العدد 6059
السبت 17 مايو 2025
حرية التعبير في ميزان القانون: بين الحق الدستوري والملاحقة الجنائية
الأربعاء 07 مايو 2025

في الثالث من مايو من كل عام، يحيي العالم اليوم العالمي لحرية الصحافة، وهي مناسبة لا تقتصر على الاحتفاء بالصحفيين ودورهم الحيوي في نقل الحقيقة، بل تُعد وقفة تأمل في مدى التزام الدول، أنظمةً وتشريعات، بصيانة الحق في حرية الرأي والتعبير.

 ومما لا شك فيه أن هذا الحق يُعد من أبرز دعائم المجتمع الديمقراطي، إذ لا تتصور عدالة أو مساءلة أو تنمية من دون إعلام حر، وفكر بنّاء، وتعبير يُسهم في تطوير السياسات العامة ورقي المجتمعات.

وإذا كانت النصوص الدستورية في أغلب الدول العربية قد أقرت هذا الحق بشكل صريح، فإن التطبيق الأمثل له يقتضي أن تُصاغ القوانين التنظيمية بما ينسجم مع روح تلك النصوص، دون أن تُفرَض قيود تُفرغ هذا الحق من مضمونه.

فحرية التعبير، حين تُمارَس في إطار من المسؤولية، تُعد مكسبًا للدولة ومجتمعها، إذ تتيح للسلطات الوقوف على مواضع الخلل، ومعالجة السلبيات بشفافية ونزاهة.

حرية التعبير في المواثيق الدولية

لقد أقر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته (19) بأن "لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير..."، وهو ذات ما أكدته المادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، مع إقرار محدود لقيود ضرورية تُفرض بقانون لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.

ويُفهم من ذلك أن الأصل في حرية التعبير هو الإباحة، وأن القيد يجب أن يُصاغ بحكمة وتوازن، بحيث لا يتحول إلى أداة تكميم للرأي أو إقصاء للفكر كما أن هذا المفهوم بات أحد مؤشرات قياس احترام الدول لحقوق الإنسان، فلا يخفى على أحد أن الدول التي تُقيد حرية التعبير تُتهم عادة بممارسة أشكال من الاستبداد القانوني أو الرقابة المفرطة، مما يُضعف من مكانتها الدولية.

النصوص الدستورية في الدول العربية

تختلف التشريعات العربية في طريقة تنظيم حرية التعبير، وفيما يلي استعراض لأهم النصوص الدستورية المتعلقة بحرية الرأي والتعبير في بعض الدول العربية:

مصر:

كفل الدستور في المادة (65) حرية الفكر والرأي، وفي المادة (70) حرية الصحافة، وهو توجه دستوري يُبرز أهمية الكلمة والرأي، إلا أن بعض القوانين مثل قانون العقوبات وقانون مكافحة الإرهاب تضم نصوصًا تُقيِّد حرية النشر بحجج تتعلق بالأمن القومي، مما يستدعي إعادة النظر في ضوء التوازن بين الحقوق والحريات.

المملكة العربية السعودية:

النظام الأساسي للحكم يُحيل إلى الشريعة الإسلامية التي تُفهم بمرونة تتسع لحرية التعبير، مع تنظيمات تتطلب تطويرًا يعزز من ضمانات هذا الحق، لاسيما مع ازدياد الاهتمام بالمحتوى الرقمي وتأثيره المجتمعي.

الكويت:

تنص المادة (36) من الدستور على أن "حرية الرأي والبحث العلمي مكفولة"، وهو نص يحمل دلالة إيجابية، خاصة في ضوء تطور الصحافة الرقمية، وإن كانت بعض القوانين كقانون المطبوعات والنشر ما تزال بحاجة إلى تحديث لمواكبة المتغيرات.

سلطنة عمان:

كفلت المادة (29) من النظام الأساسي للدولة حرية الرأي والنشر، وهي خطوة إيجابية تعكس حرص المشرّع على إرساء هذا الحق، مع الحاجة المستمرة للتأكيد على التطبيق المتوازن، لاسيما في ظل ما يشهده الإعلام العماني من تطور تقني.

مملكة البحرين:

ينص الدستور البحريني في المادة (23) على حرية الرأي، وهي دعامة قانونية يجب أن تُستثمر في توسيع أفق الحريات المسؤولة، لا سيما مع تعدد وسائل التعبير الإلكتروني.

تونس:

جاء دستور 2014 بتكريس غير مسبوق للحريات، ما يفتح آفاقًا أمام نموذج قانوني متقدم في المنطقة، وقد شكلت تونس نموذجًا مهمًا في تعزيز الحق في التعبير بعد الثورة، مع استمرار التحديات على مستوى تنفيذ القوانين وضمان استقلالية القضاء.

أهمية تشذيب التشريعات التنظيمية في ضوء النصوص الدستورية المتقدمة

 يبقى التحدي الحقيقي متمثلًا في مدى انسجام القوانين العادية مع تلك المبادئ العليا فتشذيب التشريعات القائمة من القيود غير الضرورية على حرية الرأي والتعبير يُمثل خطوة استراتيجية تعكس وعي الدولة الحديثة بأهمية فتح المجال أمام الرأي الحر المسؤول.

إن التطبيق الأمثل للحرية لا يكون بغياب التنظيم، وإنما بضمان ألا يكون التنظيم قيدًا، بل موجهًا يُرسّخ المسؤولية دون مصادرة

وفي هذا الإطار، فإن سنّ القوانين يجب أن يراعي التناسب، والضرورة، والدقة في الصياغة، وألا تُستخدم العبارات الفضفاضة في تقييد الحريات.

ولعل أبرز ما يواجه الصحافة والإعلام في العالم العربي هو ما يُعرف بـ"القيود السابقة"، كاشتراط الحصول على ترخيص أو فرض رقابة مسبقة، إضافة إلى العقوبات السالبة للحرية وكلها أمور تتطلب إعادة تقييم.

الصحافة الرقمية والتطور التقني

لقد أدى الانتقال إلى المنصات الرقمية إلى توسيع نطاق التعبير، وهو تطور يستدعي نظرة تشريعية جديدة، تأخذ بعين الاعتبار أن وسائل النشر الحديثة باتت الوعاء الحقيقي للرأي العام، وأن حماية حرية التعبير في العصر الرقمي تتطلب تطويرًا قانونيًا يواكب هذا التحول.

وتجدر الإشارة إلى أن العديد من الدول الأوروبية اعتمدت قوانين لحماية الصحفيين الرقميين، بينما ما تزال بعض الدول العربية تتعامل مع المحتوى الإلكتروني بذات العقلية التي وُضعت لتنظيم الصحف الورقية مما يفرض ضرورة وجود إطار قانوني شامل ومتوازن، يُراعي الخصوصية الرقمية، ويعزز حرية الرأي دون أن يسمح باستخدام الفضاء الرقمي للإساءة أو نشر الكراهية.

منافع حرية الرأي للدولة والمجتمع

لا يمكن تجاهل أن حرية التعبير ليست مجرد حق للمواطن، بل هي مصلحة عليا للدولة، إذ تُسهم فيما يلي :

الكشف عن مواطن الخلل الإداري والسياسي، مما يساعد صانع القرار على اتخاذ إجراءات إصلاحية فاعلة.

بناء ثقة المواطن في مؤسسات دولته، عندما يرى أن رأيه مسموع ومحترم.

تحقيق توازن مجتمعي صحي من خلال تنوع الآراء وتكاملها.

تحفيز الابتكار وتطوير الحلول المجتمعية والسياسية عبر تلاقح الأفكار.

ومن هذا المنطلق، فإن الحكومات التي تتبنى نهج الانفتاح على النقد البنّاء، وتستمع لمطالب الصحفيين والكتاب والمفكرين، تكون أقرب إلى النجاح في تحقيق التنمية المستدامة والاستقرار السياسي.

التجربة الأوروبية نموذجًا

في المقابل، نجد أن الدول الأوروبية تتبنى نهجًا متقدمًا في حماية حرية التعبير ففي فرنسا وألمانيا، تُصاغ القوانين بحيث تُحمي الكلمة طالما أنها لم تتحول إلى تحريض أو كراهية وتؤكد المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن التعبير، حتى وإن كان صادمًا أو غير مألوف، يجب أن يُحمى في ظل مجتمع ديمقراطي.

وفي بريطانيا، نُظمت حرية التعبير في إطار قانوني دقيق يُفرّق بين النقد والإساءة، بينما في السويد والنرويج تُعد حرية الصحافة من أقدم الحريات الدستورية، ويُنظر إليها باعتبارها حجر الزاوية في الديمقراطية.

هذه التجارب تُشكل دافعًا مهمًا لتطوير المقاربات العربية، والاستفادة من النماذج القانونية التي تعزز مناخ الحريات دون الإخلال بالأمن أو النظام العام.

نحو بيئة تشريعية محفزة على الرأي المسؤول

من الضروري أن يتجه المشرّع العربي إلى تبني الآتي:

مراجعة القوانين العقابية بما يضمن عدم معاقبة الرأي بالسجن.

صياغة النصوص القانونية بمحددات دقيقة تُميز بين النقد والإساءة.

تعزيز استقلالية القضاء في قضايا الرأي والتعبير.

نشر الوعي القانوني والثقافي بين الصحفيين والجمهور حول حدود وضوابط حرية التعبير.

تفعيل الهيئات المستقلة المعنية بتنظيم الإعلام بعيدًا عن التبعية السياسية.

رؤية قانونية  

مما لا ريب فيه أن حرية الرأي ليست عبئًا على الحكومات، بل أداة وطنية لتصحيح المسار، وتعزيز التنمية، وبناء عقد اجتماعي يقوم على الشفافية والتفاعل الإيجابي وإن الحكومات السيدة التي تملك قراراتها وتحرص على مصلحة شعوبها، تدرك أن تنوع الآراء يُعزز شرعيتها، ويُسهم في رقي الدولة ومكانتها.

ولا خلاف في أن اتساع سقف الحريات، متى اقترن بالمسؤولية، يُؤسس لمجتمع قوي، متماسك، قادر على مواجهة التحديات .

ومن هنا، فإن اليوم العالمي لحرية الصحافة يُمثل فرصة لتجديد الالتزام بالتطبيق الأمثل لهذا الحق، عبر بيئة قانونية تحمي، لا تُضيّق، وتُرشد، لا تُقصي.

وفي النهاية، فإن ضمان حرية التعبير إنما هو ضمان لحق الوطن في أن يسمع أبناءه، وأن ينهض على أفكارهم، لا أن يُكبّلها بقوانين قديمة أو تفسيرات متشددة فالأمة التي تصون الكلمة، تُصان مكانتها بين الأمم.

هذا الموضوع من مدونات القراء
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected]
صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .