تغريب الأندلسيين وموقف العثمانيين عنوان ضمن سلسلة مقالات نُشرت سابقا. وتغريب الأندلسيين هو أحد ملامح تاريخ لا يُنسى، ونتيجة ظلم فعلته السلطات الإسبانية. تراكم مع مرور الزمن، وغذته مراسيم وقوانين ولوائح وشايات استهدفت فصل الأندلسي عن دينه وتاريخه وأهله، بل ودفعه باتجاه الكاثوليكية رغم صمود الجيل الأندلسي الأول وسعيه في فضح شيطنة منهجية الإسبان.
مآسي دُفنت فيها آمال الجيل الأول الأندلسي، ثم عقبهم أبناءهم وأحفادهم الذين وجدوا أنفسهم وسط عالم غير الذي عرفه آباؤهم، فجهلوا الكتابة العربية، وعجُمت السنتهم، واختلطت عاداتهم، وسادت الأميّة، وتفشّى المرض بعدما حرمتهم السلطة من المرافق العامة التي اعتادوا عليها. وأجبرتهم على التعايش مع القذارة حيث منعت السلطات معظم الأندلسيين في المنافي من مزاولة التجارة أو الاشتغال بالأعمال، فصاروا بغالين وحمّارين وفلاحين بالسخرة أو بأجر رمزي من وضيع المهن. وحظرت عليهم حمل السلاح وكانت هذه الوسائل وتنفيذها بلا نهاية، وفقدت خلالها التجمعات الأندلسية إمكانية الاتصال فيما بينها لتبادل الأخبار والمساعدة، أو حتى لتخفيف بعض المشاكل. تراكمية ذل ومهانة تعدت 100 سنة تحمل وزرها واحدة من أعتى الممالك التي عرفها القرن السادس عشر.
عام 1609م أصدر الملك فيليب الثالث مرسوما خرج فيه المُنادون في المدن الأندلسية ينص؛
على سائر الموريسكيين (الأندلسيين) رجالا ونساء واطفالا أينما كانوا، أن يسارعوا خلال ثلاثة أيام من صدور المرسوم إلى إخلاء منازلهم، والاتجاه بإمرة مفوض الدولة المسؤول عنهم،
وذلك للإبحار إلى المغرب لمدن مثل طنجة وأغادير ووهران على متن المراكب والسفن التي استعارتها الدولة لهذا الغرض، وبعض من كان في إشبيلية أُرسلوا لتونس وآخرون إلى ارزو في الجزائر أخذين معهم من ممتلكاتهم المنقولة ما يمكن حملة على ظهورهم، وكل من يتخلف عن المرسوم يعرض نفسه للهلاك المُحقق.
تضمن مخطط الترحيل تجميع الأندلسيون في مراكز خاصة أقيمت لهذا الغرض. التغريب استمر متقطعا بين 1609-1614م، وأن بعض الأندلسيين استأجروا سفنا بأنفسهم لنقلهم، وغير معروف على وجه الدقة عدد الأندلسيين الذين شملهم التغريب، ولا كذلك كل وجهاتهم التي أُرسلوا لها.
التاريخ يُحدثنا أن السلطات الإسبانية بدأت نهب منظم لممتلكات الأندلسيين وأموالهم دون مراعاة لأحد.
أما دور العثمانيين آنذاك. وهم من تعايشوا مع العرب فترة طويلة، وكتبوا بالعربية، وكان حرفها معتمد للغة التركية، وانتفعوا من العرب برجال ومال وحضارة وفنون وذخائر إسلامية وعمارة وصناعات وغير ذلك مما لم يتقنه العثمانيون آنذاك، وقدموا للعرب حماية عسكرية يتميزوا بها رغم سجال حروب هم طرفها.
مدّوا الأندلسيين بعض الأوقات بالمال والسلاح وسهّلوا وصولهم إلى أراضي السلطنة بعد نفيهم، ورغم محاولات العثمانيون نجدة المسلمين في الأندلس إلا أن محاولتهم باءت بالفشل لانشغال العثمانيين بالحروب مع شرق أوروبا من جهة، والصفويين في إيران من جهة أخرى.
وهنالك وجهة نظر مغايