايشة سينمائية، ووثقها برؤيته المحايدة التي لم تكن تسعى إلى إدانة شخص أو نظام أو دولة بعينها، إنما حثت على البحث والتفكير فيما يجب عمله تجاه ما حدث، ثم محاولة محو الآثار التي شوهت الوجه الحضاري للأمة العربية.

في بداية العام 2006م كانت الخطوة الحقيقية للمحيسن في تقديم ما وصف بأول فيلم روائي طويل لمخرج سعودي وأنتج فيلم (ظلال الصمت) في مدة زمنية طولها 110 دقائق، ودارت أحداثه إبان مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، وأسند بطولته لمجموعة من الممثلين السعوديين والعرب منهم: عبدالمحسن النمر ونايف خلف من السعودية، وغسان مسعود ومنى واصف من سوريا، ومحمد المنصور من الكويت، سيد أحمد أقومي من الجزائر وغيرهم، وكتب موسيقاه التصويرية زياد الرحباني.. ناقش الفيلم أزمة الإنسان العربي وعجزه في مواجهة نظام متسلط يوظف أساليب التكنولوجيا لإحكام السيطرة على العقل وعزل الفكر.. وفي طرح الفيلم حدث ذلك في صحراء نائية داخل مبنى أشبه بالمعهد العلمي الذي يبدو ظاهرياً كمركز للعلاج المتقدم المهتم بالتأهيل وتنمية القدرات. بينما في جوهره معتقل يقوم بغسيل واحتواء الأدمغة العربية بأساليب نفسية وإكلينيكية متطورة... ويوضح الفيلم طرق استقطاب العلماء والمعارضين السياسيين والمفكرين المستقلين سواء بالقوة أو بالخداع، وتغيير أفكارهم... وتتواتر الأحداث في مسارات فكرية ونفسية معقدة تتم في ظلال من الصمت والتعتيم... وتتشابك الخطوط الدرامية في تصاعد حتى تأتي لحظة الخلاص على يد جيش عربي (؟؟) واقتحام المعهد وإخراج المفكرين المحتجزين.. لينتهي الفيلم تاركاً للمشاهد قدراً كبيراً من التفكير والتأمل.

إن المتأمل في أفلام عبدالله المحيسن يجد أنها تتجه بشكل عام نحو القضايا القومية العربية والإسلامية، ويمكن إطلاق: سينما الرسالة الأيديولوجية والفكرية عليها. وكانت بمثابة الموجة الأولى للأفلام السعودية.

قضية الهوية

أخذت مجموعة الأفلام التي أنتجها مخرجون شبان فيما بعد عام 2003م في تناول موضوعات أخرى تعنى بالشأن الداخلي والإنساني وتهتم أكثر بالجانب الفني والتقني، وهي تشكل الموجة الثانية في حقل الإنتاج. فظهر، كما أسلفنا، أولاً اسم المخرجة هيفاء المنصور وكان ظهورا مباغتاً في الأوساط الثقافية، بل في المجتمع السعودي على نحو مطلق، تناقلته وسائل الإعلام وكأنه حدث في كوكب آخر، فكون أن تظهر مخرجة سعودية كان هذا بحد ذاته مفارقة مدهشة للمجتمع. فما عسى أن تقدم مخرجة سعودية في بلد لا يعرف هذا الفن، وكيف تجرأت؟ وماذا طرحت؟ وكيف هو فيلمها «من؟» الذي عرضته في الدورة الثانية لمهرجان أفلام من الإمارات 2003م؟.

فيلم «من؟» مدته 7 دقائق، قصة صغيرة تدور حول شائعة تنطلق في إحدى مدن المنطقة الشرقية بالسعودية عن رجل غير طبيعي يرتدي ملابس النساء، يخرج في وضح النهار من بيته ويتربص بالبيوت أو الشقق السكنية، ثم يحتال في الدخول إليها ليقتل أي امرأة تصادفه... ينزل التتر في بداية الفيلم بعبارة تقول: نخاف المجهول، بعضنا بلا وجوه، ويظل السؤال (من؟).

إذن طرح الفيلم قضية هوية المرأة السعودية، من خلال القاتل المتخفي في ثياب امرأة منقبة، وهو ما أثار حساسية المجتمع الذي يرى في العباءة والخمار الزي الشرعي للنساء، ومن هنا يتحقق عنونا الفيلم (من؟) فمن هو الفاعل الجاني المتخفي في العباءة.

وهكذا يتكشف للمشاهد أن المنصور قد محورت فيلمها بطريقة أو بأخرى حول تغييب المرأة والإمعان في إقصائها من مشهد الحياة المدنية المعاصرة، وأصبح بالمكان انتحال شخصيتها غير المحدد أصلاً لفعل أي فعل.

الفيلم الثاني لهيفاء المنصور كان بعنوان «الرحيل المر» ومدته 12 دقيقة، تناول الهجرة الداخلية من القرية إلى المدينة السعودية، فهي، بحسب وجهة نظر الفيلم، تمثل انقطاع عن الجذور والاغتراب الداخلي، الأمر الذي قد يفضي إلى الشعور بعدم الانتماء إلى أي مكان، وبالتالي إلى ضياع الهوية داخل المدن. . في الفيلم السابق استخدمت المخرجة الكاميرا الرقمية، وكان لذلك حسناته وسيئاته.

غير أن المنصور في تصوير فيلمها الثالث، وهو فيلم روائي قصير، 15 دقيقة، بعنوان «أنا والآخر»، عمدت إلى الكاميرا السينمائية المتخصصة، فأتاح لها ذلك تجويداً محكماً للصورة الملتقطة واختيارا موفقاً للزوايا والكوادر الناقلة لفضاء الصحراء التي تم فيها التصوير.

 تناول فيلم «أنا والآخر» قصة ثلاثة مهندسين سعوديين يجدون أنفسهم تائهين بين كثبان الرمال ورمضاء الهجير، بعد أن تعطلت سيارتهم وعلقت في الرمال وهم في طريقهم إلى مكان عملهم. ولأنهم يمثلون اتجاهات فكرية مختلفة، يدور بينهم حوار يتحول إلى جدال ثم إلى خلاف: فأحدهم ليبرالي متحرر، والآخر أصولي متطرف، والثالث يميل إلى الوسطية والاعتدال. يحتدم الخلاف بين الأصولي والمعتدل إلى درجة التصادم ونسيان أنهما على وشك أن تبتلعهم الصحراء... وفي خضم الصراع يتذكرون فجأة أنهم يواجهون مصيراً مشتركاً وبينما هم يعملون على إخراج سيارتهم العالقة في الرمال يظهر على الشاشة رقم لوحة السيارة) و ط ن(OO1 ، وذلك في إشارة صريحة إلى أن الوطن يمثل الملاذ الوحيد النهائي لأبنائه مهما تنوعت أفكارهم.

الهوية من زاوية أخرى

وواصلت هيفاء المنصور وقدمت فيلمها الرابع في بداية 2005م، وكان فيلماً تسجيلياً بعنوان «نساء بلا ظل» ـ مدته 50 دقيقة ـ وهو يتحدث عن ثلاثة أجيال نسائية: جيل الانفتاح الأقدم، وجيل التقوقع المتوسط، ثم الجيل الثالث الراغب في الانطلاق. حيث لامس الفيلم نقاط حساسة في الثقافة والموروث الاجتماعي السعودي، إذ تناول علاقة المرأة بالرجل، وطرح أسئلة معقدة وبسيطة في الوقت ذاته مثلاً: لماذا لا تعملين؟ هل من حق المرأة أن تعمل؟ ما هامش الحرية المتاح أمام الرجل؟ هل توافق على خروج المرأة من المنزل وحدها؟ هل تزوجت عن حب؟، ومن خلال إجابات الشخصيات المختارة في الفيلم يقف المشاهد على اختلاف رؤى الأجيال النسائية الثلاث. كما عرض الفيلم التحولات التي طرأت على خطاب التيارات الدينية المختلفة، واستضافت الدكتور عايض القرني مظهرة التناقض في تصريحات قديمة له وقارنتها بتصريحات حديثة، مما أحدث جدلا ساخناً حدث عقب عرض الفيلم في القنصلية الفرنسية بجدة.

وهكذا، تعددت المحاولات السينمائية التجريبية بدأ من العام 2005م وما تلاها، بشكل عام إذ تحققت عدة أعمال قصيرة، لعدد من الشبان المتحمسين، تتراوح بين السرد الروائي القصير والتسجيل والتوثيق. وتحققت الأفلام بمستويات متأرجحة بين المعقول وبين الحد الأقل من المستوى المأمول.

الشباب و تجربة هيفاء

في 2005م أنتج فيلم روائي قصير بعنوان «القطعة الأخيرة»، لـ"محمد بازيد"،  وهو فيلم صامت، تم تصويره بتقنية الأبيض والأسود، ونفذ بحرفية في خمسة دقائق وخمسة عشرة ثانية فقط، وكان بمثابة بشرى طيبة لتقدم الاشتغال السينمائي لدى الشباب.

 يحكي الفيلم عن شخصية شارلي شابلن الذي يتنازع مع آخر على قطعة بسكويت أخيرة في الكيس الذي اشتراه “شابلن” ووضعه على المقعد الخشبي ما بينه وبين شخص آخر جالس في إحدى الحدائق العامة. الفيلم رغم قصره لكنه يكشف عن موهبة مخرجه، والذي للأسف توقف عن إخراج الأفلام، رغم أن الفيلم نال تنويهاَ وإشادة في مسابقة الإمارات السينمائية وفي مهرجان روتردام السينمائي سنة 2005م.

 ومع منتصف عام 2005م برزت عدة أفلام روائية قصيرة لمجموعتة من الشباب أطلقوا على أنفسهم «القطيف فريندز» بإدارة فاضل الشعلان، وعضوية موسى ال ثنيان وبشير المحيشي واحمد الجارودي وجاسم العقيلي، وتناولوا تنويعات مختلفة على موضوعات الوعظ والرعب والـتأمل ـ إن صح القول ـ وهي: «اليوم المشئوم» بجزأيه الأول والثاني ثم فيلم «رب إرجعون»، 42 دقيقة، الذي يعتبر رحلة تأملية في الموت والتوبة.

ثم قدم المخرج عبدالله آل عياف في 2006م فيلمه «السينما 500 كلم» 43 دقيقة، بإشارة في عنوانه إلى المسافة التي يتعين على المواطن السعودي أن يقطعها ليشاهد فيلم في أقرب صالة عرض سينمائي له، والمقصود بها دور العرض في دولة البحرين، فيحكي معاناة "طارق" في رحلته من مدينته (الرياض) إلى (المنامة)، والتي يقطع خلالها 500 كم ذهاباً، ومثيلها إياباً، وذلك لمُشاهدة فيلم في صالة سينمائية لأول مرة في حياته.

يتابع الفيلم إجراءات حصوله على جواز السفر: تحضير الأوراق، والصور اللازمة، دفع المُخالفات المرورية، الذهاب إلى الحلاق، ومن ثمّ إلى المُصور، تنظيف الملابس، وكيّها،.. وذلك في إيقاع بطيء يعكس المعاناة.

وخلال 2006م انتجت عدة أفلام منها «تمرد» من إخراج عبد العزيز الناجم وفيلم «الحلم الضائع» من إخراج علي الأمير، وفيلم «حلم الصحراء» من إخراج رضوان خالد، وتميزت بموضوعاتها وتذبذب تقنياتها الفنية.

 وفي نهاية 2007م أنتجت مجموعة "القطيف فريندز" فيلم بعنوان «بقايا طعام»،10 دقائق، لموسى آل ثنيان وفيلم «شكوى الأرض» 36 دقيقة، للمخرج بشير المحيشي، ويحكي قصة شاب غير مكتمل الأهلية العقلية، يجسد براءة إنسان افتراضي ارتبط بنخلة واعتبرها أماً له، وبرع المخرج في جمالية التصوير والتوظيف الموفق للمؤثرات الصوتية، وربما ظهر جلياً تأثر الممثلين بالأداء المسرحي، حيث تفوق الممثل عبدالله الجفال على بقية طاقم الممثلين، مستعيناً بخبرته المسرحية.

تجربتين عابرتين للفيلم الطويل

في 2008م أنتج فيلم طويل بعنوان «صباح الليل»، وفي 2009م فيلم آخر بعنوان « مناحي» وهما فيلمان لقيا الكثير من النقد والرفض الجماهيري على مختلف مستوياته وألحقا الضرر بمسيرة الإنتاج السينمائي السعودي، وتزايد على إثرهما رفض المجتمع والتيار الديني للإنتاج السينمائي.

واستمر الفيلم القصير

استمرت الأفلام القصيرة خلال 2009م و2010م و2011م بمعدل عشرة أفلام قصيرة في السنة، تقريباً، وحققت تواجدا طيباً في المهرجانات المعنية بالأفلام القصيرة. منها فيلم "جنة الأرض" الذي روي فيه سمير عارف حكاية مجموعة من الشباب يخططون للسفر، ولكن رحلتهم تأخذ مساراً مختلفاً، وتؤدي الأحداث إلى كشف حقيقة وأولويات كل شخص منهم.. وبذلك يدخل في الفروق الفردية وتضارب ميولها.

ثم فيلم "ثلاثة رجال وامرأة" لعبد المحسن الضبعان الذي روى فيه قصة ثلاثة كتاب سيناريو ومعاناتهم في صناعة فيلم روائي من تمثيل نجمة سينمائية معروفة وهو عمل يرمي إلى أهمية الصورة في مجتمع محافظ .

وحاول بدر الحمود في فيلم «الكروة» معالجة مشكلة عزوف الشباب عن القبول بوظائف يعتبرونها دون المستوى، بتسليط الضوء على شاب يحاول إيجاد فرص العمل في أي وظيفة وبأي أجر(كروة) .

ثم في عام 2009م بدأت مجموعة تلاشي السينمائية بعضوية تسعة من الشباب السينمائي القادم من خلفية المتابعة السينمائية المكثفة والكتابة النقدية الصحفية مثل: محمد الظاهري وقدم فيلم «شروق/غروب» حول يوم في حياة طفل يعمل بعد المدرسة بائعا في إحدى شوارع الرياض فيتعرض لتحرشات جنسية، وقدم حسام الحلوة فيلمه «مابي» حول الفرد والجماعة وإشكالية التمرد والقطيع، وفيلم «عودة» عن زوج يعيش لحظات اتخاذ قرارا صعبا في حياته ليحرر نفسه كما يرى في الوقت المناسب، وقدم فهد الاسطاء فيلم «تجربة في الطابق السابع» وهو وثائقي حول الصداقة وشغف السينما حينما يقوم المخرج بتحدي ثلاثة من أصدقائه ليقوموا بإخراج أفلام حسب شروط محددة وصعبة، وقدم محمد الخليف فيلم «حسب التوقيت المحلي» وتعرض فيه بشكل ساخر لموضوع إغلاق المحلات مع الآذان من خلال حكاية شاب يبحث عن مطعم يتناول فيه غداءه وقت الصلاة، و قدم محمد الحمود فيلم «ظلال» بلقطة واحدة طويلة قصة فتاة وأختها تقرران الذهاب للسوق في اسقاط حول إشكاليات جدلية في المجتمع مثل زواج الصغيرات والحجاب.

الشباب وقضايا المرأة

عندما تناول الشباب مسائل تهم المرأة فإنهم تناولوها من زوايا مغايرة، كما في فيلم «سكراب» لبدر الحمود، الذي قدم معاناة امرأة فقيرة اعتادت الذهاب مع طفلتها بالسيارة، التي تركها لها زوجها المتوفى، إلى مرمى نفايات الخردة "الـسكراب"، لتلتقط منه ما يمكن أن تنتفع به، فيتم القبض عليها لأنها تقود سيارة. وأيضا كما في فيلم «حوار وطني» لفيصل الحربي، وسرده لقصة امرأة عانس ورجل يبحث عن زوجة ويلتقيان صدفة، ويشعر كل منهما أنه وجد ما يبحث عنه، ولكن أحدهما يختفي في اليوم التالي لأسباب غامضة.

في ذات المجال قدم طارق الرويلي فيلم «انتقام أب» 2013م، الذي يعد أول فيلم أمريكي من إخراج سعودي، وهو من أول الأفلام السعودية التي انطلقت من هوليوود، كما أن إعداد الفيلم كان على يد طلاب مبتعثين استطاعوا أن يعكسوا من خلاله شيئاً من الحياة في الخليج.

أفلام المخرجات السعوديات

من يتأمل جوهر الموضوعات المطروقة من قبل صانعات الأفلام السعوديات، ويراقب الإعلام عنها، يجده متجها إلى تكريس جنوح المخرجة السعودية لتناول الإشكالات التي تواجه المرأة، والمتمثلة في محاور محددة، لعل أهمها قيادة السيارة، وحقها في العمل، وقضية الاختلاط بالرجال في بيئة العمل، والقيود التي يفرضها المجتمع عليها، وترسخ ذلك في صورة ذهنية، بشكل يمس السطح ولا يتعمق في قضايا أكثر أهمية مثل نظام ولاية الأمر للرجال على النساء، وحقوقها المدنية، والحجاب، وزواج القاصرات، والعضل، وتكافؤ النسب، وغير ذلك من الموضوعات الجديرة بالطرح.. ونشير فيما يلي إلى بعض الأفلام التي كرست هذه النظرة لصانعة الأفلام السعودية.

هذه الأفلام، وغيرها، المهتمة بشأن المرأة ثبتت النظرة للمخرجة السعودية بأنها منحازة للموضوعات التي تتناول قضاياها الخاصة دون الالتفات إلى غيرها، في حين أن هناك العديد من الأفلام التي أخرجتها سعوديات وتناولت موضوعات تمس جوانب أخرى وتناقش شؤون متفاوتة، مثل فيلم شهد أمين «حورية وعين» وفيلم عهد كامل «القندرجي»، وفيلم «73ساعة»" لصبا اللقماني، و«جوجو» لنادية الرضوان و«هجولة» لرنا الجربوع و«عش إيلو» لمها الساعاتي و«جواهر» لجواهر العامري، والأمثلة كثيرة التي تبرهن على سعة منهل الموضوعات والقصص التي تحولها الشابات المخرجات إلى أفلام قصيرة جديرة بالمشاهدة.

وقد نلاحظ أن فيلم «أربع ألوان» 2015م، للمخرج توفيق الزايدي، يندرج تحت الأفلام التي تتناول شؤون المرأة، فهو يصور حكاية أربع فتيات مختلفات في نمط التفكير وفي نظرتهم للمستقبل والطموح. في اليوم الأول للسنة الدراسية الجديدة تطلق كل واحدة منهن بالون في السماء بعد أن تكتب كل واحدة أمنيتها على البالون، أمنية واحدة فقط تبقى محلقة في السماء بينما الأخريات تنفجر بالوناتهن بعد دقائق من تحليقها بفعل شقاوة أولاد قاموا برمي البالونات بحجر من خلال لعبة.

نظرة على أفلام 2016م

نستعرض فيما يلي أفلام أنتجت في 2016م، وأولها فيلم «القناص» 2016م للمخرجة نورة المولد. في البداية يعتقد المشاهد أن الفيلم يتحدث عن فكرة لعبة الكترونية مليئة بالعنف والقتال والجثث ولكن بعد الدقيقة الأولى تتضح فكرة الفيلم: معلمة تستهدف عقول الأطفال بسلاح المعلومات المضللة، لكننا نرى في المقابل كيف تتغلب العقول الواعية لطلابها على هذا السلاح بالعلم الصحيح وتتوحد العقول الصغيرة لتلتهم سلاح المعلمة الفتاك بتوحد نور العلم.

وفيلم «ذاكرة ممتلئة» 2016م، للمخرج محمد المريط وسيناريو الكاتب علي حمادة حدوته تحكي قصة طفل يعيش مع والده المنفصل عن والدته، وتجمعه صداقة مع ولد بعمره، وفي أحدى زياراته لصديقه في بيته يشاهد صورة معلقة لصديقه مع والديه فتتكون لديه رغبة شديدة في أن يجمع والديه في لقاء مفتعل ومخطط له ليساعده صديقه في التقاط تلك الصورة، ولكنهما يفشلان بعد محاولات عدة وفي المحاولة الأخيرة ينجح صديقه في التقاط الصورة بالجوال، ولكن يفشل في تخزينها لأن ذاكرة الجوال ممتلئة فيوم صديقه بتركيب صورته مع والديه والوجوه لوالدي صديقه، ويقوم بإهدائه الصورة مطبوعة في مشهد مؤثر.

وقدم محمد الهليل فيلم «ماطور» يدور حول رجل منعزل في منتصف العمر، يعيش وحيداً، ويتنقل بدراجة نارية، إلا أن عطلاً أصاب هذه الدراجة أجبره على مخالطة الناس الذين حاول طوال حياته الابتعاد عنهم... الفيلم بذلك يطرح سؤالا عميقا، فما الذي يجعل الفرد منعزلا وما الذي يجعله متفاعلا مع محيطه؟

أما فيلم «أصفر» 2016م للمخرج محمد سلمان، فيلم وثائقي يحكي عن متاعب سائقي الأجرة ومعاناتهم مع الزبائن على مدى سنوات طويلة، يقطعون المسافات لأجل لقمة العيش، وكيف تغيرت أحوالهم بعد أن بدأت شركات الليموزين تنافسهم في رزقهم، وكيف أثر ذلك على دخلهم المادي، حكاية تروى على لسان شخوصها الحقيقيين تكلموا تارة بمرارة وتارة بمرح وفكاهة، ورغم بساطة الإمكانيات أستطاع المخرج أن يلمس معاناة سائقي سيارات الأجرة الصفراء.

 ثم فيلم «فضيلة أن تكون لا أحد» من إخراج بدر الحمود المميز بأفلامه الاجتماعية ذات الطابع المؤثر، وتدور أحداثه حول شاب فقد عائلته عندما التقى مع رجل مسن أعور ينتحل شخصيات متعددة بحثاً عن المؤازرة، الفيلم من بطولة إبراهيم الحساوي ومشعل المطيري.

 وأيضا فيلم «البجعة العربية» من اخراج فهد الجودي وتدور أحداثه حول فتاة سعودية تسافر في بعثة لدراسة الطب في أمريكا مع أخيها، ولكنها تتعلم الباليه وتتقدم في مدرسة خاصة بالباليه وعندما يكتشف أخوها يمنعها من حضور دروس الرقص، ليبدأ الصراع بين رفض أخيها وتشجيع صديقاتها وحبها للباليه، خاصة وأن الرقص هو من أكثر العادات الغير مقبولة في المجتمع ويبقى على عاتقها أن تختار، الفيلم من بطولة آية مختار، لورين ب، موسلي وأحمد الجندي.

إلا أن فيلم  «أيقظني» من إخراج ريم البيات تدور أحداثه حول امرأة تمر بأزمة منتصف العمر وتحاول أن تستعيد هوايتها الفنية مع رفض المجتمع لها وتربص كل المحيطين بها، وأيضا شعورها الداخلي بالذنب. بطولة إبراهيم الحساوي، وسمر البيات، وماهر الغانم.

 وكذلك فيلم «300 كم» من إخراج محمد الهليل تدور أحداثه حول رحلة سفر طويلة لرجل وامرأة مع رضيعها في سيارة صغيرة، من بطولة خالد صقر، وزارا البلوشي، وإبراهيم الحجاج. وأخيراً فيلم «ثوب العرس» للمخرج محمد سلمان تدور أحداثه حول اعتقاد بأن من يخيط ثوب عرسه في هذه المنطقة سيموت، وكانت هناك خياطه وحيدة بالمنطقة مقتنعة بهذا الاعتقاد ولكن ما هو رد فعلها عند اقتراب موعد زفاف ابنتها، من بطولة عبدالمحسن النمر، شيخة زويد، سالي زاك، فاطمة البوعينين، وسيناريو زينب الناصر.

فيلم بلال

فيلم الأنيميشن «بلال» في 2016م يعد نقلة هامة في صناعة أفلام الكرتون السعودية، فقد لاقى استحسانا كبيرا سواء على المستوى المحلي أو العالمي، فقد دخل هذا الفيلم موسوعة جينيس للأرقام القياسية لأنه يحتوي على أطول مقطع كرتون يصل إلى 11 ونصف دقيقة يصور فيها أحد المعارك، فيروي الفيلم عن حياة الصحابي بلال بن رباح منذ طفولته وحتى انتقاله إلى الجزيرة العربية، ثم مرحلة دخوله الاسلام، وقد تم التحضير لهذا الفيلم عدة سنوات واستغرق تصويره حوالي 3 سنوات .

أفلام في 2017م

في ديسمبر 2017م أنتجت عدة أفلام لمخرجين سعوديين، ونخص بالذكر منها ما يلي:

 فيلم «احتجاز» للمخرجة هاجر النعيم، الفيلم يتحدث عن فتاة سورية تدعى "لارا" تحاول إيجاد حياة أفضل لعائلتها المحتجزة في سوريا وذلك بمساعدة أحد مدرسيها في الجامعة، ووالدها هو منفذ عملية إرهابية بمطار هيثرو بلندن، ويلقى القبض على لارا ويتم التحقيق معها لتدخل في دوامة من الأحداث المتسارعة.

فيلم «كبش الفداء» للمخرج طلحة عبدالرحمن، قدمه المخرج طلحة عبدالرحمن عن قصة متخيلة تجري في مكان معزول برفقة كاتب روائي يتصارع مع خياله. تدور الأحداث حول كاتب روائي يعيش في عزلة عن الناس، باحثاً عن إلهام لكتابة روايته الجديدة التي تعسّرت كثيراً، وتبلغ به الهواجس الإبداعية إلى الحد الذي يجتمع فيه مع ثلاثة من شخصياته الروائية المتخيلة على طاولة واحدة، الفيلم من بطولة ممثل واحد أدى أربع شخصيات باقتدار.

فيلم هيفاء المنصور «ماري شيلي» وفيه حكت قصة حياة الروائية البريطانية "ماري شيلي" مؤلفة رواية الرعب الكلاسيكية «فرانكشتاين»، بمشاركة نجوم هوليود إيلي فاننغ، مايسي ويليامز ودوغلاس بووث. تناول الفيلم سيرة الكاتبة البريطانية الشهيرة، بشخصيتها القوية التي تواجه العالم من أجل الحفاظ على قناعاتها. وهنا نرى الشابة "ماري" وهي في منزل والدها بلندن وتبدي اهتماماً بالأدب لكنها تواجه تدخلات حادة من زوجة أبيها، في الوقت الذي تتشكل فيه علاقتها العاطفية مع الشاعر الشاب بيرسي شيلي، فتختار الهرب بعيداً مع حبيبها في رحلة ستقودها إلى كتابة أشهر روايات الرعب.

فيلم «الظلام هو لون أيضاً» للمخرج مجتبى سعيد. يغوص في عمق الغابة الألمانية، مطارداً الشخصية الرئيسية التي تغوص بدورها في أعماق ذاتها، بحثاً عن معنى لحياتها. كشف الفيلم عن اشتغال بصري متطور في تجربة مجتبى سعيد، الذي حاول النظر إلى الغابة الألمانية بعين كونية، يقاتل فيها الإنسان مع طبيعته، وهي الطبيعة البشرية الآيلة للفناء، ومقاومة هذا الفناء الحتمي، المتجسد في تقدم العمر، من خلال رفض إخفاء زوجته لأسلحة الصيد، وكصيّاد، يكون تعبيره هنا بأنه لا يعترف بالهرم، بل يصر على التسلح ودخول الغابة متعالياً على مأزقه الفطري الطبيعي والجسدي، بأنه كبر في السن.

الباب الثاني

قراءات في بعض الأفلام

الفصل الرابع

اغتيال مدينة... نبوءة عبدالله المحيسن الشاهدة

لو تأملنا ــ مجددا ــ فيلم «اغتيال مدينة»، وهو أول فيلم تسجيلي سعودي، لوجدناه بمثابة معالجة تسجيلية لأحداث الحرب اللبنانية التي اندلعت في منتصف السبعينات. غير أن هذا الفيلم، الذي أخرجه السعودي الرائد عبدالله المحيسن في 1977م، تميز برؤية سينمائية محايدة بعيدة عن إثارة النعرات الطائفية أو الأيديولوجية، ونقل من خلاله مشاهد حية وصورا واقعية من قلب الأحداث إبان اشتعال الحرب اللبنانية الأهلية ــ آنذاك.

 ليس ذلك فقط ما منح الفيلم قيمة توثيقية هامة، وجعل منه تسجيلا صادقا لبشاعة الحرب التي استمرت ستة عشر عاما بدأ من الثالث عشر من أبريل عام 1975م، حيث انطلقت الشرارة الأولى للحرب لتوقع أكثر من 150 ألف قتيل ونحو20 ألف مفقود وشردت مئات الآلاف من اللبنانيين على مختلف طوائفهم ومذاهبهم. ولكن ما يمنح الفيلم على الدوام هو لغته التحذيرية ونبوءته المستقبلية للأوضاع التي ستتفجر في المنطقة وتكون بدايتها اغتيال مدينة جميلة من أجمل الحواضر العربية: بيروت. التي ما زالت تعاني من تداعيات وتبعات تلك الحرب البغيضة.

نص بصري متماسك

 والفيلم لمن يتفحصه اليوم بعد قرابة أربعين عاما من إنتاجه، يجده نصا بصريا متماسكا، يخاطب مشاهده بلغة الوثيقة السينمائية الدائمة التأثير. إذن، لقد عبر الفيلم ذو الدقائق الست عشرة، وبلغة بصرية موجزة وعميقة، عن رفض تلك الحرب التي ما زالت في بداياتها وقت إنتاج وعرض الفيلم، فكان الفيلم بمثابة تنبيه لما يمكن أن يؤول إليه الحال إن استمرت الحرب.. وبالفعل صدقت نبوءة «المحيسن» وأدت السنوات الست عشرة السوداء إلى مزيد من الخراب والدمار، سواء على المستوى المدني أو الإنساني، ليس في بيروت وحدها، بل طال عواصم أخرى قريبة منها ومدن عربية أخرى تم اغتيالها كما تم اغتيال هذه المدينة... هكذا تأجج الصراع بين أطراف الحرب: القوات اللبنانية، حزب الكتائب اللبنانية، حزب الوطنيين الأحرار، منظمة التحرير الفلسطينية، إسرائيل، الولايات المتحدة الأمريكية، الحركة الوطنية اللبنانية، حركة أمل، حزب الله، الحزب التقدمي الاشتراكي. إضافة إلى جماعات وطوائف لعبت دورا في الصراع: المسلمون السنة، المسلمون الشيعة، الدروز، الموارنة، والفلسطينيون. وهي ذات الأطراف التي تلعب نفس الأدوار الآن مع تغيير طفيف في (السينوغراف) الواقعي ــ إن صح القول.. لكن مع كل السيناريوهات التي كانت مطروحة في السبعينات لم ينحز الفيلم لأي طرف، بل كان بمثابة الرسالة للجميع، بأن ينصتوا لصوت العقل ويحقنوا الدماء.. ولكن دون طائل.

تعبير بالرسوم المتحركة

مقدمة الفيلم تدور في دقيقتين من الرسوم المتحركة، تصوران الصراع العالمي، في مرحلة التقاطب الدولي الشديد، بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، من خلال دلالات بسيطة، ومعبرة، تبين رجلين، أحدهما: عاري الساقين، بسرواله القصير، والقامة النحيلة الطويلة، والقبعة المتطاولة، وجراب المسدس المتدلي على خاصرته. وثانيهما: قصير وبدين، يرزح تحت المعطف الثقيل، ذي اللون الأحمر، والقبعة المستديرة. بينهما توجد الكرة الأرضية، الأول يشير إلى السماء، ويقتطف قطعة من الكرة.. والثاني يشير إلى الأرض، ويقتطف قطعة أخرى من هذه الأرض.


ويبدأ الفيلم فعليا بمشهد امرأة لبنانية، تنوح عند قبر عزيز لها.. هذه المرأة المتشحة بالسواد، لعلها هي بيروت ذاتها، أو نموذجها، وناسها الأبرياء، الباحثون عن لحظة نور، ونقطة ماء.. هكذا يبدأ الفيلم كمرثية سينمائية لمدينة بيروت التي هاجمتها جرثومة الحرب. ثم ينطلق التعليق: (ماذا فعلت اليد باليد؟. لماذا انغلق القلب على القلب؟. أية لوحة رسمتها يا أصابع الموت؟. أي طائر مد مخالبه في القلب منك يا بيروت؟. يا مواسم الحزن، لقد أطلت على قلوبنا، واعتصرتِ الرحيق من شفاه أطفالنا. هذه بيروت التي كانت. هذه بيروت التي صارت. يا قذائف الموت. أي بريء ستوقعين عليه قصاصا لا يستحقه؟).. يترافق هذا التعليق مع مشاهد وثائقية قاسية عن الحرب: المليشيات التي تعد نفسها للحرب. المسيرات والمظاهرات الصاخبة. مشاهد من القتال العنيف في شوارع بيروت.. والتعليق يدعو: (يا نار اخطئي هدفك). ثم صور ومشاهد المهجرين والمشردين، تقول إن من نجا من القتل وجد نفسه طي التهجير والتشريد من بيته، ومن مكانه، في مأساة إنسانية عظيمة، سوف تبقى ندبة على جبين الذاكرة. قطع، ثم ينتقل الفيلم إلى «مؤتمر القمة السداسي» الذي انعقد في الرياض في أكتوبر (تشرين الأول 1976م)، لتدارك الأوضاع وإنهاء الحرب.. نرى حضور الأمير فهد بن عبدالعزيز، ولي العهد ــ آنذاك، وندرك دوره المحوري في التوصل إلى عقد هذه القمة، ووقف إطلاق النار.. كما نرى مشاهد من المشاركة السعودية في «قوات الردع». تتوقف تلك الجولة من الحرب، ونذهب إلى مشاهد هادئة. عجائز يسيرون في شوارع بيروت الخالية من المارة، وسط الدمار. فيما تبدأ عملية إزاحة الركام، والشروع في الإعمار. وتبدأ عودة الحياة إلى بيروت.. فقد (آن للأنواء المحمومة أن تنحسر عن جبين لبنان).. وأن تنجو بيروت من محاولة اغتيالها.

مولد السينما التسجيلية السعودية

عمد المخرج عبدالله المحيسن إلى توظيف كل ما يمكنه، من وسائل فنية، للخروج بفيلم تسجيلي وثائقي متميز، ففضلا عن الصورة المنسوجة بمونتاج متناغم، والتعليق الذي يلامس حافة الشعر، رقة وأسى، كما لعبت الموسيقى التصويرية التي صاغها الموسيقي عمار الشريعي دورا هاما في خلق الأجواء النفسية المناسبة، من توتر وقلق، ووجع وتفجع، وأمل واستبشار. هامسة في ضمائر الجميع «لا نريد حرب في لبنان بعد اليوم».

بهذا الفيلم ولدت السينما السعودية التسجيلية على يد أول سينمائي سعودي، مؤسس أول استوديو تصوير سينمائي في المملكة العربية السعودية، المخرج عبدالله المحيسن، وهو من مواليد مكة المكرمة عام 1946. ودرس في لندن «الأكاديمية الملكية البريطانية للإنتاج» عام 1971، ثم درس الإخراج والتصوير والسيناريو السينمائي في «لندن فيلم سكول» عام 1974. وأسس «الشركة العالمية للإنتاج السينمائي بالرياض» عام 1975م، وأخرج عدة أفلام تسجيلية: أولها عن مدينة الرياض بعنوان «تطوير الرياض» بتكليف من جهة حكومية عام 1976م، ثم فيلمه «اغتيال مدينة» في عام 1977م، وهو يعتبر الأول له فكرا ومضمونا وتنفيذا، والثالث فيلم «الإسلام جسر المستقبل» عام 1982م. ثم فيلم «الصدمة» 1992م. إلى أن حقق في 2005م فيلم «ظلال الصمت» أول فيلم سعودي روائي طويل.

الفصل الخامس

حسن وحسنين... فانتازيا كوميدية تسخر من الواقع

الوعي بالتعامل الإنساني في كافة ضروب الحياة وإدراك سلبيات التسلط والتعالي، خصوصاً في تعامل بعض الأفراد السعوديين مع الجنسيات الوافدة للملكة بغرض العمل، غدا مفهوماً متنامياً بين طبقات المجتمع السعودي المتحضرة. الأمر الذي دفع ثلاثة شبّان سعوديين نابهين، هم: كامل زين، ياسين كامل ومؤيد النفيعي، لكتابة قصة وسيناريو الفيلم السعودي القصير «حسن وحسنين» الذي قام ببطولته الممثل الموهوب "مؤيد النفيعي" وأخرجه المخرج الواعد "كامل زين" بكثير من الاحترافية وكأنه متمرس في الإخراج الدرامي رغم أن تجربته لا زالت في بداياتها.. فقدم في 18 دقيقة (إسكتشاً يوتيوبيا)، إن صح القول، وجعله صفعة نقدية لإحدى السلوكيات السلبية في الواقع السعودي، ولكنها صفعة فنية عبر السخرية اللاذعة والفنتازيا الباعثة على التأمل والكوميديا السوداء المرحة.

خفّة ومشاهد طريفة

في الخمسة دقائق الأولى من الفيلم نتعرف على "حسن" الذي يُجسِّد شخصية شاب سعودي يعمل مديراً بشركة والده الثري، ولكنَّ حسن يدير الشركة بفوقية وفظاظة شديدة، بل ولا يحترم مواعيد عمله ولا يكترث للاجتماعات الهامة في الشركة، كما أنه لا يبدي أدنى احترام للموظفين وزملائه العاملين تحت إدارته في الشركة...

 تدور المشاهد الأولى في الفيلم بخفة وبقدرة عالية في التمثيل والأداء الطبيعي للمثلين: براء حسن، صالح الخلافي، عبدالخالق عاطف، الآء تمّار وهبة شرقاوي، لينقلوا للمشاهد في إيقاع لا تشوبه الرتابة أو الملل، عالم الشركة التي يدير إحدى أقسامها حسن.. تستمر الأحداث ويحدث أن يراجع أحد الموظفين من الجنسية المصرية واسمه "محمود" مديره حسن، حيث مرض والده وجاء يطلب إجازة اضطرارية لمدة خمسة أيام لكي يسافر ويطمئن على والده. ولكن "حسن" يرفض منح "محمود" الإجازة ويعنفه بكل قسوة. وهنا نشاهد الموظف المصري وقد رفع يديه ليدعو على حسن.

وتبدأ الفنتازيا

يذهب حسن الى منزله وينام نوماً قلقاً، وعندما استيقظ وجد أن شكله تغير وأصبح بدون شارب أو لحية، وحينما أراد التفوه بالكلام وجد أنه ينطق الكلام باللهجة المصرية (أجاد ممثل «الإستانداب كوميدي» مؤيد النفيعي اللهجة والأداء)، وينسى أنه على موعد مع زوجته التي ذهبت للتسوق وكان وعدها بأنه سيأتي لإحضارها بعدما تفرغ من التسوق.

صعقه هذا التغيير الذي اعتراه فجأة، ودون وعي منه، لقد وجد نفسه يرتدي بنطالاً وقميصاً ويذهب الى العمل، ويبدأ في البحث عن الموظف المصري "محمود"، فقد أدرك أن دعاءه هو الذي أدى به الى هذا الحال.

لقد تحول حسن الى شخص مصري اسمه «حسنين»، وهنا تتجلى المفارقة والكوميديا الباعثة على الضحك.. ويواجه حسن/حسنين والده صاحب الشركة، فينهره ويطرده من العمل لأن الجميع بدأ يشكو منه ومن تصرفاته وعنجهيته... يهيم حسنين على نفسه وينخرط في عالم الموظفين المصريين اللذين يلتقون في مقهى، فيقومون بالسخرية منه لأنه يدعي أنه سعودي بينما شكله وحديثه يشير الى أنه مصري.. بعد حوار طريف مع الزبائن المصريين في المقهى قال له نادل المقهى، بعدما استمع الى حكايته: (بص يا باشا، كلنا أولاد تسعة، يعني قيمة الإنسان في أخلاقه مش في جنسيته).

يغادر حسنين المقهى وعند قيادته لسيارته يشتبك مع أحد رجال الشرطة لأنه شك في أنه ينتحل شخصية كفيله السعودي ولا يحمل تصريحاً بالإقامة ويقود السيارة الخاصة بالسعودي حسن.. يتم توقيف حسن/حسنين، وفي السجن يلتقي برجل اسمه «خلاص» يقوم بازدرائه وتوبيخه فيصرخ حسنين: خلاص.. خلاص ..خلاص.

رسالة واصلة ..بغير مباشرة فجة

في الدقيقتين الأخيرتين من الفيلم نشاهد حسنين وقد عاد الى منزله ولكنه لم يكف عن تعاليه وغلظته مع حارس المنزل الهندي الذي وقف مكسوراً مطأطئ الرأس.. يدخل حسنين الى بيته ويحاول النوم بمزيد من الأرق.. وعندما استيقظ وجد نفسه مرتدياً ملابساً هندية ويتكلم بلغة الأوردو الخاصة بالهنود.

مثل هذه القضايا الإنسانية التي كانت مغيبة عن المناقشة والانتقاد بدأت تنطرح مع فئات كثيرة من الشباب في شتى حقول وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وأخذت تتفاعل في الأنشطة الكتابية في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن يبقى دائماً أثر الدراما عبر الأفلام السينمائية سواء القصيرة أو الطويلة فعالاً ونافذاً، وتصل رسالتها الى متلقيها بحميمية أعمق، مغلفة بروح الفن الذي لا يقدم الوعظ والوصاية والخطابة، بل اللفتة النابهة والهمسة المؤثرة.. وهذا ما تنبه له فريق العمل في فيلم «حسن وحسنين»، وهو في كل حال اتجاه محمود يراقبه الجمهور بعين التقدير لهؤلاء الشباب اللذين قدموه، ولا غرابة إذا ارتفع عدد مشاهدي الفيلم الى ما يزيد عن 800 ألف مشاهد من خلال قناة اليوتيوب التي عرضته في الأسبوع الأول من يوليه 2014م. وحملته مواقع أخرى ليتجاوز الرقم المليون مشاهد.

الفصل السادس

بسطة.. التفاتة حانية للبائعات المتجولات

المفارقة اللطيفة التي حدثت في الدورة الثالثة لمهرجان أفلام السعودية 2016م، هي عرض فيلمان يتناولان ظاهرة "البسطة" أو الباعة المتجولون أو القابعون ببضاعتهم في الأسواق الشعبية ويترزقون من بيع المستلزمات البسيطة.

 الفيلمان تم إنتاجهما خلال السنة الماضية، أحدهما تسجيلي قصير للمخرج الشاب محمد الحمادي بعنوان "البسطة"، تقصى فيه خبايا المهنة وخلفياتها ودوافع أصحابها لمزاولتها، والثاني روائي قصير للمخرجة الشابة هند الفهاد بعنوان "بسطة"، ويتناول قصة إنسانية عن إحدى البائعات أو "البسّاطات" كما يطلق عليهن، وهو مأخوذ من أحداث حقيقية، كما أشارت المخرجة في مقابلة صحفية لها، ويحمل تعاطفا مع النساء اللائي يعملن في هذه المهنة بالمدن السعودية.. نالت عنه المخرجة جائزة النخلة الذهبية التي تسلمتها في الحفل الختامي لمهرجان الفيلم السعودي على مسرح خيمة إثراء المعرفة التابعة لأرامكو بالظهران وسط جمهور غفير.

قصة قصيرة

الفيلم بدقائقه الخمسة عشر ينقل معاناة امرأة تدعى "أم سالم" (الممثلة سناء بكر)، تعمل في هذه المهنة بسبب الظروف المادية التي أجبرتها على الجلوس ببضاعتها في سوق شعبي، وقد افترشت بعض النساء البائعات أرضه بما يكون سوقا للبساطات.

يبدأ الفيلم بكادر عريض، والوقت صباحا، لبيت شعبي تقف أمامه سيارة مفتوحة الخزانة الخلفية، وتمر لحظات ويخرج شاب (الممثل أحمد عبدالله) في دور "سالم" يحمل صندوقا ثقيلا ويضعه في خزانة السيارة، ثم تخرج أم سالم وتستقل السيارة مع سالم ليوصلها إلى موقع السوق الشعبي، حيث اعتادت على فرش بسطتها بين النساء، وكانت غابت عن السوق مدة أسبوعين بسب عملية طبية أجرتها، مما جعل امرأة أخرى تأتي وتحتل موقعها الذي اعتادت عليه.

في لقطات متداخلة مع وصولها للسوق، ورحلة انتقالها من البيت إليه، يدور حوار بين الأم والابن، نتعرف من خلاله على ملامح سريعة لحياتهما وسبب اختيارها لهذه المهنة التي تراها مريحة ولا تتطلب مجهودا سوى الجلوس واستقبال الزبائن لتبيع لهم ما تعرضه من مواد العطارة وبهارات الطعام، وهي أيضا المهنة أو "الشغلة" التي تجعلهما يرفعان رأسيهما ويسلمان من منة الناس، كما قالت لابنها.

 تصل أم سالم إلى السوق وتجد بسّاطة أخرى قد جاءت واحتلت مكانها، وتحاول تنحيتها عن ذلك المكان دون فائدة، فيظهر الشرطي حارس السوق (الممثل إبراهيم الحساوي)، ويحاول التدخل في النزاع الذي دار بين المرأتين، وترفض أم سالم أن تشكو للشرطي، لكن عيون النساء البائعات الأخريات تتراءى من خلف النقاب وتوحي بالريبة من محاولة تتدخل الشرطي، فيما تنبعث إشارات خفية وخاطفة، وأيضا غير مؤكدة، تشير إلى أن الشرطي يدبر أمرا.

عقدة القصة

تأتي امرأة متسوقة لتبتاع من أم سالم، وتطلب منها أن تترك لديها بعض الأكياس المملوءة بالأغراض ريثما تعود بعد قليل، وبعد ممانعة توافق، فتترك الأغراض وتغادر... بعد لحظات تأتي امرأة أخرى تدعي أنها شقيقة المرأة التي أودعتها الأكياس، وتطلبهم منها وتأخذهم، بعد أن برهنت لها أنها تعرف محتويات الأكياس، وأن المرأة التي تركتهم عندها هي أختها وأرسلتها لتأخذهم منها.

يأتي الشرطي، ويتحاور مع أم سالم، ويتضح أنه قد عرض عليها الزواج من قبل، ولكنها لم توافق، وتقول له: يكفيك النساء اللاتي لديك... في نفس اللحظة تعود المرأة التي كانت أودعتها الأكياس، وتطلب أغرضها، لكن أم سالم تخبرها بأن أختها جاءت وأخذتهم.. يدب نقاش حاد بينهن، توجه فيه المتسوقة اتهاما لأم بأنها سرقتها، ويتدخل الشرطي لإنهاء النزاع، ويطلب من المرأة بأن تذهب الآن وتعود غدا، ويعدها بأنه سوف يعطيها المال الذي يعوضها، إن لم تعطها البائعة قيمة الأغراض، وبذلك يطلب منها المغادرة... بعدما تغادر يبتسم الشرطي ابتسامة ماكرة ويومئ بجسده وبملامح وجهه بأنه هنا.

خاتمة مخلّة بالسياق

المشهد الأخير في الفيلم يظهر أن الليل قد حل، والمحال في السوق أغلقت، والنساء البائعات غادرن، وأم سالم تجلس وحيدة منتظرة ابنها الذي تأخر في الحضور لاصطحابها إلى البيت، وهنا يتقدم الشرطي بسيارته ويقف ليقلها معه، ويتضح وجود امرأتان في السيارة معه... تركب أم سالم السيارة وينتهي الفيلم. ويترك الفيلم أسألة مفتوحة: هل النساء اللذين مع الشرطي هن حصيلة اليوم؟ والى أين سيأخذهن؟ هناك ثمة لبس لم يكشفه هذا الجزء من الفيلم، ويبدو أن السيناريو لم يعالجه بالشكل المطلوب.

الحبكة والإيحاء

من ضمن ما يميز الفيلم الاختصار والاشتغال بالإيحاء المدعوم بإشارات خاطفة ربما يراد منها تقليص دقائق الفيلم إلى أقصى حد، فجاء سرد الفيلم مكثفا، لا يكشف عن العقدة الرئيسية بشكل سافر، ولا يكشف عن نهاية واضحة.

من ناحية القصة، قد لا يدرك المشاهد إذا ما كانت أم سالم وافقت على عرض الزواج من الشرطي، أو أنه عرض آخر غير الزواج، تحت ضغط تورطها في حادثة فقدان الأغراض، وفي نفس الوقت قد يوحي ركوبها معه على هذه الموافقة، التي لا يعرف المشاهد مضمونها، وإن كان يمكن تفسير ركوبها معه بسبب تأخر ابنها عن الحضور لأخذها، ليس إلا.

ويظل الفيلم طالبا لمشاهدة يقظة، فقد تصل سياقاته لمشاهد وتغيب عن آخر، ولكن جودة العناصر الفلمية: تقنيات التصوير، والحوار وأماكن التصوير، المؤثرات الصوتية، الموسيقى، والتمثيل المتمكن..الخ، جعلت منه فيلما جيدا ومستحقا للجوائز التي نالها.

جوائز نالها الفيلم:

ـ نال جائزة المهر الخليجي للأفلام القصيرة بمهرجان دبي السينمائي، ديسمبر 2015م

نال جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان الشباب للأفلام في جدة، فبراير 2016م .

ـ نال جائزة النخلة الفضية في الدورة الثالثة لمهرجان الأفلام السعودية بالدمام، مارس 2016م.

بسطة ـ تمثيل سناء بكر يونس وإبراهيم الحساوي وعبدالله أحمد، وغالية مرشد، تصوير: حسن المدلوح، تنفيذ الإضاءة: شهاب علي، المنتج المنفذ: مجموعة فراديس "عبدالله حسن احمد"، سيناريو: هند الفهاد, هناء العمير، تصوير: حسن سعيد، مونتاج: علي سلوم, يوسف بوخماس، موسيقى : بكر فلاته، والفيلم من تمويل وإنتاج tow four54 أبوظبي. 

سبق للمخرجة أن قدمت ثلاث أفلام قصيرة الأول بعنوان "ثلاث عرائس وطائرة ورقية" عام ٢٠١٢، والفيلمان الآخران شاركت بهما في مهرجان الخليج السينمائي بدبي، أحدهما بعنوان «المقعد الخلفي» 2013م، والثاني بعنوان «يدا بيد» 2014م.

الفصل السابع

فضيلة أن تكون لا أحد...معاناة الذات مع الآخرين

يبدو جلياً أن بدر الحمود مؤلف ومخرج فيلم «فضيلة أن تكون لا أحد» قد اشتغله بقدر عالي من الجدية والتوق لصنع فيلم قصير(26 دقيقة) ممتع فكرياً و وجدانياً، لينال عنه جائزة أفضل فيلم قصير في حقل "المهر الخليجي" بمهرجان دبي السينمائي 2016م، الجائزة التي اكتسبت بمنحها له حظاً موفقاً، إذ أن بعض الجوائز تحافظ وترتقي بمكانتها وبالمهرجان المقدمة تحت مظلته عندما تمنح لأعمال جديرة.

 سرد الفيلم يعتمد على الحوار بالدرجة الأساسية، يخاطب العقل ويتطلب تفكيراً وتأملاً وقدرة على إثارة التساؤلات أثناء المشاهدة وبعد الانتهاء... محطات متلاحقة من الاسترجاع يدور فيها حوار يبدو بسيطاً لكنه مشحون بالإشارات الملامسة لموضوعات عميقة تصل إلى درجة الفلسفة، تتساءل عن قيمة الوجود الفردي للإنسان، وتناقش جدلية: كيف يجد الإنسان نفسه، من خلال متقابلات متعاكسة: الموت ـ الحياة. الخوف ـ الأمل. اللحظة الآنية والماضي. الألم والهروب منه. المستقبل والمجهول. السعادة والفقد. ألفة الصديق وألفة الغريب. المؤثر الديني والخرافة الشعبية..تلك الدقائق الماورائية التي تحدث في حياتنا وداخلنا وحولنا ولا نجد تفسيراً منطقياً لها.

واقعية جديدة

الفيلم يتمسك بأسلوب الواقعية الجديدة وجماليات اللقطة القريبة والتصوير خارج الاستوديو في الأماكن الطبيعية والبساطة في التعبير، ينحى إلى ملامح من إشغالات عباس كيارستمي. سينما تقدم أفكاراً فلسفية عن حالات إنسانية على نحو مبسط ظاهرياً ودونما تعقيد. سينما يكتبها صانع الفيلم بنفسه وربما يتولى مونتاجها ورسم السيناريو لها. حكايتها بسيطة ولكنها تعمل على تحريك كثافة عاطفية كبيرة. تستمد مصادرها من البيئة والثقافة المحلية وهي بذلك مليئة بالمجاز والتلميحات المكانية والاجتماعية الدالة، أصيلة في مكوناتها: الملابس، اللهجة، التراث. الأساطير، والفنون (كما في توظيف أغنية طلال مداح). تتخذ من السيارة مكاناً للتأمل، للتذكر والملاحظة وللكلام والحوار (كما في طعم الكرز). تميل إلى القصصية التي تكشف العواطف الإنسانية الأعمق في أكثر الأحداث اعتيادية ومألوفية في الحياة. لا ترهق سردها ومكونها السمع بصري بموسيقى تصويرية أو مؤثرات صوتية مفتعلة بل تتعمد إبراز التراكيب الصوتية المنسابة بتلقائية مع الحركة في المكان.. هكذا يراوح بدر الحمود بذكاء لا يبدو ظاهراً ولكنه حقيقي في كل لقطة في الفيلم.

ذات نكرة متلصصة

كينونة الإنسان عندما يتجرد من ذاته ليصبح باحثاً عن ذاته وعن ذات تآزره أو ليلعب معها لعبته الأثيرة في التخفي وراء شخصيات وقصص مخترعه لذوات وهمية لا تمثل شخصه، رغبة في المعرفة وفي مشاركة الآخرين همومهم عن طريق البوح و"الفضفضة". هكذا يبدو جوهر الفيلم.. لكن ثمة فضيلة علينا أن نكتشفها إذا تأسينا بمنطق البطل ولم نكون أحدا بعينه، فما هي هذه الفضيلة التي يكتسبها إنسان العصر عندما يكون ذات نكرة ولا يكون أحداًً بعينه؟ 

 غير أن الفيلم لا يزج بالمشاهد في طرح فلسفي متعالي إنما يخاطب المشاهد العادي، فمن شأنه أن يستخلص منه ما يرى، وهذا يضع أمامه عدة علامات استفهام يلتقطها من يلتقطها وتغيب عمن تغيب، ليبقى خط درامي وحيد يظهر وكأنه السؤال الاستفهامي الكبير في الفيلم: ماذا به هذا الرجل؟ ومن هو؟ ولماذا يفعل ما يفعله؟. تارة أبوناجي وتارة أبو محمد، وربما أشخاص آخرين، كما يوحي السياق.

تنساب دقائق الفيلم في إيقاع متوازن ويعمل الحوار على إلغاء الزمان والمكان، ولكنهما يظلان حاضران في التكوين الكلي لمشاهد الفيلم، وهما غائبان في نفس الوقت بسبب حرفة المخرج في تجاوز تأثراتهما الطبيعية، وإن بهتت الإضاءة في رابعة النهار بما يوحي بالطقس الغائم أو بأجواء الشتاء ، غير أن ذلك لم يتضح درامياً وتركه المخرج دون معالجة..

القصة ـ مداخلة مع السيناريو

يعبر سائق السيارة "أبومحمد" (مشعل المطيري) فيجد على قارعة الطريق رجل "أبوناجي" (إبراهيم الحساوي) يضع على عينه اليسرى ضمادة فيعرض عليه توصيله إلى وجهته "محطة النقل الجماعي". يصعد الرجل ثم يبدأ حوار بينه وبين الراكب، نتبين من الحوار هوية كل منهما، وملمح من معاناة يكابدانها.. كلاهما فقدا ابنيهما وزوجتيهما.

غالباً ما يفتتح مداخل الحوارات أبوناجي، يبدأ بجملته: "لو كان ابني عائشاً لكان في مثل عمرك". فيسأله السائق: ماذا حل به؟.. يسرد وقائع حادثة وفاة ابنه الذي غرق بعين (عذاري) بالبحرين. بعدما يفرغ من روايتها يصمت قليلاً، ثم يبدي اهتمامه ويسأله عن ابنه الذي فقده في الحرم قبل أربع سنوات.

هل سنصدق القصتين على أنهما وقعتا ـ درامياً ـ كحقيقة في سياق الفيلم؟.. هذا ما يوهمانا به.

يأخذ الحوار بالتعمق في تفاصيل معاناة الرجلين. يخبره سائق السيارة "أبومحمد" أنه طلق زوجته، ولم يصب بحزن تجاه ذلك. لكنه يفسر سبب الطلاق بسبب حادثة ضياع الابن. كان يخشى أن تتركه زوجته، لكن عندما حدث ذلك بالفعل لم يكترث لدرجة أن ضميره أنبه لأن ضميره لم يؤنبه!.. حالة صادمة تحيل إلى غور نفسي غير مفسّّر.

يرد عليه أبوناجي، بأنه عندما مات ناجي لم يحزن ودفنه وكأن شيئاً لم يكن. لكن بعد فترة حدث شيء جعله يبكي بحرقة: قبل غرق الولد كان يلعب حول بئر وكانت هناك كومة اسمنت رطبة، وطئها الطفل وتركت أثراً لتجف في الاسمنت، فأخذته الأم واحتفظت به في حوش البيت. بعد شهر عندما شاهدها أبوناجي بكي بشدة.. وكل ما شاهد آثار الطفل على الاسمنت بكى بحرقة!

استدرك أبومحمد أنه فهم لماذا أخفى "الآي باد" الخاص بمحمد: لأن بصمات أصابعه كانت باقية على الشاشة.. يتعجب أبوناجي ويهمس "نبكي على آثارهم ولا نبكي على فراقهم"!

يدخل أبوناجي في رواية قصة أخرى عن عينه التي ولد بها ممسوحة، وعن نزاع قام بين والدته وساحرة، أثناء حملها به. قامت الساحرة بنثر مسحوق أبيض على وجهها، وبعدما ولدته كانت عينه عوراء.. عندما كبر قليلاً أصبح الصبية في الحارة يدعونه بالمسيح الدجال.

وصل السائق أبومحمد إلى محطة النقل الجماعي حيث يود أبوناجي ركوب "الباص" للسفر إلى الرياض. لكن الوقت تأخر ولم يكن هناك "باصات"، فاقترح على أبي ناجي أن يسافر بسيارة أجرة خاصة "كدادين"، لكن أبوناجي رفض ذلك بشدة، وكذلك رفض أحد سائقي سيارات الأجرة، عندما طلب منه أبومحمد نقل مرافقه.. بما يوحي أن "الكداد" (أبوعبدالرحمن) يعرف أبو ناجي، وقد تعامل معه سابقاً.

استمرار الحوار

ينتقل الحوار إلى كافتيريا بقرب المحطة لانتظار "الباص" القادم.. يستمر الحوار بين الرجلين. يتساءل أبوناجي: لماذا غالبية الناس مشغولين بجولاتهم؟ ماذا يقولون طوال الوقت؟ يجيبه أبومحمد: تجدهم يتبادلون "النكت"، يتابعون الأخبار، أو يتحدثون مع ناس لا يعرفونهم!

ـ كيف يعني؟

 ـ يقولون كلاماً لا يقال إلا للغريب

ـ كيف؟

ـ أنت مثلاً هل أخبرت زوجتك بأنك لم تبكي عندما مات ولدك؟.. اتدري منذ سنة لم أتحدث مع أحد كما تحدثت معك اليوم.

يسأله أبوناجي: ما هو أكثر شيء تخاف منه بعدما فقدت الزوجة وفقدت الابن؟

يجيب: أخاف من أبي، فمذ سنة بدأ الزهايمر معه. كلما دخلت عليه في غرفته تسيطر علي فكرة واحدة وتخيفني كثيراً: أن يكون هذا اليوم هو اليوم الذي ينساني فيه.

يسأل أبو محمد : هل أنت متفائل أم متشائم؟

يجيب أبوناجي: تصدق لا أدري، ولكني لا أنتظر شيء من هذه الدنيا

ـ ما هو أكثر شيء تخاف منه؟

ـ لا أدري ولكن أكثر لحظة عشت فيها الخوف والرعب عندما كنت أشاهد التلفزيون على حفلة طلال مداح التي سقط فيها على المسرح ميتاً.

أبو محمد يتداخل معه: أتذكر أن مدرس الرياضيات أوقف الشرح وأخذ يحدثنا عن الموت وسوء الخاتمة. يحدثنا عن الموت وكأنه عقاب!

أجابه أبوفرج، ببراءة: لو كان الموت عقاباً لما مات الرسول

عندما هم أبوناجي بمغادرة الكافتيريا سأله أبومحمد: لم تقل لي ما أكثر شيء تخاف منه؟

ـ لا أدري .. أكثر شيء يخيفني الآن هو أن يكون الباص خالياً من الركاب!

أسئلة متواتر في ذهن المشاهد

يغادر أبوناجي الكافتيريا... وننتقل لمشهد آخر ونراه واقفاً في الشارع.

يفاجئ المشاهد بأن يفك الضمادة من عينه اليسرى وينقلها إلى العين اليمنى.. هنا يصطدم المشاهد بأن كل ما تابعه في الفيلم قد يكون ملفقاً وغير حقيقي. لكن أبوناجي ليس نصاباً أو شريراً.. هو من أولئك الناس الذين تقابلهم ويجعلونك محتاراً في أمرهم..لماذا يفعل ذلك أبوناجي؟، ـ إذا سلمنا بأنه أبوناجي فعلا ـ ما الذي يدعوه لذلك؟

أثناء وقوفه على قارعة الطريق. أتي سائق سيارة آخر(محمد الملا) وعرض عليه توصيله.. بدأ الحديث معه. يعرفه أبوناجي بأن إسمه أبومحمد.. ويبدأ في خلق قصة جديدة عن ابنه محمد الذي فقده في الحج..يبدأ في سرد حادثة ضياعه ..إلى آخره.

بدوره يأخذ سائق السيارة في روي قصته بأنه لم يشاهد أخيه منذ ولادته وأنه سيسافر غداً إلى الباكستان لرؤيته لأول مرة.. تنطلق أغنية طلال مداح (أنا راجع أشوفك ـ سيرني حنيني إليك ـ أسأل عن ظروفك ـ تأثير الليالي عليك..)

ينزل في تتر النهاية: (لعيون والدي التي كانت ترغب في رواية كل القصص ولم أفهم حاجتي لها إلا بعد الرحيل ـ والدي عبدالمجيد الحمود). 

مبرر درامي

بهذا الإهداء ثمة إيحاء بأن الفيلم يروي شيئاً مما كان يفعله أو يتوق إليه والد صانع الفيلم ـ أو هكذا يمكن أن نعتقد ـ وبه تكتمل دائرة الإجابة، ودائرة الخيال والتخييل إزاء ما يجول ببال بدر الحمود، ومنه نفهم مدى توق والده لمعرفة هموم الناس، لعلها رغبة في مؤازرتهم، وهي تشكل ما فهمه المخرج عن حاجته لها، حتى يروي أفلامه، ربما.

ختاماً، لا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال الأداء المتمكن للممثلين إبراهيم الحساوي ومشعل المطيري.. لوهلة تعتقد أن ما تراه تسجيلاً توثيقياًً لجزئية من حياة واقعية حقيقية. لم يكونان يمثلان بقدر ما تقمصا شخصيتين بحذاقة بالغة. نبرة الصوت، لغة الجسد، تعبيرات الوجه، عدم الاكتراث للكاميرا، تكميل الحوار بلحظات صمت وإيماءات ترفع من مصداقيتهما الأدائية.    

الفصل الثامن

ممسوس... هواجس الاكتئاب النفسي

لا أحد يستطيع التكهن بحقيقة الاضطرابات العقلية والنفسية التي يتعرض لها المصاب بحالة الاكتئاب، تلك الكلمة التي قد نكررها ببساطة عند إصابتنا بحالة ملل عابرة أو حالة خمول أو كسل في أحد الأيام، فالاكتئاب علمياً وطبياً أعمق من ذلك بكثير.

وما فعله فيلم (ممسوس) للمخرجة (شذى مسعود) والذي عرض في مهرجان دبي السينمائي 2016 وفاز بجائزة أفضل فيلم قصير، أنه يقدم ثلاث حالات حقيقية لأشخاص يعانون من الاكتئاب الحاد المرتبط بنوبات الذعر والرهاب، بل التقوقع والهذيان، والهوس الحاد، ((Panic attacks. الفيلم يستعرض على ألسنة أصحاب الحالات تلك الأعراض المختلفة للنوبات المرضية التي تهاجمهم، وهو بذلك يأخذ المشاهد إلى تخوم قد تكون مباغتة له.

الشخصيات التي تظهر في الفيلم: (أمل الحربي) و (خالد يسلم) و (أفراح البلوي) من السعودية، وهم على بساطة حضورهم في الفيلم (24 دقيقة) ومصداقيتهم إلا أن تأثيرهم يبدو واضحاً عند المشاهد، فقيامهم بعرض مشكلاتهم أمام عدسة كاميرا يعرفون أنها ستنقله إلى المشاهدين في كل مكان عبر السينما وربما عبر اليوتيوب تعد جرأة ووعياً، وقد يكون في ذلك شيء من التطهير والبوح من أجل الانتصار على المرض النفسي، كما أن حالة التحرر من مفهوم الخجل أو العار من الذهاب للطبيب النفسي في مجتمع يربطه مباشرة بالجنون هي قفزة يحاول أن يحققها الفيلم.

شخصيات غير فاعلة

كما أن هذه الشخصيات المستضافة تبدو ذات كفاءة علمية وخلفية ثقافية واضحة ويجيدون اللغة الإنجليزية، التي تظهر في حديثهم مجاراة لأسلوب العصر في الحديث ومباهاة بذلك لتأكيد سطوة العولمة مع حمولات عقدة الخواجة المعاصرة المسيطرة على النخب الناهضة.

 إلى جانب هذا وذاك هم شبه عاطلون عن العمل ولا يتذمرون من ضعف مادي أو عوز لمتطلبات العيش الكريم ومجابهة سطوة احتياجات الحياة المعاصرة في مقابل العجز عن التلبية، وهم بالضرورة لا يتطرقون لعلاقتهم بالعمل أو معاناتهم فيه من أي ناحية من النواحي إلا بشكل خاطف من أحدى الشخصيات، ولكنه الفراغ الطويل وعدم القيام بدور مهم يرضي طموحاتهم وطاقاتهم ويحقق شيئا من ذواتهم، لذا قد تكون المهن المعلنة لهم في الفيلم:(كاتبة ـ مدون ـ مصورة) مهن صورية يواجهون بها المجتمع وهم في قرارة أنفسهم لا يعملون شيئاً ذي بال، لذا يمكن اعتبارها هوايات مزاجية، وليست أعمالاً بالمفهوم المتعارف عليه، الذي يسعى فيه الفرد إلى اكتساب المكانة والمال، وبالتالي خرجوهم من منظومة العولمة التي يقحمون أنفسهم فيها من خلال أدوارهم المصطنعة: كاتبة ومدون ومصورة، وهي مهن تتطلب بالضرورة الاحتكاك الممعن بالمجتمع، لا سيما أنهم أعدوا أنفسهم كثيراً لمواجهة الجماهير، ولكنهم لم يجدوا التقدير الذي توقعوه نتيجة لذكائهم وتميزهم المتجاوز (كما يعتقدون)، فكان موقفهم الرفض الشديد لدرجة الإلغاء والكراهية الشديدة لكل  المجتمع ..إن علاقتهم بمفهوم العمل وعدم الانضمام إلى قافلته خلق منهم شخصيات انسحابية مدمرة تحت هلاوس وهم كبير اسمه التميز والفردانية.. تلك نقطة جوهرية غفل عنها السيناريو ولم يتطرق لها المتحدثون الثلاث، ولم تنتبه لها المخرجة في توجيهها وإلا كانت مهدت لهم وحرضتهم على الحديث في ذلك.

حالة لافتة

لعل الشخصية الملفتة هي الشابة التي تقرأ سارتر وفوكو وتشاهد أفلام هيتشكوك وفيلليني. شخصية "أمل الحربي" الأكثر غرابة بهيئتها وصوتها الذكوري وتدخينها الشره، ناهيك عن حديثها الذي ينم عن ثقافة وأدبية واضحة، وايضاً يكشف عن إنسانية حساسة ورقيقة تجاه البشر. كذلك "خالد يسلم" الذي بدا مدركا تمام الإدراك لمشكلته، بل أنه يحكي عن علاقته بالعلاج ويعرف تفاصيل حالته ويحاول أن يتغلب عليها بالسخرية والإرادة، ولكنه لا يستطيع فالأمر خارج عن سيطرته خصوصاً لكنه تميز بخفة ظله وحضوره الطبيعي وهو يحكي الأعراض التي ألمت به.. أما "أفراح البلوي" التي ظهرت لطيفة، لا تخلو من الذكاء والعمق في طرح معاناتها النفسية والوجودية.

لمسات المخرجة

المخرجة شذى مسعود أجادت في تقديم الدقائق الأولى للفيلم بمقدمة كولاجية متسارعة من الصور المتلاحقة المتداخلة في تهويمات تشي بالاضطراب النفسي والعقلي، وصاحب الصور تعليق بصوت راوية تمهد لما يدور في داخلها، واصفة تلك المعاناة بأنها آخر مرة تعرضت فيها لنوبة اكتئاب، ولا ندري من هي على وجه الدقة، ثمة خلل درامي في سرد الفيلم، فصوتها لم يظهر ثانية أثناء السرد، بما يضلل المشاهد أو يوحي له بأنه كان صوت المخرجة، وإذا سلمنا بفرضية موت المؤلف/المخرج، فلا بد أن نستبعد ذلك ضمنيا ونعتبر الصوت مجرد راوية أو شخصية رابعة ندخل من خلالها إلى عالم الفيلم.

 ولكن الأهم في سياق الفيلم أن مضمونه يهاجم النظرة التقليدية للحالات الإنسانية الخاصة التي يعاني منها مرضى الاكتئاب في مجتمعاتنا الشرقية، وهذا ما نجحت فيه المخرجة نجاحاً واضحاً.

إيقاع متوازن

لم يفلت إيقاع الفيلم من المخرجة، إذ حافظت على توازن في المونتاج الزمني والسينوغرافي، عبر لقطاته وفترات ظهور المتحدثين، ولم تشغل بال المشاهد بميزانسين مضطرب وجعلت الصورة تحكي جزءاً درامياً محايداً ومنصهر في جو وروح موضوع الفيلم، كما ظهر ذلك في المشاهد الأخيرة وأمل تتحدث بعمق ومصداقية لتكون حركة جسدها وتعبيرات وجهها محققة بعناية الكاميرا على يد فريق التصوير.

يأتي في سياق الفيلم أن الراوية تأتي إلى جدة فتلتقي بـ الثلاث شخصيات وهم يعانون من نوبات مؤرقة من الشعور بالتشاؤم الدائم وقلة الحيلة في مواجهة مشاكل الحياة. الشعور بالذنب، وعدم القيمة وتلاشي الأهمية في المجتمع. عدم القدرة على إظهار أو تقبل العواطف للآخرين ومن الآخرين.

تتحدث الشخصيات عن مشاكل في النوم مثل الأرق أو النوم لساعات طويلة، أو الاستيقاظ المبكر. مشاكل في تناول الطعام (شهية زائدة، انقطاع الشهية). إضافة إلى آلام جسدية مزمنة والتي تستعصي على العلاج. البكاء الكثير. سرعة التوتر. النشاط الزائد. عدم القدرة على الهدوء والارتخاء.

ثم يتحدثون عن الشعور بالتعب الدائم وعدم القدرة على بذل الجهد البدني. وكذلك نقص القدرة على التركيز، والتذكر، واتخاذ القرارات السليمة. التفكير الفعلي في الانتحار أو محاولة الانتحار.

من هو مريض الاكتئاب؟

تصف "أفراح البنوي" حالتها فتقول "تحس أنك راكب أسانسير (مصعد) وتحس بأن ينزل بك بسرعة! شيء يضغط على صدري طوال الوقت. نوبات بكاء لا أعرف سببها.. وهكذا فإن مريض الاكتئاب ليس كمن يكور نفسه في ركن، يُعتم غرفته، يبتلع كلماته، ويعتزل العالم. إنما هو من يحمل في جيوب قلبه شحنة آلامه، غضبه، ورعبه. يخطو بها هنا وهنا، يسير معها وحيدا وسط الجموع، بينما لا يراها الآخرون وهى تطفر من بين ابتساماته، زعقاته، وزفراته.

مريض الاكتئاب هو الشخص المحاصر بين صراعه الدائر والدائم، ذلك النزاع القائم بين أمله وألمه. نقطة الحياد هي منبت معاناته، فذروة مرضه تتلخص عند النقطة الرمادية، التي تأبى أن تأخذه إلى سلام اللون الأبيض، وعتمة اللون الأسود.

ويلفت الانتباه إلى دلالة كلمة ممسوس "الشعبية" والتي يطلقها المجتمع على من به مس من الجان، وربما يعتبرونه مجنوناً، وهو المصطلح المعادل للمهووس الإكتائبي.

يقول خالد يسلم "ثقافة أن تذهب إلى طبيب نفساني غير موجودة في مجتمعنا، أعتقد وأنا أسجل هذا الفيديو بأن أبي وأمي إذا رأوه سيقولون لي لماذا ياولدي عملت الموضوع هذا.. هذا الموضوع يعتبر عيب يعتبر تابو"..نعم، إنها الحقيقة المنافية لمفهوم البعض عن هذا المرض، حينما يعتبرون أن جموح الشخص في العزلة، وقراره الحاسم بخصوص الموت، هي الدرجة الغامقة، والمرحلة الفاصلة التي عندها يمكن تشخيصه كمريض اكتئاب من الدرجة الأولى.

 تقول أمل الحربي: "ميشيل فوكو كتب تاريخ الجنون وحسب تعريفه للجنون فكلنا مجانين".. الفرد لا يزال يصارع، وفى الصراع يكمن الوجع والجهد، يلتحمان في ترس دوراني، مولدا شحنات إضافية وطازجة من العبء. بينما الثاني، بدا مطمئنا بأنه بات مستقِرا عند قاع الهاوية، لا مزيد من التيه، وبذل النفس للفِكر.

صفعة الفيلم

الفيلم مناولة جريئة وشيقة معرفياً نستمع خلاله لتفاصيل مؤلمة تكشف معاناة حادة يعانيها ضيوف الفيلم، ربما شجاعتهم وقوة شخصياتهم في أنهم أرادوا عرض مشكلاتهم على الملأ يحيل إلى تقدير كبير لهم، رغم ما فيها من فضح ومكاشفة قد يخجل الكثير من البشر البوح بها .

ما مقدار الصفعة التي يجدها المشاهد من الفيلم؟، فبشكل أو آخر قد يجد كل مشاهد شيئاً من معاناته في طيات حديث إحدى الشخصيات الثلاث. وهي بالضرورة معاناة يتقاسمها الإنسان المعاصر في أي بقعة من هذا العالم المعولم.

حاز جائزة أفضل فيلم قصير بمهرجان دبي السينمائي 2016

أنتاج أماراتي سعودي ـ 24 دقيقة ـ الأبطال: أمل الحربي، خالد يسلم، أفراح البنوي تمثيل: رؤى باسعد، شيخة آل علي ـ مدير التصوير: سعيد سالم ـ تصوير: شذى مسعود، عبدالله العامري ـ مونتاج: شذى مسعود، عتيبة يعقوب ـ ترجمة: نورة محمد ـ فكرة وإخراج: شذى مسعود

الفصل التاسع

بركة يقابل بركة...جيل محبط ينتصر لأحلامه

ثمة تأسٍ عميق يبثه المخرج محمود صباغ في ثنايا فيلمه الروائي الطويل «بركة يقابل بركة» ـ والذي عرضه الاسبوع الماضي كأول فيلم سعودي روائي طويل بمهرجان برلين السينمائي الدولي، ونال عنه جائزة "اكومينكيل" ـ تأسٍ على الراهن التي يعيشه جيل مشوشر بين حياة مفقودة وأخرى راهنة مضطربة، أحلام تتوالد وخيبات تتكابد، شباب محبط أمام محظورات المجتمع ونظام إدارة الشؤون البلدية ونظرة التيار الديني المتشدد.. يقول بطل الفيلم وهو يحدث نفسه في ديالوج داخلي حميم: "نحن عايشين في دولاب، جيلنا كله عايش في دولاب ما نقدر ننفك من عجلته".

عبر مشاهدة خاصة، ينسرد الفيلم في لغة سينمائية متزنة، وفي غير سوداوية، أو مباشرة فجة تنغزل حبكته، لتقدم نسيجا دراميا رصيناً، مبتعدا عن التشكي التراجيدي، أو الكآبة المفتعلة.. لكنها لغة مليئة بالسؤال والرفض، تلتقط صورة بانورامية لحياة شاب وفتاة، يمثلان شريحة واسعة لشباب الطبقتين السائدتين في مجتمع مدينة جدة.

شخصيات ومصائر

بركة عرابي (الممثل هشام فقيه): شاب في بداية حياته العملية، يقطن في حي شعبي، ويعمل في البلدية، موظف ميداني، يتلقى التعليمات من إدارتها لملاحقة المخالفين للأنظمة، ولأنه ابن حارة يظهر مدى تسامحه أو تردده في أن يطبق النظام بصرامته، أو أن يراعي مبادئه الإنسانية التي تشربها في حارته، ولأنه أيضا عضو وممثل في جمعية المسرحيين، فهو مليء بالحس الجمالي وبتكوين نفسي عفوي تعززه نزعته الدينية المعتدلة.

 تجمع بركة علاقة صداقة مع أحد أبناء الحارة الأصيلين "دعاش" (الممثل سامي حنفي) الدائم على نصحه وتوجيهه بحس فطري، وانتقاده لشخصيته المحجمة عن اتخاذ قراراتها المصيرية، ولا يخلو نصحه من طرافة ابن البلد البسيط البعيد عن قلق العصر.. حتى وإن كان من جيل سابق بدت عليه أثار الإحباط، نموذج ممتد من الثمانينيات ينظر إلى جيل بركة بكثير من الحنق والأمل، لعل جيل بركة يستطيع أن يكون ما لم يكونه جيل دعاش.. ولكن من هو بركة الذي قابله بركة؟

بيبي حارث (الممثلة فاطمة البنوي): عارضة أزياء، نجمة إنستغرام، لديها مليون معجب، ممن يتابعونها ويكيلون لها كلمات الإعجاب و"اللايك"، وهي مشغولة طوال الوقت بتصوير نفسها "سيلفي" لتنقل إليهم تعليقاتها ونصائحها، وبالتالي ينتقل المشاهد المتأمل إلى ذلك العالم الافتراضي وحقيقة أنه أصبح واقعا معاشا بحيوية تضاهي حيوية العالم الحقيقي.

حبكة متزنة

تتنقل مشاهد الفيلم بين عمق المدينة، بيوتها وفضائها وبحرها الواسع.. يقول البطل في لحظة مواجهة: "البحر بحر ربنا، حقنا كلنا"، وفي مشهد آخر ينساب مقطع من أغنية "ما أحلى أن نعيش في بيت واحد ما أحلى أن نكون في وطن واحد"، ويقف البطل في مشهد ثالث أمام لوحة تبين جملة من الممنوعات لمن يرتاد البحر، يقف مشدوها لثوان، نتأمله ونشعر بما يشعر، وفي نقاش حاد مع أحد أصحاب المقاهي التي يريد بركة أن يخضعها لشروط إدارة البلدية بإزالة الكراسي من على الرصيف، يقول صاحب المقهى (أداء محمود صباغ): "أنتم تخنقون الفضاء العام، تتركون تيار أحادي ينفرد في الشارع وبعدين تبكوا على نمو الارهاب والتطرف".. بيبي مداومة على شرب القهوة، في إشارة لمحاولتها الدائمة لتحسين مزاجها.. الداية سعدية، جارة بركة، تحضر إفطارا له ولوالده ومعهم دعاش: إشارة للحياة الحميمة التي تسود الحارة الشعبية.. دم ينساب من صنبور الماء أمام بركة: إشارة أخرى للرعب من الواقع.. تدخين دعاش المستمر لسجارة الحشيشة وشرب المسكر، دلالة على الضياع الروحي. 

 إشارات يمررها الفيلم في غير مباشرة، لتفضي لأحقية المطالبة بأن يعيش الجميع في حمى التسامح دون مضايقات قوانين مفروضة، ورغم ذلك تأتي لحظة تنوير ساطعة، بعدما طبق بركة بصفته موظف البلدية تنفيذ إغلاق المقهى، يبث حديثه لصديقه دعاش: "اليوم أقفلت مقهى، مو واجب ولا وظيفة، لأ، كأني مبرمج..نحن بنتسامح مع أشياء كثيرة ماهي منطقية في حياتنا، والمنع الزايد دا تراه غلط".

هكذا يمضي السرد الفيلمي في عدة خطوط أفقية متوازية ومتقاطعة، كاميرا تنقل برشاقة في زوايا تصوير متناغمة، وأماكن مختارة بعين حساسة عبر ميزانسين متكامل ومشغول بعناية لكل مفردات اللقطة، وضمن كوادر واطارات مريحة للفرجة، مليئة بلغة السينما البصيرة التي اشتغل عليها مدير التصوير "فيكتور كريدي" بوعي ضافي، خصوصا في تصوير الأماكن الخارجية: الشوارع والبحر والحارة، لتساهم بشكل بالغ في إيصال المعاني والدلالات البصرية المكملة لحكاية وعالم الفيلم.

إلى جانب ذلك تخلص المخرج وكاتب القصة ـ محمود صباغ ـ من ضوضاء الموسيقى التصويرية غير اللازمة، ولم يستخدم المؤثرات الموسيقية إلا في لحظات معينة، باختيارات "زيد حمدان" و"مي وليد"، لتضيف إلى المشاهد بعدا صوتيا ممتعا، مع أجواء الفيلم المدعوم بأداء طبيعي من جميع الممثلين، رغم أنهم لم يمثلوا من قبل في أي عمل.. ظهور استضافي للمثل المخضرم فؤاد بخش، الذي رحل قبل يومين من عرض الفيلم، فكان بركة الفيلم وهديته. 

حدوتة برسم المفاجئة

من هذه الخطوط المتقاطعة يبدأ المشاهد في لم خيوط قصة بركة والفتاة بيبي التي يراها صدفة وهي خارجة من عملها في بوتيك "كراكوزة" للأزياء، والذي تمتلكه وتديره مدام ميادة، سيدة الأعمال المتسلطة والعصبية على نحو دائم، وتلفت بيبي انتباه بركة.

يأتي بلاغ من البلدية عن شغر مكان عام، ويكلف بركة بتقصي قيام مجموعة من الشباب بالتصوير في ذلك المكان، وعندما يذهب إلى الموقع يفاجأ بأن التصوير لإعلان دعائي وأن بطلته هي نفس الفتاة التي شاهدها تخرج من البوتيك.

يلتقي بركة بـ بيبي في معرض فن تشكيلي، وتبدأ علاقتهما في التطور، لتصل إلى مرحلة الحب، ونتعرف على تفاصيل أكثر عنهما، نتفاجأ بأن بيبي حارث ليست ابنة مدام ميادة، إنما ابنتها بالتبني، وواقعة تحت سيطرتها بشخصيتها المأزومة، فميادة لم تنجب، وعملت على استغلال بركة ليأتي لها بالداية سعدية (الممثلة خيرية نظمي) أو المرأة "المتسيطة" كما يصفها بركة نظرا لقدراتها وخدماتها اللامحدودة لأهل الحارة.

مكاشفة تنتصر للذات

تتصاعد الأحداث وتصل مرحلة عدم التحمل عند بيبي، فميادة تغار من شهرتها، وتسعى لتجيير تلك الشهرة لمصلحتها الخاصة. يتفاقم الاحتقان بينهما إلى أن تأتي القشة التي قصمت ظهر العلاقة: ترتدي بيبي صدرية، فترى ميادة أنها تشوه تصميم فستانها. يحتد الخلاف، وتقرر بيبي أن تخرج من عالم ميادة، ولا تجد سوى بركة لتنفجر أمامه رافضة واقعها وحياتها المرهونة في قبضة امرأة متسلطة.

 تتأزم العلاقة بين الحبيبان، وفي مشهد فانتزي يتخيل بركة أثناء أداءه بروفات المسرحية، أنه "هاملت" ويراقص حبيبته "أوفيليا"، يتخيل ذلك ويلاقي حبيبته وقد قررت الانعتاق من سجنها، وفي ذات الوقت ينتصر بركة على نفسه ويقرر أن يواجه مخاوفه ويهزم عدم قدرته على مواجهة حياته واتخاذ قراراته.. لقد أصبح أكثر جرأة.

يلتقي الحبيبان بروح جديدة، روح تود أن تنتصر لأحلامهما، وتكشف بيبي لبركة أن اسمها الحقيقي ليس بيبي وإنما هو أيضا "بركة"، وأن بيبي اسم الشهرة، وأن ميادة ليست أمها، وأنها أعلنت ذلك على متابعيها في الانستغرام، يجلس الحبيبان قرب بعض، وقد اتفقا على اكمال حياتهم بدون زيف، ونسمع أغنية مع نزول التتر النهائي: (بركة هي دي البركة هي دي هي دي البركة بركة) يتقابل الحبيبان بركة وبركة بروحهما الجديدة المنتصرة، ونفهم معنى عنوان الفيلم (بركة يقابل بركة).

الفصل العاشر

عطوى...فيلم طريق ساخر

بما يجول في المخيلة وبين ما يحدث في الواقع، وبين ما ينسحب على التهيؤات التي يعتقد المرء أحيانا أنها حقائق ـ ربما بفعل تأثير الخرافات والقصص المتناسلة من ثقافة الصحراء، والمتداولة بين الناس ـ وأيضا في خضم الخوف من الغريب والمجهول، والرغبة في خوض المغامرة وتبوء مكانة البطولة في الحكايا والاساطير الشعبية، بين كل هذا وذاك يمكن لنا أن نتوقف عند الفيلم القصير(15 دقيقة) "عطوى" للمخرج الشاب عبدالعزيز الشلاحي، والذي تناول قصة طريفة لا تخلو من الغموض والتشويق ومفارقة الكوميديا.

سينما الطريق وموسيقى الريف

في جانب آخر، وغير هذه الحيثيات، قد يحيلنا الفيلم إلى ما يسمى اصطلاحا سينما الطريق (Road movies) حيث يمكننا أن نصنفه بانتماءه إلى هذا النوع من الأفلام التي ظهرت في السينما الأمريكية وامتدت إلى السينما المصرية وغيرها من سينمات العالم، فأفلام الطريق يكون مسرحها الطريق عبر الانتقال فيه، ويكون حدثها الرئيس فيه ايضا، وهكذا تدور جل مشاهد فيلم عطوى، إذ يبدأ الفيلم بعد مشهدين قصيرين في مزرعة، ثم ينطلق السرد إلى الطريق ويستمر في الطريق وينتهي فيه أيضا، وربما يدفع ذلك بالمشاهد إلى الرغبة في بلوغ الهدف، أو قد يحيله إلى التماهي مع قصة الفيلم البسيطة التي كتبها عبدالعزيز الشلاحي ورسم السيناريو لها عادل ساري، بحذاقة تأسر مشاهديه في الطريق مع بطله الممثل الشاب "خالد الصقر" في أول ظهور له.

ولتأكيد التأثر بسينما الطريق على سردية الفيلم، نجد أن الفني الموسيقي "عبدالله العبرة" أدخل شيئا من موسيقى الريف (Country Music) باعتبارها الموسيقى الشعبية المرتبطة بالثقافة الريفية في الولايات المتحدة، والمعتمدة على آلة الهارمونيكا والجيتار مع الإيقاع السريع المميز لها. ولم يكتف العبرة بتوظيف هذا النوع من الموسيقى فقط، بل استعان بمؤثرات صوتية تذكر بمغامرات بالصحراء في أفلام الغرب الحديثة (Modern Western Movie's)، لتحدث تأثيرا سمعيا ينحو إلى الإثارة والغموض.

رغم قصر مدة عرض الفيلم إلا أن حبكته المشغولة بقدر من التشويق، والتي يغذيها شيء من الرعب الخفيف، أو التوتر، إلا أنه جاء مكتملا في بناء الدرامي، ومقنع في سرده الفني، ولا يعيبه قصر دقائق عرضه، بل على العكس فهي تمثل ميزته (المونتاجية)، وإن كان الاختصار قد أخل ببعض تفاصيل الحبكة، ما يجعل فهمها صعبا، مثل: لماذا أخذ الطفلان الدمية؟ ولماذا تركاها؟ وما قصة السيارة البيضاء التي تظهر مرة محمولة على شاحنة نقل، ومرة في آخر الفيلم وقد توقفت للرجل الدمية؟.

خلفية القصة

صبي وصبية، شقيقان، (فيصل والجوهرة) يعيشان في مزرعة مع جدهما (الممثل القدير علي المدفع)، ويصنعان دمية بحجم وشكل رجل، ليلهوان بها ويتسليان، ثم يصحبهما الجد في مشوار إلى قرية عطوى بسيارته (البيكب) ذات الحوض ويأخذان الدمية معهما... ولإكمال اللهو واللعب (هكذا يمكن أن نخمن ونستنتج) فقد قررا أن يتركا الدمية على قارعة الطريق ووضعا بقربها حقيبة حديدية فارغة.

بداية متكررة

شاب يعمل في وزارة الصحة ولديه مهمة عمل ينبغي القيام بها في مركز عطوى الصحي، يقود سيارته في طريق صحراوي طويل بين الرياض وقرية عطوى، وبينما هو في الطريق ويسلي نفسه بالتواصل مع أصدقاءه عبر "السناب شات" يلمح رجلا مسنا ودميما يقف على قارعة الطريق، فيتوقف، ويعود بالسيارة إلى الخلف، ويترجل منها ليعرض على المسن توصيله إلى وجهته. 

توهم مباغت

يصعد الرجل العجوز الدميم إلى السيارة ويضع حقيبته في الصندوق الخلفي، وبعد قليل يتوقف الشاب لقضاء حاجته، وعندما عاد للسيارة لم يجد الرجل الدميم، انتظره فلم يعد، ثم توجه إلى صندوق السيارة فوجد الحقيبة معبئة بالأوراق النقدية ومسدس.. يرتبك، ويجد نفسه في مخفر الشرطة ويجري معه الضابط تحقيقا عن الحقيبة.. وعندما صعقه الضابط بالعصا الكهربائية يفوق، ونعرف أنه كان يتوهم بشكل مباغت خلال الثواني التي توقف فيها ورجع بسيارته.

توهم لحظي

تعود بنا الكاميرا إلى الرجل المسن، بينما الشاب يرجع بالسيارة نحو الخلف، وكأن الموقف بدأ من جديد... يصعد الرجل ويوصله الشاب إلى قرية عطوى ويستقبله أحفاده. ولكننا نفطن إلى أن ذلك أيضا لم يحدث أيضا، وإنما هو وهم عاشه الشاب في تلك الثواني بين توقف السيارة وعودتها إلى الخلف.

انفراج العقدة 

العودة إلى مشهد توقف الشاب ونزوله من سيارته ، ليجد أن الشخص الواقف على الطريق إنما هو مجرد دمية وبجانبها حقيبة خاوية.. ينفجر الشاب بالضحك، وينتهي الفيلم بنزول التتر، ثم بلقطة أخيرة: فيصل يسأل الجوهرة، بنلقاها؟... أي سنجد الدمية؟

بين هذه القصص الثلاث نتلمس الخوف بأشكال عدة: الخوف من مفاجئات الطريق، والخوف من اختراق القانون، الخوف من جن أو عفاريت الخلاء أو من المرأة العجوز التي تسمت القرية باسمها، وكذلك الخوف من وحشة الليل ـ رغم أن الأحداث تدور في رابعة النهار لكن التوهم جعله ليلا ـ إذ تشكل تلك المخاوف البعد النفسي للبطل، والتي تكونت في رحم الثقافة الشعبية، وأصبحت تسكن الوجدان الشعبي وتؤثر فيه، رغم تطور الحياة وتقنيات الانتقال والتواصل التي تظهر في الفيلم.   

جائزة أفضل مخرج في مهرجان الأفلام السعودية بالدمام 2016م

جائزة أفضل مخرج في مهرجان الشباب للأفلام بجدة 2016م

 فريق التصوير: أحمد خليل وعمر الأحمد وباسم مصباح، أداروا كاميراتهم بإجادة، خصوصا في تصوير اللقطات البعيدة (البانورامية) ومناسبتها مع القريبة (الزوم إن)، في تنقل بصري عبر مونتاج متقن، بمعرفة شريف الحلو وأسامة أبا الخيل.

فاز الممثل خالد الصقر بجائزة أفضل ممثل في مهرجان الشباب للأفلام

عُرض الفيلم في مهرجان كان السينمائي 2016م في قسم أفلام دولية قصيرة كما شارك في المهرجان الدولي للفيلم القصير في برلين 2016م

الفصل الحادي عشر

ست عيون عمياء...ثيمة الحوار المشوّق

حاول المخرج السعودي عبدالله آل عياف، في فيلمه القصير «ست عيون عمياء»، التجريب والاعتماد الكلي على تقنية الحوار المدروس، بمعنى الاستغناء عن كافة العناصر الفلمية الأخرى، فلا مكان في الفيلم سوى حجرة واحدة هي صالة استقبال في عيادة طبيب نفساني، يزوره مريض ويتحدث معه عن حالة يعاني منها. يبدأ وينتهي الفيلم في هذا الموقع الوحيد الذي لا يشاهد المتفرج سواه خلال دقائق الفيلم الخمس عشرة. الفيلم عرض في الدورة الثامنة لمهرجان دبي السينمائي، وأثار نقاشا ثريا يصب في موضوعه (السيكودرامي) وقصته التي ارتكز المخرج في توصيلها ــ بالإضافة إلى الحوار ــ على الأداء التمثيلي المقنع.

مشهد واحد

هو أيضا يستغني عن المؤثرات الصوتية وكذلك المؤثرات البصرية، ليتحقق الفيلم في مشهد واحد لا تداخله أية لقطات جانبية أو استرجاعية، حيث أدار المصور «بدر الحمود» التصوير في ست لقطات متكررة كلها ضمن هذا المشهد الوحيد. ومع ذلك حافظ على إيقاع هادئ الحركة، لكنه مشحون بالترقب والتشويق بسبب جاذبية الحوار الدائر بين الدكتور عارف (أحمد الملا)، والشاب منصور (عبدالمجيد الكناني).
وتبدأ القصة بعد أن زار الشاب منصور الدكتور عارف وأخذ في عرض حالته عليه، والتي تتلخص في أن منصور لاحظ على نفسه مقدرته إخفاء بعض الأشياء، وأن هذه القدرة لديه منذ فترة دراسته في المتوسطة والثانوية، حيث كان والده يقوم بتوصيله إلى المدرسة بسيارة بيضاء تشبه، وكان زملاؤه يسخرون منه ويعلقون على سيارة والده بأنها سيارة الإسعاف، وهنا قام منصور بإخفاء السيارة. يدخل منصور في نقاش مع الدكتور محاولا إقناعه بقدرته هذه، ولكن الدكتور يأخذ في محاججته ويضيق عليه الخناق في النقاش... يستمر الحوار بين الاثنين حتى يصل الدكتور إلى نقطه مع منصور بأن أمسك دفترا وطلب من منصور الإمساك به وأن يقوم بإخفائه، ولكن منصور أخفى الطبيب نفسه... وهنا تتبدى الستة العيون العمياء: فهي عينا الدكتور عارف وعينا منصور وعينا المشاهد. كل عينين من هذه العيون الست تكون عمياء عن الحقيقة في لحظة من اللحظات، بحيث يبصر الآخران ما لا يراه أحدهما. 

هنا نجد أن الممثلين تكفلا بمهمة إيصال الحوار بكل تأثيراته إلى المشاهد، ويؤكدان من خلاله مدى قدرتهما الأدائية التمثيلية. وفي جانب آخر بدا أن كلا من الكاميرا والميكروفون يتحدان مع بعضهما ليصبحا أكثر دقة في نقل ما يدور أثناء التصوير من أداء تمثيلي.. وهنا نتذكر كتاب «كتابة السيناريو للسينما» للكاتب «دوايت سوين» الذي حدد أربع مهام رئيسية على الحوار السينمائي أن يقوم بها: أولا، أن يقدم معلومات من دون أن يعيق أو يعترض تدفق القصة. ثانيا، أن يكشف عن العاطفة والحالة النفسية والشعورية للمتحدث. ثالثا، أن يدفع بحبكة القصة إلى الأمام ودون أن يجعل المتفرجين يدركون ذلك. رابعا، أن يحدد شخصية المتحدث أو المتحدث إليه بالكشف عن خلفيته أو تعليمه مثلا أو مركزه الاجتماعي وغيرها.

مهمة الحوار

وفي هذا يقول المخرج والناقد فهد الأسطا: «الحقيقة أن مهمة الحوار السينمائي لا يمكن حصرها بهذه المهام الأربع التي يحددها سواين في كتابه، فهي بالفعل تبدو وظائف مهمة يقدمها الحوار، لكننا سنلاحظ من جانب آخر أن الحوار السينمائي عبر بعض كتابه استطاع أن يتجاوز هذه المهام إلى آفاق أخرى، أقصى ما تؤديه من مهام هو التعبير عن الشخصية وفكرها. لكنها تضيف لذلك نوعا من المتعة لدى المشاهد حينما تأتي بطريقة تلقائية تثقيفية من دون أن يكون لها صلة مباشرة بأحداث الفيلم وبنائه». والفيلم من ناحية يمكن أن يصنف ضمن سينما «السيكودراما»، حيث من الواضح أنه يعرض لحالة من حالات الفصام أو (الشيزوفرانيا) التي يصاب بها البعض فيقعون في التهيؤات البصرية أو السمعية وما ينتج عنها من إدراك عقلي خاطئ لما هو في الواقع، وذلك تماما كما حدث مع منصور.. والفيلم في مغزاه يقدم بعدا نقديا عميقا للأفراد الذين يخفون نواقصهم ولا يقبلون من يطلعهم عليها. 

فيلم «ست عيون عمياء» مأخوذ بتصرف عن قصة كتبها محمد ديريه، يروي فيها قصة حقيقية عن جده. كما يعتبر الفيلم القصير الخامس في مشوار آل عياف بعد أفلامه الأربعة «السينما 500 كم» و«إطار» و«مطر» و«عايش» التي حقق من خلالها حضورا مميزا على خارطة السينما الخليجية حاصدا العديد من الجوائز في مهرجانات دولية معتبرة.

الفصل الثاني عشر

"شكوى» ... تكثيف لحظة الغفران

في فيلمها «شكوى»، تقدم المخرجة هناء العمير قصة صغيرة عن أزمة عابرة تتلخص فيها معاناة غائرة في حياة أسرة سعودية. موقف من تلك المواقف التي من الممكن أن تمرق دون اكتراث، في حين أيضا من الممكن جدا أن تكون بمثابة منعطف وجداني يدفع الإنسان إلى وعي وإيمان وإحساس أكثر عمقا بما دار ويدور حوله، إحساس يلامس الضمير ويخالج الروح ويغيرها ويقودها إلى التسامح والغفران.

شكوى دفينة

ثمة لحظات تنبثق فجأة في يوم معتاد، هكذا دون سابق إنذار، لتكون منبها وجرسا يوقظ من سطوة الغضب، لعل تلك اللحظات هي ذروة تأجج وضع خانق أخذ يتمادى في غيه حتى تفجر... من هذه النقطة المفصلية العصية على الرصد حاكت العمير قصتها لفيلمها القصير والمكثف في 21 دقيقة. فيها استدعت بطلة شابة تدعى «عنود»، (الممثلة زارا البلوشي) تواجه أزمة نفسية بفعل حدث مؤرق شكل صدمة عميقة، جعلها تتلبس حالة عصابية تميل إلى العدوانية... لكن «عنود» المتماسكة حتى بلوغ اللحظة للذروة، تنهار في حالة ضعف أو حالة هياج، ولا تجد مخرجا سوى أن تتقدم بشكوى ضد زميلتها... شكوى ربما تفرغ فيها كبتها وضيقها الناجم عن ما يكدرها. هي في ظاهرها شكوى نتيجة ضرر في العمل بسبب تقصير زميلتها، ولكن الحقيقة تكمن في الخلفيات التي جعلت من عنود عدائية لهذه الدرجة... هناك شكوى دفينة تعتمل في دخيلتها ربما لو بثتها ستجد من يخلصها من أثر الحدث المؤرق.

وتنساب الحكاية.. عنود من بيئة متوسطة الحال، أو حتى تقترب من الفقر، تعيش في بناية قديمة وشقة متهالكة. موظفة إدارية في مستوصف تستقبل فيه عشرات الحالات من المراجعين والمرضى وترتب أمر زياراتهم للأطباء. ليست لديها طموحات تريد تحقيقها، هكذا يبدو، لكن دموعها تشي بأنها تتمنى حياة أفضل. أو على الأقل تتخلص من وطأة ذكرى أليمة، أورثتها عصبية وشراسة، وأدى كبتها لمعاناتها في لحظات وحدتها إلى النحيب الحارق والبكاء المر. والدها (الممثل إبراهيم الحساوي) العاجز عن الحركة بشكل طبيعي ويحتاج إلى رعاية مستمرة، لكنها ترفضه لأنه كان قد ترك العائلة في فترة سابقة وتزوج بأخرى ما ترك جرحا غائراً في روح عنود. لم تستطع أن تسامح والدها... ربما تسامحت الأم (الممثلة أمل حسين) وغفرت لزوجها ابتعاده عن الأسرة، لكن عنود تأزمت للدرجة التي أخذت فيها والدتها التخفيف عنها وإقناعها بأن أباها مريض ويحتاج إلى رعاية.

نظرات تفصح عن الكثير

عندما تركت الأم عنود في البيت لرعاية الأب انبثقت تلك اللحظة المشحونة بالمشاعر والحس الإنساني والشعور بالشفقة. حدث ذلك السحر الذي يغير المشاعر ويعيد الإنسان إلى توازنه الطبيعي. أخذت تساعد والدها في حركته وأكله.. تأملته، أمسك بيدها بحنان بالغ، وكأنه يقول لها: اغفري لي، النظرات التي تقول كل شيء دون كلام. شعرت به، خفق قلبها، اعترت روحها مسحة ملائكية. سهرت بقربه طوال الليل وهو نائم.. تحولت إلى إنسان آخر، متسامح، محب، حنون.. ذهبت في صباح اليوم التالي إلى عملها في المستوصف بروح جديدة وأمل جديد، فوجدت الشكوى التي وضعتها بالأمس على مكتب المدير وقد أعيدت إلى مكتبها، أخذتها ومزقتها وتخلصت من حدتها وشراستها.

الفيلم حفل بصورة حاذقة أدارها التقاطها عوض الهمزاني، بقدر عالٍ من الحرفية والرشاقة، ونفذ التصوير والإضاءة عمرو العماري وجيتين، وقام فريق مجموعة «ثري تو آكشن» المتمثل في طلال وعبدالرحمن عايل وعبدالمحسن الضبعان، خالد السيف، منصور البكر، بكر فلاتة. وقد سبق للمجموعة إنتاج خمسة أفلام قصيرة: فيلم «غزو» للمخرج عبدالرحمن عايل، «سؤال» للمخرج عبدالله العثمان المصنف «فيديو آرت»، «نصف دجاجة» للمخرج عبدالله الأحمد و«مقعد خلفي» من إخراج هند الفهاد و«وافد» للمخرج طلال عايل.

الفصل الثالث عشر

البسطة.. ملاذ المهمشين

بكثير من التأكيد يمكن القول بأن تناول المخرج الشاب محمد الحمادي لظاهرة الباعة المتجولين على البسطات الشعبية في فيلمه الوثائقي القصير "البسطة" تنقل بحميمية عالية إشارات دالة على حياة الهامشيين في فضاء المدينة.

بل أن الفيلم بأسلوبه التسجيلي الاستقصائي، وبمحتواه التوثيقي الواقعي، يتداخل إلى حد عميق بأن يكون صادقا في نقل تفاصيل خفية من حياة شريحة فاعلة في واقع مدينة القطيف بالمنطقة الشرقية من السعودية، وليس مدينة القطيف فقط، بل مدن الخليج العربي برمته لتقارب خصائصهم الانثروبولوجية الثقافية.

عفوية الرصد

باعة البسطات، دون شك، فئة مؤثرة في النسيج الاجتماعي، رغم هامشيتها وابتعادها عن الحراك النظامي للسكان، ولذلك يتضح لمشاهد الفيلم، الذي لا تتجاوز مدة عرضه الـ 17 دقيقة، واقعيته العفوية، ليس هناك دراما تم إعدادها، كما يقول المخرج وكاتب السيناريو في إحدى لقاءاته التلفزيونية، وليس هناك تجهيز مسبق لما يتم تصويره، إلا من خلال رسم تخيلي لسيناريو يحدد خطته ويوائم سير سرده، الأمر الواضح في سياق الفيلم، فالأشخاص اللذين ظهروا فيه كانوا طبيعيون وتلقائيون لدرجة أنهم كانوا يطلبون بعدم عرض التصوير الذي أجري معهم.

هذه في حد ذاتها قد تكون سمة غالبة، ومن الخصائص الاجتماعية للهامشيين والكادحين في الشوارع الخلفية، وهي أيضا صفة متفشية بين الطبقات البلوروتارية في أي مدينة من مدن هذا العالم (المعولم)، إذ دائما تركن هذه الطبقات إلى عزل نفسها والإمعان في إخفاء وجودها، وترفض الظهور الإعلامي، وكأن لسان حالها يقول:(أتركونا في حالنا)، ومن هنا كانت أهمية أن يترك مخرج الفيلم كامل اللقطات المصورة ولا يتدخل فيها بالقطع أو الحذف من شريط الفيلم.

مهنة الشوارع الخلفية

من هذا المدخل، وبهذا المفهوم، تتنقل الكاميرا بين ستة بائعين متجولين من أصحاب البسطات الشعبية على اختلاف انواعهم، سواء البسطات الأرضية، أو على الطاولات الخشبية، أو على صناديق سيارت النقل القديمة: بائعي الفواكه (وغالبا يتعاملون مع مزارعين كمصادر لبضاعتهم او تجار جملة)، باعة السمك (وحتما يجلبون بضاعتهم من صيادين أو متعهدي تجارة الاسماك)، ثم بسطات الملابس الجاهزة الآتية من دول اسيوية بنوعياتها الرديئة الصنع وبأسعارها المتدنية، وكأنها صنعت خصيصا للطبقات الفقيرة، وهي بالفعل كذلك، وأيضا بائعي الكماليات والاحتياجات المنزلية والمواد الغذائية وألعاب الأطفال والمصنوعات اليدوية الشعبية، والعلاجات الشعبية وغيرها وغيرها... هي إذن بسطات لا يخلو زقاق أو شارع فرعي منها، لأنها نشاط الشوارع الخلفية بامتياز، وهي في كل الأحوال تمثل دائرة كبيرة متسلسلة الحلقات تمثل التجارة الشعبية العشوائية، وهي بعد كل هذا وذاك لا تستغني عنها المدن ولا تستطيع إيقافها الحكومات.

غير أن الفيلم يتيح لمشاهده فسحة من التأمل في قصة كل بائع بسطة يظهر في السياق، ويتيح لمخيلته أن يستحضر الخلفيات التي يمكن التنبؤ بها عن حياته، ومن واقع إفاداته، ويقف على جزء من حقيقة هؤلاء الباعة اللذين كرسوا حياتهم لحرية العمل والكسب المرهون بالقدر.

منطق وقناعة

يتجلى حماس أحد الباعة لمهنته من قوله: جربنا الوظائف ولم نحصل منها على أكثر من الفين ريال، بينما في عملي على البسطة أكسب أضعاف ذلك.. يعقبه بائع آخر يقول: كل رب أسرة هدفه أن يوفر السعادة والحياة الكريمة لعائلته.. وثالث يجزم بأنه يعمل كبائع بسطة منذ 22 عاما، ولسان حاله يقول بأنه سيمضي بقية عمره فيها.. إن مهنته توفر له التخلص من قيود الحياة وبيروقراطيتها، فهو غير ملزم بدفع إيجار شهري لصاحب محل أو دكان، وهو متخلص من روتين ومتطلبات الجهات الرسمية في استخراج التصاريح وتجديدها ومراعاة شروط الامن والسلامة والتقيد بشروط وزارة الصحة أو الإذعان لمتطلبات الدفاع المدني.. بائع آخر، طالب يدرس في النهار ويمارس مهنته في المساء، ويوازن بين استذكاره لدروسه وبين وقت العمل بأريحية كاملة.. بائع البطيخ يبتسم طوال الوقت، ويراهن زبونه بأن بطيخته التي اختارها حمراء ويتبادل معه القفشات والقهقهة.

إنهم اناس بسطاء، كما يبدو في الظاهر، ولكنهم ليسوا سذج بأي حال من الأحوال، ويعرفون ماذا يريدون من الحياة، ومدركون لوجودهم ولكيانهم في منظومة المدن الحديثة والحياة المعاصرة، ،وفي ذات الوقت هم رافضون لتعقيدات الحياة التي تحد من حريتهم..

 أحد المتحدثين يهتف: الوظيفة عبودية... إلى هذه الدرجة هم واعون لمأزق الحياة المعاصرة، ولهذا الحد هم لا يريدون أن يكونوا مجرد تروس صغيرة في آلة العصر الطاحنة، كما عبر عنهم شارلي شابلن في أحد أفلامه، إنهم رافضون بصمت وكبرياء وسعادة، ولذلك، وبكل تأكيد، اختاروا هامش الحياة بمحض إرادتهم وعن قناعة مؤكدة، وهم بذلك ينضمون إلى ما يمكن تسميته بثقافة البسطات أو الباعة المتجولون، الموجودة في النسيج المجتمعي لجميع مدن وقرى العالم.

وفي كل ذلك ومن كل ذلك تتراءى في الفيلم قضية خفية تتمثل في ضياع هوية هؤلاء البسطاء. هويتهم التي بددتها المدنية، فلم يعودوا صيادون ولم يبقوا رهن مزارعهم، حيث يمكن تلمس أصول بعضهم التي تعود إلى فئة المزارعين وبعضهم اﻵخر إلى فئة الصيادين وثالثا لفئة المنتفعين من هذين النشاطين بصفتها أنشطة تمثل نشاط أهل المنطقة الأساسي.

كاميرا ترصد ولا صوت يعلق

هكذا، تتنقل كاميرا الحمادي بين شوارع وأزقة مدينة القطيف لترصد في قصدية مدى السلم النفسي والوداعة التي تكتنف سكانها... ثمة مشاهد في الفيلم مليئة بالحس الإنساني تحيل إلى كنه وجوهر روح سكان هذه المدينة الحانية.. رجال مسنون يجلسون في الحديقة الوسطية لأحد الشوارع. يلعبون الدومينوز ويتبادلون الأحاديث والابتسام، وكأنهم معزولون تماما عن هموم الحياة ومعاناتها، إنهم سعداء بحياتهم وواقعهم ولا يطلبون من أحد أن يمد لهم يد العون، وإن كان لهم مطلب فهو أن يكفوا عنهم ويتركوهم في حريتهم المسالمة التي لا تخترق قانون أو تنافي مقدرات المجتمع.. هنا يبرز النفس الشعري للمخرج، لاسيما وهو شاعر، يتقصى سعادة الانسان ولوعاته، ويغنى للحظة الفرح، وفي المقابل يطرح أسئلة التأمل والاستكشاف للمعاناة، إن وجدت، سعيا لتخفيفها عن عاتق من يكابدها، وليس للتباكي عليها، ولذلك هو لا يقدم رؤية تراجيدية، ولا يؤمن بوجودها داخل نفوس هؤلاء الناس.

لا يخفى على المشاهد احترافية التصوير التي قام بها هادي الحمادي، واختياره للزوايا والكوادر واللقطات البعيدة والقريبة، بما يلائم المكون البصري الحدثي للمشهد، وفي ذات الوقت، يتكامل معه عمل المونتير محمد البصري، في ترتيب وتحديد أطوال اللقطات ومداخلات ضيوف الفيلم، وكل ذلك في انضباط زمن سرد الفيلم في خط متناسق لا تخل به السرعة أو البطء، ودعمتها موسيقى الفنان حسين المياد، والمؤثرات الطبيعية الصوتية المصاحبة.

غير هذا وذاك تكمن أهمية عملية الترجمة العربية والانجليزية في الفيلم، وهو التجربة الأولى لفريق العمل، لوجود بعض المفردات غير المفهومة لدى البعض، خصوصا المفردات المحلية التي قد لا يفهمها سوى أهل منطقة القطيف، أو المنطقة الشرقية على نحو عام.

ومع كل ذلك لا يتدخل المخرج بالتعليق، ولا يكتب على الشاشة عناوين أو توضيحات، فالكاميرا ترصد وتقول الكثير، خصوصا إذا عرفنا أن الحمادي إعلامي ومراسل تلفزيوني مهنته نقل الحدث والتعليق عليه.. لكنه يحيد نفسه ويبعد صوته وصورته وتعليقه، حتى عندما يوجه أسئلته لضيوف فيلمه، فإنه لا يظهر صوته، ويكتفي بما تسجله الكاميرا ليترك للمشاهد قصة واحدة تحيطها عشرات القصص لكل ضيف اختاره وصوره وهو يحكي عن جزئية صغيرة تتعلق بمهنته كبائع بسطة محترف.

حائز على النخلة البرونزية في الدورة الثانية لمهرجان أفلام السعودية بالدمام

الفصل الرابع عشر

عمرة والعرس الثاني...مكابدات ذات أنثوية

يؤسس المخرج السعودي محمود صباغ عبر فيلمه الجديد الطويل)135 د(، «عمرة والعرس الثاني» والذي عرض للمرة الأولى في مهرجان لندن السينمائي (منتصف أكتوبر 2018م)، للغة سينمائية متقدمة في حقل الإنتاج السعودي، إذ يمكن تلمّس بعض ملامحها في فيلمه هذا، وأيضا في فيلمه السابق "بركة يقابل بركة" الذي حققه قبل عامين، وبالطبع لا يمكن الجزم بملامح متكاملة لأسلوبه الفني، فالحديث عن خصائص اللغة السينمائية لأي مخرج لا يمكن القطع بها بعد فيلمين فقط، ولكن ثمة سمات تتعلق بتجويد العمل تظهر في تكوين أسلوبية سينمائية رصينة تشق طريقها.

الفيلم في خطه الرئيسي يحكي قصة معتادة في بيئة ألفت مسألة الزواج مثنى وثلاث ورباع، إنها «عمرة» وبناتها الثلاث وجدتهن ووالدة الزوج، يمثلن حالات نسائية في المجتمع السعودي، يواجهن تلك الحالة المعتادة، زواج الأب من زوجة ثانية، وهن إن كن يعشن في بيت واحد إلا أن كل منهن تمثل شريحة مجتمعية أو عمرية نسائية قائمة، بل وأنهن بلهجاتهن المختلفة عن لهجة البطلة الأم يمثلن ثقافات مناطقية داخلية مختلفة، إنه التغريب الداخلي، إن صح القول، وهو التغريب الذي يفضي إلى تأثر الاسرة الواحدة في البيت الواحد بمفاهيم متباينة، ربما معولمة هجينة، تبدو محيرة للوهلة الأولى في حبكة الفيلم، في حين تكرست اللهجة الحجازية الواضحة في كلام «عمرة» نفسها. وفي نهاية الأمر فإن تعدد اللهجات وطريقة الكلام، بما فيها لهجة البنت الصغرى "جميلة"، وسمات شخصيتها، تحيل إلى أجيال قادمة لها معطياتها ومفاهيمها الآنية والمستقبلية.

شخصية بسيطة ومركبة

عمرة سيدة أربعينية، تبحث عن أمان المستقبل و"الشيك الذهبي"، تواجه مجتمع نسائي، ساكنات المجمع السكني (الكامب) لعائلات العاملين في محطة تكرير النفط، على خلفيات السطوة الذكورية، مجتمع نسائي يصور شخصيات مأزومة، عصابية، سوداوية، خائفات من زواج أزواجهن عليهن، لذا يردن من عمرة أن تفتديهن وتقدم زوجها لـ«عشتار»، (يلاحظ رمزية اسم عشتار، إلهة الجنس والحب والجمال).

النسوة يهاجمن عمرة ويلقين بلوم ثقيل عليها، لعدم خضوعها، وفي ذات الوقت لا يهمهن من أمرها سوى أن تزيل عنهن خطر زواج أواجهن من عشتار(الرمز) ومن ثم الإمعان في استغلالها، وهي بالتالي لا هاجس لها سوى حماية كينونتها الأنثوية من الزوجة الثانية والحفاظ على بيتها وبناتها، ولهذا تدير مجموعة الناقمات حولها بحكمة، وربما بكتم الضغينة عليهن... شخصية حيوية أجادت أداءها "الشيماء طيب" التي برعت كثيرا وأدت بتمكن يضعها في مصاف الممثلات القديرات، فيما شاركنها بقية الممثلات طبيعية الأداء وتقمص الشخصيات بمقدرة ممتازة: "شيماء الفضل" سارة، و"سارة الشامخ" جميلة، إلا أن أم الزوج سعدية "خيرية نظمي" أدت فورما مسرحية عالية، وأمعنت "أم كلثوم سارة" حميدة، في تنفير المشاهد منها، بحسب ما يقتضيه دور الفتاة اللعوب الساعية إلى بهجة الحياة حتى لو كلفها ذلك سمعتها، وأتقن الشاب المتألق "محمد الحميدان" دور "داحم" بتلقائيته المحببة.

المجابهة بكل الطرق

عمرة لا تستسلم للضغوط التي تواجهها وأولها رغبة والدة زوجها "سعدية" في تزويج ابنها بأخرى لكي تنجب له الذكور؛ لكنها تسعى إلى حل أزمتها بكل الطرق التي أمامها، تارة بالصلاة والدعاء، وتارة باللجوء الى الشعوذة الدينية وشرب الماء المقري عليه ورشها على البيت، وأخرى إلى استشارات تنمية الذات، وجمعيات الارشاد النسائي، وأخيرًا تلجأ إلى السحر الأسود... لكن كل هذا التوتر المحموم الذي تبدو عليه عمرة بحنكتها وشكلها المشابه، غير المقصود، بـ"فرجينيا وولف" يذكر ويحيل الى قوة وضعف الشخصية في آن، ويكشف عن أبعاد حقد انتقامي دفين لا يداويه إلا إشعال النار في الجميع.

وهكذا، في سياق الفيلم يجد المشاهد نفسه لا يحمل أي تعاطف مع أولئك النسوة الغاضبات، فهن ممعنات في حنقهن بلا هوادة، عدا الابنة الكبرى التي يهينها زوجها ويطردها من بيت الزوجية فتحل مقيمة في بيت والدتها؛ وتعلن عن سخطها: "ما ضيعنا غير المذلة والخضوع"، أنه حنق الانتقام من ضعفهن وهشاشة شخصياتهن التي يدركون أنها شيء من الخيبة، فعبرن عنها بكلمة «حلطمة» الغريبة على اللهجة والثقافة، والتي ترددت كثيرًا، فأخلت بجاذبيتها اللفظية، إن كانت لها جاذبية، في حين لو استرجعنا فيلم "بركة" وتذكرنا كيف كان وقع كلمة «متسيطة» لوجدنا كيف تتحول كلمة شعبية غريبة تميل الى السوقية إلى "إيفيه" نابه، بدلا من ترديد منفّر يخل بحوارات الفيلم المكتوبة بوعي عميق.

خصائص أسلوبية

أول ما يلفت الانتباه: الاعتماد على طاقم ممثلين ليس لهم تجارب أدائية درامية سابقة، عدا الممثلة "سناء يونس"، كضيفة على الفيلم، ما يعني تكبل مشقة التدريب للخروج بأفضل أداء ممكن. الرمزية أيضًا تأخذ حيزا في سياقات الفيلم، وقد تصل بدلالاتها المتوارية للمشُاهد المتأمل، أو بمفهومها الظاهر الذي لا يستغلق على المشاهد العادي، مثل انسكاب الماء من قارورة الشيخ. فيما ينبني زمن السرد بحيث لا يغطي فترات طويلة، كما في "بركة"، إذ تمتد فترة الروي بين أيام الى شهر، أو أقل.

 إلى جانب هذا وذاك تتجلى حرفية توظيف المؤثرات الصوتية الطبيعية والموسيقية لـ"تامر كروان"، علاوة على التحكم في ايقاع السرد الذي يخلق حالة ديناميكية تبعد المشاهد عن الملل، في حين تأتي عملية تقطيع المشاهد وانتقالاتها في وتيرة مونتاجية موفقة ومتزامنة مع زوايا التقاط الكاميرا، والتي تضفي بعدا تشويقيًا، بل وجماليا، كما هو الحال في التكوينات البصرية للكوادر الواسعة والبعيدة، للجبال والبحر، أو للبيوت في المجمع السكني، وأيضا تلك التي ظهرت منذ أول مشاهد الفيلم وتصور جمالا تسير في صحراء وخلفها مصانع تكرير النفط وأعمدة الكهرباء، بما يوحي بامتزاج البيئة الصحراوية بأسباب نهوضها (البترول)، وهو المحمول الذي تتكئ عليه خلفية الفيلم (المورفولوجية) الشكلية والثقافية، وأثرها في تشكيل شخصيات الابطال وارثهم الثقافي.

لا يمكن تجاوز اللغة الايحائية الذكية في الفيلم، والتي تفصح دون ثرثرة.. الصورة ولغة الأجساد والاشارات ودلالات الأغنيات... إشارات الحب في لقطات ساحرة في جماليتها: الشاب المستهتر يتخيل رفيقته "حميدة" بينما تنساب أغنية خالد عبدالرحمن (خذني بقايا جروح أرجوك داويني)، وقبلها تلميحات لشعور خفي يراود الجار ولا تغفله عمرة، لينساب صوت طلال مداح (خذاك الموعد الثاني)، ثم دلالات النار، المشتعلة في حقول النفط، وفي مطبخ عمرة، تمهيدا لما سيأتي، ومشهد حوار عمرة وصديقتها سارة في المسبح.

بين التحديث والتقليدية

إلى جانب التحديث الاسلوبي الذي يسعى إلى تحقيقه المخرج، في المقابل أيضا بناءات فيلمية تبدو تقليدية، فعملية إدراج عناوين مكتوبة تظهر على الشاشة (الاستخارة. الخلع. إرفعي علومك... ألخ) لا تضيف إلا إذا كان المقصود منها تقنية كسر حاجز الايهام، التي عبر عنها "برتولت بريخت" في المسرح، رغم أنها تقنية كلاسيكية، تخلى عنها الكثير من المخرجين السينمائيين، وهنا نجد أن الاستغناء عنها لا يؤثر بأي شكل أو معنى في سياق الفيلم.

نشاهد ضمن موجودات البيت جهاز تليفزيون قديم، وتيليفون يدار بالـ (أزرار)، ومسجل كاسيت، أجهزة تعود إلى الثمانينيات، حيث ثقافة خطب الشيوخ المسجلة على أشرطة، والتي أثرت وقتها في جيل ذلك الزمن، في حين تتواصل "عمرة" عبر وسائل التواصل الحديثة الذكية (الجوال).. تارة بجوال حديث وتارة بجوال قديم، بما يفسر تمسكها بحياتها القديمة، وبما يوحي بتأثيرات العصر السابق على البطلة، رغم تمايز شخصيات بناتها، حليمة وحميدة وجميلة، بهمومهن وتطلعاتهن ومشكلاتهن.

خلطة الواقعية السحرية بالتراجيديا

في الجزء الأخير من الفيلم، يتسارع الإيقاع، تتأرجح الأحداث بين واقعية سحرية ساخرة، وبين التراجيديا... يصل التصعيد الدرامي الى ذروته. لم يعد يدرك المشاهد ما تراه عينه، أهو ضمن السياق الواقعي الذي سار عليه الفيلم، أم أنها تهيؤات تدور بمخيلة البطلة، نهاية قوى التسلط. انتقام عمرة من عشتار. طرد الجار المحب.. مشاهد متلاحقة ونهايات صادمة ومباغتة، في حين يأتي المشهدين الأخيرين هادئين عميقين، فتقول الفتاة الصغرى "جميلة" لوالدتها، بعد تحقيقها تقدما مذهلا في عزف الموسيقى، في ذات اللحظة التي يقام فيها العرس.. إنتصار "جميلة" الذي طمأن قلب الأم، والذي سيقودها وأمها إلى عالم جديد مليء بالاندماج مع الحياة الجميلة الموعودة: يللا ماما خلينا نروح البيت.

الفصل الخامس عشر

مغادرة... كوميديا سوداء تناقش الانتحار

ثمة منعطف، قد يمر به المرء في مرحلة الشباب، يكون مشحونًا بالقلق وعدم الرضا، وربما أججت الظروف النفسية والاجتماعية هذا القلق وجعلته يصل إلى مراحل متقدمة من الإحساس بفشل الحياة في عين من يقع في هذا الشرك النفسي والفكري. إنها أزمة قد تؤدي بمن يقع فيها إلى هوة سحيقة، وقد يقرر في لحظة مخادعة أن يتخلص من حياته.

ربما شيء من هذا القبيل يدور بذهن من يشاهد الفيلم القصير المعنون بـ «المغادرة» للمخرج الشاب عبدالله آل عياف، والذي طرح فيه سؤال: هل نلجأ للتخلص من حياتنا بسبب الضغوط النفسية والحياتية أم نقاوم حتى ننتصر عليها، ونستمر في حياتنا بكل كفاح وقدرة على تجاوز الصعاب مهما كانت.

يصور الفيلم شاب في مقتبل العمر (علي)، الممثل «علي الكلثمي»، والذي يبدو أنه شخص عادي، واحدًا من الاف الشباب اللذين نشاهدهم يقودون سياراتهم في طرقات المدن السعودية، ونحن نعرف، ربما، أو هكذا نتصور، أنه ليس هناك ما يشغلهم سوى قيادة هذا المركبات وتبديد الوقت في الشوارع دون هدف أو وجهة معينة. ليس هناك مظاهر مأزق يمر به البطل، ليس فقيراً. ليس أميًا. ليس أسيرًا لمؤثر ظاهر... إنها ضغوطات الحياة، وسؤالها المورق في الحياة المعاصرة، بكل ما تحمله من رغبات في تحقيق الذات أو حتى للاطمئنان لحياة دون أرق. إنها أزمة الإنسان في كل مكان وزمان، تلك التي طرحها شارلي شابلن قبل نصف قرن بعدما أصبح الإنسان ترس في آلة كبيرة، وليس أمامه إلا أن يحيا وينتصر.

الحياة حلوة كطعم الكرز

التأرجح بين فكرة مغادرة الحياة أو الموت الاختياري، وفي المقابل الرغبة في الاستمرار، لأن الحياة (حلوة) ويجب أن نعيشها، وسواء ضغطت علينا مسلماتنا الدينية التي تؤكد أن الانتحار يفقد صاحبه ما منحه له الله من مكانة في الآخرة لأنه أنهى حياته بنفسه... ولكن البعد العميق الذي طرحه آل عياف هنا هو سحر الحياة الذي يجبر الإنسان على الاستمرار، وهو ذات البعد الذي تناوله المخرج الإيراني «عباس كيارستمي» في فيلمه «طعم الكرز». ثمة من يريد الانتحار ولكن مصادفة عابرة تجعله يكتشف قيمة الحياة.   

يبدأ الفيلم (24 دقيقة ونصف) بهذا الشاب داخل متجر يبحث عن حبل قوي، ونفهم منذ اللحظات الأولى أنه يريد الحبل ليشنق به نفسه. هنا يتدخل أحد مساعد خدمة العملاء ويسأله عن حاجته، فيؤكد له أنه يريد حبلاً قويًا بإمكانه حمل شيء في بيته يزن 79 كلغم ونصف. يشتري الحبل ويغادر المتجر. يركب سيارته، ويبدأ في التحدث إلى هاتفه الجوال، ليبث رسالة صوتية إلى (متابعيه). يقول لهم مؤكد أنكم تتساءلون لماذا أفعل أنا ذلك.

نبقى مع هذا الشاب وهو على مقود سيارته، يخاطب متابعيه بكل ما يجول بخاطره وبما يحدث معه على الطريق، وعندما وصل إلى مكانه (شقة خاوية أو مكتب متقشف) يحاول تجريب الحبل في مقدرته على شنقه، وقبل ذلك يتصل ليطلب طعامًا، وهنا يجول بخلد المشاهد تساؤلاً: كيف لشخص يريد إنهاء حياته أن يطلب طعامًا، وهل أكل الطعام إلا الرغبة بالاستمرار في الحياة؟

الوحدة وإنسان التواصل الإلكتروني

يرسل رسالة صوتية عبر جواله إلى صديقه (محمد)، يطلب منهم مسامحته على مزحاته، ويوصيه بعض الوصايا غير الهامة، والتي تفضي إلى إفهام المشاهد إلى أية درجة أنه يعيش في خواء، ولكن رسالته تعني أنه سوف يغادر الحياة، ثم نشاهده يصلي ويستغفر، ثم يقف أمام الحبل المتدلي من السقف، ويوجه رسالة صوتيه إلى أبيه وأمه، يخبرهم أن الضغوطات الكثيرة دفعته للانتحار. يضع الحبل حول عنقه ويكمل الرسالة وأثناءها يتأرجح الكرسي الذي يقف عليه ويسقط بينما رقبته مربوطة بالحبل.

نعتقد أنه شنق وانتهى أمره، ولكن بقطع سريع نراه وهو داخل المتجر، ويلوم مساعد خدمات العملاء لأنه باعه حبلاً غير قوي وأنه انقطع عند تنفيذ مبتغاه.

يخرج من المتجر ويستقبل مكالمة من أحد الأصدقاء (بدر)، ويدور بينهما حوار يطلع فيه "علي" صديقه بأنه يريد أن ينتحر، وأنه يريد أن يصلى عليه، ويقام له عزاء ممتازاً، وعلى إثر ذلك ينصحه بدر بالذهاب إلى جبل «أبوضليع»، منطقة نائية وموحشة ويذهب إليها المشبوهون، ولكنها تفي بالغرض لأنها مقطوعة، وقد تمر عدة أيام حتى يجده الناس بعد أن يكون قد فارق الحياة، فيأخذونه ويصلون عليه ويقيمون العزاء.

يذهب للموت فينتصر للحياة

عندما وصل إلى منطقة جبل أبوضليع، ترجل من سيارته، وتوجه إلى حافة الجبل ليلقي نفسه في الهاوية، وأثناء ذلك سمع همهمات بقربه، (سمعها بمفرده ولم يسمعها المشاهد) فذهب يستجلي الأمر فإذا به أمام طفل رضيع ملفوف في «كوفلة» وليس معه أحد... أخذ الطفل، وأصبح همه أن يجد من يؤويه. يذهب إلى صديقه بدر الذي أرشده إلى مكان الجبل، ولكنه رفض أخذ الطفل، ثم ذهب إلى صديق آخر، ويواجه الرفض منه بإيواء الطفل.

هنا يتيقن المشاهد من أن علي قد نسي رغبته في الانتحار وأصبح شغله الشاغل هو مصير هذا الطفل الرضيع. إنه التناقض بعينه، هو يسعى للموت، بينما يجاهد ليهب الحياة لإنسان آخر. هو إنسان التواصل الإلكتروني بامتياز، هامش الحياة الواقعية التي يعيشها هامش ضئيل، لا يعيش بين أسرة، ولا وجود لمتابعيه إلا في عالمه الافتراضي، الوحدة التي تخيم على حياته.

عبدالله آل عياف بصفته كاتب سيناريو الفيلم ومخرجه، لم يذهب به إلى جدلية التراجيديا حول تنفيذ قرار الانتحار، إنما جعل المحمول الكلي لفيلمه في قالب كوميديا سوداء، وقف من خلالها على عدم جدية بطله في قتل نفسه، وأظهره بأنه مشوشر وعابث وفارغ، لا يدري ماذا يفعل في حياته، إنه قرار كاذب، يشير إليه بتأكيد جديته المؤكدة أصلاً في معناها الخفي، وهي أنه (يستهبل)، الكلمة التي كررها عدة مرات، بأنه لا يستهبل، وفي معناها المجازي يكمن واقعه الكاذب.

أودع الطفل في ملجأ للأيتام، ولأنه لا زال يخادع نفسه، ترك رقم هاتف صديقه بدر، على اعتبار أنه «مغادر»، تلك المغادرة المغشوشة التي يتعلق بها ليتخلص بها من ضغوطاته التي لم يفصح عنها سياق الفيلم، وذهب إلى منطقة جبل أبوضليع لعله يكمل استهباله.

هل الفيلم يندرج تحت مصطلح العبثية؟ كفلسفة تتلخص في أن مجهودات الإنسان لإدراك معنى الحياة، والتي تنتهي دائمًا بالفشل، رغم أن مصطلح (عبثي) لا يعني (غير ممكن منطقيًا) وإنما ما يتنافى مع المنطق ولا يخضع له. الصعوبة التي يعانيها المرء في سبيل محاولة فهم العالم الذي يحياه، وبمعنى آخر هو أحد أرقى مستويات السخرية باعتباره غير منسجم مع أي شيء في محيطه.

سرد متقن ومؤثرات متوازنة

لا تفوتنا براعة السرد التي اتبعها المخرج، على رغم بساطة الحدث، الأمر الذي خلق تشويقًا وجاذبية تسرق انتباه المشاهد، هناك لغة سينمائية حقيقية، تنهل من بسط الواقع في إطار مقبول وجاذب لإتمام مشاهدة الأربع وعشرين دقيقة، دون الإحساس بركاكة أو فتور في تدفق المفهوم المعنوي الذي حملته الصورة بقدر متمكن، لا سيما وأن الكاميرا اتخذت دور المتلصص النبيه، وساعدتها المؤثرات الصوتية الطبيعية والدرامية (الموسيقى) التي اعتمدها المخرج، إضافة إلى مناسبة الإضاءة واستخدام الفلاتر الضوئية بما أظهرت كل مشهد من مشاهد الفيلم في مكانه وإحساسه و واقعيته.    

وغير ذلك لا بد من إشارة إلى تقمص الممثل «علي الكلثمي» لدور الشاب المقبل على الانتحار وهو مدرك لعدم جديته وعدم اكتمال شروط الانتحار بداخله. نراقب تعابير وجهه، نبرة صوته، لغة جسده، فنجدها متسقة مع الحالة التي يؤديها. يترك بداخلنا أسئلة مفتوحة لا نجد الإجابة عليها: ما هي الضغوط التي يتعرض لها حتى دار بعقله أن ينفذ فكرته؟ وبالطبع ليس من مهمة الفن/الفيلم أن يعطي إجابات، إنما إن دفع بالمشاهد للتفكير والسؤال فيكون قد أدى مهمته على خير وجه.

الفصل السادس عشر

وينك؟...معاناة الشباب  مع الفراغ

في فِلمه المعنون (وينك؟) الذي عرضه في مهرجان تريبيكا السينمائي في قطر عام 2011م ونال عنه جائزة أفضل فِلم عربي قصير، يسلط المخرج السعودي عبدالعزيز النجيم الضوء على حياة شاب اختار أن ينعزل عن أصدقائه وعن المجتمع بأكمله ليتفرغ لمشاهدة الأفلام السينمائية عبر الإنترنت أو الأسطوانات. فالسينما، كما يبدو، هي عشقه الوحيد الذي يقضي فيه جل وقته. ومن أجلها ابتعد.

بداية رشيقة

يبدأ الفِيلم الذي تبلغ مدته ثماني دقائق، بسماعنا صوت صديقه «عبدالله الأحمد» عبر جهاز الرد الآلي وهو يعاتبه على القطيعة.. ثم يقوم بسرد بعض الأحداث التي حصلت له مؤخراً عن لقائه بصديقهم القديم «غازي»، الذي ذهب معه إلى منطقة تشليح السيارات، ثم عن لقائه صدفة بشخص يدعى «دودي». وبعد التعرف إليه قام هذا الشخص باصطحابه إلى مخيم سهرات وحفلات مختلطة.. وهنا يُنهي بطل الفِيلم.

الفيلم يحيلنا الى تفكير وسلوكيات الشباب، ويحيلنا من ناحية أخرى إلى تأثير الفراغ الذي يخيم على حياة فئات متزايدة من هؤلاء الشباب.. لهذا، فهو مرتبط بالواقع السعودي الذي يُمكن للمشاهد، القريب من عالم الشباب، التواصل معه والإحساس به، خصوصاً مع اختيار بطل الفِلم أولويات حياته اليومية بين تفضيل الجلوس  في البيت ومشاهدة الأفلام على التواصل مع العالم الخارجي، ولا سيما مع وضوح هشاشة شخصية هذا الصديق المتصل. حيث تظهر علامات الخواء في نبرة صوته والمبالغات التضخيمية في وصفه للأحداث التي يرويها.

شخصية خاوية

هذا الأمر الذي يحيل إلى تحليل الشخصية الشبابية، فهي شخصية تعيش في الخيال والغربة الذهنية. وهذه الصفة تنطبق على بطلي الفيِلم سواء المتصل أو المتلقي للاتصال. فالأول كما يتضح أنه يفتقر إلى أي اهتمام جدي، ويصب اهتمامه على سيارته وعالمه المحيط الخاوي من أية قيمة حقيقية. والثاني المتلقي للاتصال، وهو شباب اختار العزلة، ربما لإحساسه بعدم الجدوى من الاختلاط بأصدقائه أو أقربائه، ففضل أن ينزوي في بيته، حيث يدل كل شيء على أنه يعيش بمفرده في حالة عزوبية متعمدة. وهي الحالة التي تظهر في كثير من أفلام الشباب السعوديين القصيرة، فالعزوبية هي قرين البطالة والعزلة هي نتيجتهما.. هكذا يحلم هذا الشاب الموعود بالسهرة المختلطة والانطلاق والسعادة.

الفِيلم ينوّع في تقديم صوره عبر مشاهد تم تصويرها بالألوان والأبيض والأسود، ربما لإعطاء الإحساس بالحالة الضبابية السوداوية التي يعيشها الشاب الذي يظهر في الفِلم وهو قابع في حجرته يشاهد أفلام الفيِديو.. كما أن ترجمة الفِلم إلى اللغة الإنجليزية تعطي لمسة تضفي شيئاً من الاحترافية على العمل. 

الفصل السابع عشر

جليد.. رحلة شيقة إلى القطب الشمالي

حلم اختمر ذات يوم في داخل شاب وشابة سعوديين، جمعهما الفضول وحب الاستكشاف والترحال. توطد بداخلهما شغف متأجج لتحقيق هدف في الحياة. إنه التحدي الذي يراود الإنسان لمعرفة المجهول، وليس أي إنسان يعتريه ذلك الشعور؛ بل هو إنسان من نوع خاص لا يعرف اليأس ولا يعترف بالمستحيل.

 مغامرة خطرة بكل ما تعنيه الكلمة، ولكي يتم خوضها لا بد من التجهيز والإعداد وتحمل المشاق وتكبل التكاليف الباهضة... هكذا عزم مدرب الغوص الكابتن حسام شكري، الحاصل على ماجستير إدارة أعمال، وطبيبة الأطفال الدكتورة مريم فردوس على الذهاب إلى قمة العالم في القطب المتجمد الشمالي، حيث درجة الحرارة 40 درجة مؤية، كأول عربيان سعوديان يحققان ذلك، ويغوصان تحت أعماق الجليد هناك.. وما كان من المخرج عبدالرحمن صندقجي إلا أن يتبعهما بكاميراته هو وفريق التصوير وأسلوبه الرشيق في الإخراج ليتحفنا بوثيقة فنية في 31 دقيقة.. إنه فيلم «جليد» الوثائقي الاستقصائي، الذي اكتملت فيه عناصر الفيلم الممتاز.

رحلة المخاطر

الرحلة التي ينويان القيام بها مليئة بالتحديات والمصاعب الكبيرة، ولأن الإنجاز يستحق التوثيق فقد قرر المخرج تحرير السيناريو ومتابعة التصوير وإنتاج الفيلم، كي يوثق تلك التجربة الفريدة بطريقة شيقة وممتعة، وهو بالفعل يمتلك أدوات اللغة السينمائية الممتعة، فعل ذلك ليزرع إلهاماً في نفوس جميع المشاهدين الذين يطمحون في تحقيق ذواتهم وإنجاز طموحاتهم، ولهذا يثبت الفيلم مبدءًا مهمًا: أن الشباب السعودي قادر على تخطي العقبات للوصول لأهدافه مهما كانت الصعاب.

كان عليهما أن يجتازا مجموعة من المتطلبات الأساسية، منها غطسات تحددها الشركات الروسية التي تنظم رحلات الراغبين في الذهاب الى القطب الشمالي، فهناك عشرون غطسة لا بد من القيام بها، وهناك تصاريح ينبغي الحصول عليها، منها رخصة زيارة مناطق الجليد، ورخصة الملابس الخاصة بالغطس، ورخصة اللياقة البدنية ورخصة الحالة الصحية.

وهكذا، عزما على المضي قدما لتحقيق المهمة التي حدداها لنفسيهما. ولم يرضخا للرفض ثلاث مرات من الجهات المسؤولة في منحهما تأشيرة لدخول روسيا ومن ثم الأبحر الأبيض المتجمد، حيث تمثل هذه الرحلة الأولى للقيام بالغطسات التدريبية في بحر يشبه المحيط المتجمد، وبعد محاولات عنيدة تم الحصول على التصاريح اللازمة وتأشيرة الدخول في 2015.

تفاصيل شيقة

هذه التفاصيل الدقيقة ينقلها الفيلم بتصوير أبطال الرحلة وهما يسردان القصة بعفوية محببة، فيحكيان ما حدث بأسلوبهما اللطيف التلقائي... لكن تقنية المخرج في إدخال مشاهد خارجية أثناء حديثهما عن مراحل الرحلة، واستخدامه لمؤثرات موسيقية وصوتية وغرافيكية، هو ما خلق متعة بصرية للفيلم، بل أنه أوجد لغة سينمائية رصينة، يدعمها مونتاج محترف، لا يترك للملل طريقا يتسرب منه للمشاهد، لا سيما وأنه يتنقل بين الأماكن التي عبراها أثناء الرحلة، مثل قرية سنتاكلوز وأسطورة بابا نويل، وفي ذلك معلومات ثرية وحية ومتنوعة.

منطقة الدائرة القطبية الشمالية، تضم إحدى أغرب وأجمل الظواهر الطبيعية، فالأفق هناك يتلون على مدار الساعة ويرسل إشعاعات ضوئية ملونة وكأنها أشعة ليزر، من الأخضر الفيروزي والأحمر القاني والأزرق. سماء جديدة ودهشة بصرية ليس لها حد. عظمة الخالق في إبداع الكون تتجلى.

ينقل لنا حسام إحساسه بروعة منطقة البحر الأبيض، حيث يجتمع المشاركين على شاطئ بضفاف البحر الابيض في مهمة الغوص. شباب وشابات من مختلف دول العالم، ويبدأ الاستعداد للغوص مصحوبا بالكاميرا لتنقل جماليات الأعماق والكائنات النادرة، ومنها الحوت الأبيض بغرابة هيئته وان كان يشبه الدولفين، إلا أن سلوكياته تلفت الانتباه فهو صديق الإنسان وعدوه ـ إلى حد ما ـ في ذات اللحظة. الدب القطبي يتجول في كل مكان، والثعالب القطبية. إنها بيئة خطرة.

لم تكن عملية سهلة أن ينزل غواص قادم من مناطق حارة إلى أعماق جليدية، وكانت النتيجة أن يصاب حسام بالحمى والإنهاك التام، ما جعله طريح الفراش قرابة اليومين. ولكن الإرادة لا تعرف الركون للمرض أو الاستسلام للسرير. قاوم ونهض وأكمل الغوص التدريبي، وبعده عودنا إلى السعودية.

الرحلة الكبرى

بعد إتمام الرحلة الأولى الى البحر الأبيض والتي أنجزا فيها سبعة غطسات، وعودتهما سعيدين إلى السعودية... وجب عليهما الاستعداد للرحلة الكبيرة إلى قلب القطب المتجمد الشمالي. وهنا واجها عدة صعوبات حيث الاحتياجات الضرورية والتكاليف الباهضة، ومنها الملابس الغالية الثمن الخاصة بالجليد والغوص، التي اعتذرت الشركة الروسية عن توفيرها من فينلندا، لذا قام المشرفون على تدريبهما بتأمينها من حوزتهم الخاصة.

يروي الغواصان فيقولان: انطلقنا إلى القطب الشمالي، توجهنا من روسيا إلى النرويج، مرورا بفنلندا، ومن «نرومسوا» في النرويج استقلينا الطائرة إلى «سفالبارد»، الجزيرة الجليدية، التي تعرف ببنك البذور، فبذور جميع النباتات توجد في مخزن يسمونه مخزن سفينة نوح، وفي حالة حدوث أي تلف أو ندرة للبذور أو النباتات، في أي بقعة في العالم، فإنهم يرجعون الى هذا البنك وسيجدون احتياطي منها.

توافدت بعثات الوفود المشاركة في الرحلة على المخيم، أتوا من مختلف أنحاء العالم، ولكن لعدم تهيئ المدرج الذي سنهبط فيه في المحيط، بقينا نحو عشرة أيام في سفالبارد. كانت فترة انتظار صعبة ومحبطة، فكلما أصبح المدرج صالحًا هبت عواصف جليدية وأتلفته، أخذ القلق ينهشنا، وكنا أكملنا جميع تجهيزاتنا واستعدينا من جميع النواحي، فهل سنقوم بالرحلة؟

في قلب القطب

في ختام الأمر تم تحسين المدرج وانطلقنا بالطائرة إلى مخيم «برنيو» الروسي، ومن هناك أخذتنا طائرة الهليكوبتر إلى نقطة المخيم الشمالي... الكاميرا تصور لقطات الفخر والسعادة التي تنتاب فرق الغوص. بينما موسيقى الحماس تنطلق مع لحظات نزول الغواصين من الهليكوبتر..وصلنا أعلى نقطة في العالم، حيث تلتقي خطوط الطول ودوائر العرض. الفضاء مغطى بالجليد، والوقت غير معروف، هل هو ليل أم نهار!، الشمس لا تغيب.. سعدنا كثيرا، وسعينا لأخذ الصور التذكارية.

الفيلم ينقل تلك السعادة والشعور بالانتصار بلقطات قريبة للغواصين والمشرفين: المشرف على المركز الروسي، الدكتور «ميخائيل سفانوف» أو ملك الجليد كما يطلقون عليه، والمدرب «نوفيشفك كوستانتين»، والمدرب «إيفان كيونبوج» وهم يعدون الطعام والمشروبات الساخنة. يغنون بسعادة، ويمرحون وهم ينظفون أواني الطعام، حسام يشاركهم بسعادة. بينما أنفاسهم تتحول إلى بخار يخرج من بين أنوفهم و أفواههم. إنه الصقيع ودرجة الحرارة الأقل من 30 درجة مأوية، ومع ذلك عليهم أن يحدثوا فتحة في سطح الجليد كي ينزلوا منها للأعماق. يال الروعة؛ سنرفع علم بلادنا الحبيبة وصورة مليكنا الغالي. سنقول للعالم نحن هنا لا نعرف المستحيل.

لقطات وموسيقى رائعة: صور متتالية توضح الغواصين السعوديين وهما بالأعماق. تحقق الحلم وها نحن في الأعماق..(كنت محاطة برسائل سلبية محبطة، أنتي لا تقدرين، هذا ممنوع وغير مرغوب فيه، إنك تقومين بشيء خارج عن المألوف، تفكرين بطريقة خارج الصندوق.. نعم هذا هو بالنسبة لي الإنجاز) هكذا راحت مريم فردوس تعبر عن فخرها بما أنجزت.

(ناس كثيرون يقولون لي نحسدك لأن لديك هدف، تحارب عليه، ورغم كل شيء وصلت للهدف..أن يكون لديك هدف وتخطط له ثم تصل إليه. نعم أنا في قمة العالم) وهكذا عبر حسام عن انجازه في نهاية المطاف.

لحظات نابضة بالزهو تصورهما وهما يمسكان بالعصيان ويرقصان رقصة المزمار على سطح الجليد تعبيرا عن سعادتهما بما حققا. لقطة: وحسام جالس وأمامه القرآن الكريم، وقد رفع يديه بالدعاء والشكر للمولى القدير الذي حقق له حلمه. حسام ومريم يمسكان بصورة ملكنا المحبوب الملك سلمان بن عبدالعزيز، وكأنهما يقولان للعالم: نحن هنا ونهدي هذا الانجاز لوالدنا وقائد شعبنا حفظه الله.

فريق العمل

التصوير: عبدالرحمن حافظ، وخالد باجعيفر ـ التصميم: أمين قيصران ـ الترجمة: أحمد خياري ـ الموشن غرافيكس: مراد مراد وطارق سعيد وهاني محمود ـ الفريق الفني: نماء المنورة، أحمد المحايري، مجاهد قاري، يوسف رفة، رائد الرحيلي، دلال هوساوي، عبد الإله باشرحبيل، عبدالله المعيرفي، وأحمد النابلسي، ومديرة الإعلام والعلاقات العامة الشريفة عالية الدعيس.

الفصل الثامن عشر

عصفورة... مؤازرة الطفولة بلغة حميمة

أول ما يلفت انتباه المشاهد لفيلم «عصفورة» القصير للمخرج الشاب "بدر الحمود"، القصة الناعمة التي اقتبسها من الواقع عن طفولة شاب كفيف يدعى "محمد سعد"، ليقدم خلال دقائق حكاية طفل بسيطة جديرة بالتأمل لكفيف عمره تسعة سنوات يدعى "وليد".. وليد خفيف الظل وذكي ويبدو طبيعياً في كل تصرفاته خصوصا في تعامله مع حاسته المفقودة بروح المرح، بل وأنه يعرف أن لديه فدرات حسية لا يتمتع بها الكثير من أقرانه، لدرجة أن عائلته، والده ووالدته، يستعينون به في أمور كثيرة في حياتهم المنزلية. يهوى رياضة الجري ويمارسها في الحديقة المجاورة لمنزله، لكنه كان غالباً ما يتعثر ويسقط أثناء الجري، لذلك أحضر له والده ووالدته عصا لكي يتحسس بها دربه ويوزن بها خطواته. وبعد استخدامه العصا أصبح لا يخشى من السقوط وأخذ يركض بكل ثقة.

اللقاء الأول

يلتقي وليد بطفلة مقعدة على كرسي متحرك في الحديقة، وتنشأ صداقة سريعة، كما هي عادة الأطفال، يدور بينهما حوار لطيف وغير متكلف، فيعرف وليد أن الفتاة مقعدة ولا تمشي برجليها، ثم يعقدان اتفاقا بعد أن سألته الفتاة: هل تعرف ماذا في الحديقة؟.. يجيبها كيف أعرف ما في الحديقة وأنا كفيف لا أرى. قالت له إذا قم بدفعي بالكرسي وأنا أشرح لك ما في الحديقة.

وفي حوار بسيط يلفت إنتباه المشاهد الى جمال الطبيعة والحياة... ثم تمر السنوات ونشاهد وليد وقد أصبح شاباً وبجانبه زوجته وهي فتاته التي لعب معها في الحديقة وقد أصبحت أما لطفل وطفلة يلهوان في ذات الحديقة التي التقيا فيها عندما كانا طفلين.

لقاء الأرواح

هو الحب إذن، والتقاء الأرواح والتعايش والتأمل في دورة الحياة التي لا تتوقف بسبب فقدان البصر أو فقدان الحركة على الأرجل.. الحب الذي يؤثر ويدعوا للمؤازرة دون أن يفرض على المشاهد وصاية، بل ويدفعه للتعاطف والتأسي بالمعاني السامية التي يتحقق بها اكتمال إنسانيته ومعنى وجوده . وفيما يطرح الفيلم بطريقة إنسانية إلا إنه يشير للاهتمام بالتربية الأسرية لضمان التنشئة السليمة للطفل وتعد عنصرا أساسيا في تنشئة الطفل، حيث تعتبر السنوات الأولى التي يقضيها الطفل في منزله من اكبر المؤثرات المسئولة عن تشكيل مستقبله، وفيلم عصفور يرينا بعض المشاهد التي تدور في جو أسري داخل بيت وليد، حيث نلمس المحبة والتآلف الأسري لدرجة المرح وروح النكتة. بل ويدفع الى إعطاء المكفوف وذوي الاحتياجات الخاصة مكانته وأهميته، حيث نرى الأب والأم تعتمدان على ابنهما المكفوف في بعض الأعمال، وهما بذلك يعطيانه شعور بالأهمية.

إنسجام الاسرة

من هنا نجح الفيلم في تسليط الضوء على الانسجام الأسري في ابراز الأسرة كأول وسط ينمو فيه الطفل، ويتشرب التقاليد والعادات والأعراف السليمة في جو عاطفي يتفاعل معه، ولا شك بأن ذلك انعكس على جل حياة (وليد)، حتى كبر وتزوج الفتاة التي التقاها وتفهمته ومنها كون أسرة متفاهمة عماده الألفة والمحبة، وظهر وهو يتعامل مع أطفاله بنفس تلك الروح المحبة، التي تهتم بإشباع حاجات الطفل النفسية وتوسيع مداركه وزيادة معارفه وتهتم بتصرفاته لأنها أساس المجتمع المترابط، الذي يبني منذ أول لحظة، على التوافق والتراحم والانسجام والتشارك في الحقوق والواجبات.

الفيلم تمثيل: فيصل الشهري، محمد القحطاني، لمى القناص، زارا البلوشي، محمد الموسى، غدي القحطاني، نرجس وعبدالملك القحطاني، إنتاج 2013م.

الفصل التاسع عشر

ظلي لم يعد يتبعني...صورة متقنة وأداء المسرحي

كثيراً ما تنتج أفلام كان من الممكن أن تحقق نصاباً فنياً متكاملاً، لولا خفوت آليات تنفيذ جزئيات مهمة منها. قد يكون الموضوع ممتازاً، والفكرة التي يبثها جيدة، ولكن يأتي السيناريو ضعيفاً فيفقد الفِيلم كثيراً من قيمته ويضعف حبكته... أو قد يكون الشريط الصوتي والموسيقي المصاحب غير ملائم لأحداث الفِيلم أو مبالغاً في توظيفه الدرامي، أو غير ذلك، ولكن قد يبقى المحصل النهائي جديراً بالتوقف والتأمل والنقاش.

ذكريات الطفولة المؤلمة

يتأنى كثيراً مخرج الفِيلم السعودي القصير «ظلي لم يعد يتبعني» قاسم المسري في سرد أحداث فِلمه الذي تبلغ مدته خمساً وعشرين دقيقة، وهو من تأليف وبطولة يوسف أبو راكان وهاشم العبدالله، وأمجد قريش، ومحمد قريش، وأحمد رمزي.

يسرد الفِيلم معاناة شاب (فهد) خرج من مستشفى الأمراض النفسية بعدما قضى بها ست سنوات نتيجة أزمات نفسية، ألمَّت به جراء القسوة التي كان يتعرَّض لها إبان طفولته على يد والده. يخرج وحيداً ساهماً يجر خلفه حقيبته وهو مطأطأ الرأس والروح.. يخرج فهد ويذهب إلى بيت العائلة فتهاجمه الذكريات الأليمة. الأب القاسي الذي كان يضربه لأقل الأسباب. والقسوة هذه غير مبررة على المستوى الدرامي في سرد الفِيلم أو على مستوى الواقع، إلا بقدر يسير من الاجتهاد المسرحي التضخيمي، أو كما يدعي لسان حال الأب أنه أسلوب تربوي يريد منه أن يربي ابنه على مبادئ الرجولة والأخلاق الفاضلة.. في حين أنه يخطئ في أسلوبه هذا. فهو يعتقد أنه يقوّم ابنه وينبهه إلى الأخطاء التي يرتكبها، حتى لو كانت أخطاء غير ذات بال ولا تستوجب الذكر.

أداء مسرحي بتكريس عالٍ

هكذا يطرح الفِيلم موضوعه بكثير من تكريس التمثيل المسرحي للممثلين يوسف أبو راكان، الذي قام بدور فهد، وهاشم العبدالله الذي أدى دور الأب. إنهما يجتهدان في زج المشاهد في زاوية التراجيديا السوداء، وتكثيف ذلك بالمؤثرات الصوتية والموسيقى الحزينة. نشاهد الأب وهو يضرب ويعنّف ابنه بطريقة وحشية على تصرفات هامشية لا تعني أية انحرافات في السلوك، مثل كسره كأس الماء الذي سقط منه عفواً... تعود ذاكرة الشاب إلى تلك التفاصيل ويجدها مجسدة أمامه، بلعبة إخراجية تضع الشاب في الحدث الماضي وكأنه يحدث أمامه في اللحظة الراهنة. وحتى يكون معبِّراً عن هذا الماضي يجتهد المخرج في تصوير تلك المشاهد باللونين الأبيض والأسود. ثم تنتقل الذاكرة بالشاب من فترة الطفولة إلى فترة الصبا…

يتنقل الشاب في زوايا البيت فيتذكر لحظات المعاناة مع والده الفظ، وأنه كان له بالمرصاد في كل صغيرة وكبيرة.

ثم من خلال انسياب موَّال عراقي حزين يفهم المشاهد أن «فهداً» يعاني من فقدان حنان الأم، إذ تقول كلمات الموَّال:

«يايمَّة ليش العمر ضيعته من دونك يايمَّه

وسنين مرت عليّ مو شايف عيونك يايمَّه.

العين قد ما بكت حتى بيها انعمت ولو دوروا بالقلب

وبروحي يلقونك يا يمَّه.. يا يمَّا»..

لحظة التطهير

في تلك اللحظة يظهر الأب، ويدخل حجرة «فهد» الذي عاد بعد ست سنوات قضاها في المصحة النفسية. يستقبله والده بكثير من المودة، ويحضنه والدموع تنهال من عينيه، وكأنه ندم على القسوة التي كان يعامل بها ولده. هنا تبرز لحظة التطهير التي أرادها المؤلف، لتظهر في سياق الفِلم ضمن أداء تراجيدي عالٍ.. نرى في لقطات متتالية الأب وهو يحتضن ابنه عندما كان طفلاً، ولقطة أخرى بعدما صار صبياً، ولقطة ثالثة وهو مراهق، ورابعة عندما صار شاباً يافعاً مكتمل الرجولة، في تواؤم مع تلك اللقطات والمشاهد التي ظهر فيها الأب يضرب فيها الابن.. يفتح حقيبته ويخرج منها بروازاً يحمل صورة أمه، يحتضنه ويجهش بالبكاء في أداء مسرحي خالص. فيتمتم بجمل تبوح بما يعانيه، وتخرج منه بنحيب حارق وعويل مرّ.

ينتهي الفِلم ويترك للمشاهد كثيراً من الأسئلة المفتوحة، منها ما الدافع وراء قسوة الأب؟ كيف كانت تسير حياة الأب وابنه دون أم وزوجة؟ وربما تساءل المشاهد بينه وبين نفسه عن العقد النفسية التي يسببها العنف. وكيف يصبح الإنسان فاقداً لوزنه الروحي، وبالتالي عديم الفاعلية والحيوية إلى درجة تجعل ظله لا يتبعه. وهي كناية عن تشتت الوجدان والمكوِّن النفسي، حيث يصبح وجود الإنسان في حيز وظله وأثره في حيِّز آخر.

الفصل العشرون

سيرة «مخيال» ومسيرته

فيِلم «مخيال» لمخرجه محمد السلمان المأخوذ عن رواية زينب الناصر لقي اهتماماً كبيراً من قِبل جمهور مهرجان أفلام السعودية الذي أقيم في الدمام أوائل مارس 2018. فهو يحاكي تخيلات طفولية تتعلَّق بالفزَّاعة وعادات وتقاليد اجتماعية مرتبطة بالمخيال، ولكن بتصوير بارع ومناظر جميلة في إحدى المزارع، وبحوار صامت بين الممثلين. كما أن الفِلم أيضاً في طريقه للمشاركة في مسابقة الأفلام القصيرة التي تقام على هامش مهرجان «كان» السينمائي العالمي.

«أؤمن بأن السينما شكل فني نستطيع من خلاله أن نثبت وجودنا على خارطة العالم البصرية وننقل حكاياتنا ومشاعرنا وثقافتنا وأحلامنا بسلام». هذا ما أجاب به المخرج السعودي الشاب محمد السلمان عن السؤال حول سبب امتهانه الإخراج السينمائي هواية ومهنة. وفِيلم «مخيال» الذي أخرجه السلمان ُعرض ضمن مسابقة أفلام الشباب في مهرجان كان السينمائي 2018، بعدما تمت الموافقة عليه من قبل لجنة محكِّمين متخصصين في مجال الأفلام الروائية القصيرة والأجنبية.

لم تكن الطريق معبَّدة أمام المخرج الشاب نحو عالم الإخراج، إذ كان عليه كما أغلب أقرانه أن يعمل في مجالات فنية أخرى، وهذه الأعمال المتفرِّقة بمنزلة درجات السلّم الذي سيصعد عليه المخرج نحو كرسي الإخراج. وعلى المخرج المستقبلي أن يتعلَّم الأمور المتعلِّقة بأدوات التصوير والمونتاج والإضاءة والصوت ويعمل عليها كمتدرب مع مخرجين آخرين أو في مساعدة أصدقائه من المخرجين، وهكذا يكتسب مهارات لا يتعلمها في الجامعة. وهذه مهارات مفيدة للمخرجين الذين يدخلون إلى عالم السينما من أبواب واختصاصات مختلفة قد لا يكون لها أي علاقة بالاختصاص السينمائي، وهؤلاء كثر في المملكة. لذا عمل محمد السلمان في التصوير التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي وفي تأليف أعمال فنية تشكيلية مختلفة.

السلمان يروي بنفسه

راودتني فكرة أن أصبح مخرجاً منذ كنت طفلاً، حين رافقت والدي إلى عمله منتصف الثمانينيات وعمري لا يتجاوز العاشرة، وكان يعمل آنذاك مُشغِّلاً للأفلام في صالة أرامكو السعودية برأس تنورة. سحرتني تلك التجربة. كان الضوء المنبعث من تلك البكرات الدوّارة كشعاع يحملنا إلى عوالم أخرى تصنع المتعة وتوسّع الخيال وتثريه.

أردت أن أصبح صانعاً للضوء منذ تلك اللحظة. أردت أن يخرج هذا الضوء ذكريات طفولتي وأراها كأنها مستعادة على الشاشة المضاءة كما يفعل أبي. إذ كنت أظنّ أن أبي هو المخرج. فهو يعرف كل شيء عن الفيِلم الذي يعرضه، فقد حفظ الحوارات والمشاهد ويعرف أسماء الأبطال والأشرار، وماذا سيحدث ومتى سينتهي الفِلم. لقد زرع والدي في داخلي شغفه بعمله دون أن يقصد.

كانت «الفزاعة» التي توضع في حقول الذرة وقرب الأشجار لتمنع الطيور من إفساد الفاكهة والحبوب، الشخصية الغريبة في طفولتي، إذ كانت تثير فيَّ خوفاً خفياً رغم علمي بأنها مصطنعة وليست حقيقية. إلا أن الخوف الذي كان يجب أن تبثه في الطيور، كان ينتقل إليَّ أيضاً، لمجرد وقوفها الطويل في مواجهة الشمس والهواء وصمت الحقول. كانت الفزاعة أو «المخيال» أمام ناظري في أوقات كثيرة من النهار، وكانت تدور لها في مخيلتي قصص ومغامرات، وسيصبح هاجس بناء فِلم عنها مصاحباً لي في شبابي. لذا، في مرحلة وعيي المراهق رحت أبحث عن قصة «المخيال»، والتعرّف إلى المزارعين وإلى حياتهم وممارساتهم اليومية، وحفظت كلماتهم ووسائل التعبير لديهم وقصصهم ومفرداتهم. ومنهم تعرّفت إلى اسم «مخيال»، وهو اسم قديم جداً لا يعرفه إلا المزارعون ويطلقونه على الفزاعة.

حين آنت اللحظة، اخترت تطوير رواية الكاتبة زينب الناصر حول فكرة المخيال، ورحت أشغل نفسي في التفكير بكيفية تحويل عالم المخيال ورواية الناصر إلى فِلم أقرب للفنتازيا والخيال. لذا قمنا بتحويل النص إلى سيناريو، فخرجنا بفكرة خيالية لكن دلالاتها حقيقية إذ تطرح إشكاليات القداسة والارتباط بالغيبيات في صورة سينمائية تطرح الأسئلة ولا تجيب عنها إذ تُترك الإجابة للمشاهد.

قصة «مخيال»

عائلة الجد أبو سلمان تنتظر الملائكة لتزور مزرعتها كي تعود مثمرة كما كانت. فالجد متعلِّق بالأمل الذي سيهبط عليه من السماء عبر خرافة متوراثة أو متداولة مفادها أن الملائكة تزور ملابس الموتى المؤمنين. فعكف الجد على جمعها ونشرها في المزرعة منذ ثلاث سنوات وتسعة أشهر، وما زال يبحث عن الثوب الذي سيحمل الملائكة من السماء.

تصبح الملابس التي يجمعها الجد ويجعل منها مخيالات أو فزاعات محور اهتمام الطفل الذي يساعد جده في أعمال الفلاحة والزراعة. وتنشأ علاقة بينه وبين المخيال تكاد تكون إنسانية. الأم توقفت عن الكلام بعدما تركهما الأب ليعمل بالبحر. والملابس بالنسبة لها نذير عودة الغائب، فربما تترافق عودة الزوج مع عودة الأرض. لهذا كانت هناك علاقة مشتركة بينهم، الأم والأب والابن والجد، ومجسّمات المخيال الموزّعة في الأرض المزروعة.

بعد نضج فكرة المخيال في مخيلتي، وتحويل الرواية إلى سيناريو، وتحديد مكان التصوير وفريق الممثلين، والمشاهد التي سيتألف منها الفِلم، بدأنا التصوير مع بداية العام 2014م بفريق عمل صغير يتألف من أصدقاء ومتطوعين، إذ إن الميزانية التي رُصدت للبدء بالفِلم كانت صغيرة جداً ولا تكفي للعمل مع محترفين بأجور عالية. فوجدنا أن فكرة تبادل المساعدة ستكون أفضل، وهي عادة موجودة بين المشتغلين في السينما من المبتدئين. فكل منهم يقدِّم يد المساعدة لرفيقه الذي يطلبها. وبسبب ضيق ذات اليد، قمت بنحو %90 من العمل، من التصوير إلى رسم الإضاءة وتحديد مكان الصوت وتوجيه الصوت وكذلك إعداد القهوة. واستمرت هذه المتعة تقريباً شهراً بأيام متفرقة خلال الأسبوع الواحد.

ثم انتقل العمل إلى مرحلة المونتاج وهي المرحلة الأصعب، إذ تم الاعتماد في التصوير على كاميرا من طراز (BLACK MAGIC POCKET CINEMA) وهي كاميرا صغيرة وعملية جداً، تقوم بتصوير صور خام RAW تتطلب مساحة كبيرة جداً للتخزين.

صناعة الفِيلم وتكلفته

ساهم جمال المكان في جعل الصورة جميلة دون أي جهد كبير نضيفه إليه. وبسبب عدم وجود فريق كامل متكامل متخصّص، بدأ التوتر يظهر علينا جميعاً كفريق وخصوصاً على المتطوعين. إذ كنا نعمل لما يزيد على اثنتي عشرة ساعة يومياً كي نتمكن من تصوير أكبر قدر من المشاهد في اليوم الواحد، خصوصاً أنَّ صاحب المزرعة كان قد طلب منا أن نغادر أرضه بأسرع وقت لأسباب عائلية. فصار ضيق الوقت وقلة خبرة الفريق وصغره سبباً للعمل المشحون، مرات بتوتر ومرات بشغف كبير لإنهائه على أكمل وجه. رغم أنه في النهاية، يمكنني القول إن لقطات كثيرة لم يتم تصويرها وحوارات يجب إعادتها وكانت قائمة طويلة من اللقطات التي يجب أن أعمل عليها وقعت كلها ضحية الاستعجال والبدائية في العمل.

وقد أخذنا الوضع الجديد الذي فُرض علينا إلى خط جديد في تصوير الفِلم ربما كان نافعاً لنا في النهاية، ومن هنا جاءتنا فكرة الـ «VOICE OVER» (الصوت المضاف) والاستغناء عن الحوارات، وتكثيف الصورة الرمزية. ولأني اعشق الشتاء والغيم والمطر كنت متابعاً جيداً لحالة الطقس، وكنت أريد ان أضيف مشهد السماء والغيوم فيها، إلا أني اكتشفت أن السماء تعاندني ولا بد من التنازل عن مشهد الغيم.

كانت ميزانية الفِلم لا تتجاوز الخمسين ألف ريال. ذهبت إلى أمريكا للبحث عن استديو لمونتاج الفِلم. ولعدم توفر ميزانية كافية لم أجد استديو مناسباً، لذلك عدت إلى العمل على المونتاج بنفسي فاستغرق مني تسعة أشهر، وحصلنا على دعم من «مايلز استديو» بدبي الذي عمل على تصحيح الألوان وهندسة الصوت وفق ميزانيتنا.

ولا بد لي من الإشارة إلى أن معرفتي بصناعة الفِلم اكتسبتها بالتعلّم والدراسة. ولكن لا يمكنني أن أنسى دور برنامج «إثراء» وورشة عمل صناعة الفِلم حين أحضرت أرامكو السعودية أهم جامعة على مستوى العالم تُدرِّس الفن السينمائي USC. وكنت ممتناً للقائمين على الورشة لأنهم مكنوني من حضورها، حيث كانت مفيدة جداً في تعليمنا تقنيات جديدة في عالم السينما، تساعد المبتدئين على تصوير أفلامهم.

مهرجان الأفلام القصيرة (كان)

بعدما لاقى فِيلم «مخيال» قبولاً جماهيرياً عالياً في مهرجان أفلام السعودية في الدمام، وبعدما وجدنا أن فِلمنا تمكَّن من جذب عدد كبير من المهتمين والنقاد المعنيين بالسينما السعودية، جاءنا خبر جديد على قدر كبير من الأهمية أيضاً، وهو أن الفِلم سيشارك في ركن الأفلام القصيرة في مهرجان «كان» العالمي وليس في المسابقة الرسمية. وأجد المشاركة خطوة متقدمة جداً لتكون حدثاً سينمائياً مهماً لنا. وهي فرصة للتعريف بالفِيلم وترويجه بشكل خاص، ونشر المعرفة حول السينما السعودية للذين يعتقدون أن لا سينما في بلادنا. وقد سبقنا مخرجون سعوديون كثر إلى بث الدعاية والإعلان عن قدرات السينما السعودية التي جعلت عدداً كبيراً من أفلامها ينافس في المسابقات العالمية ويحصد الجوائز المهمة.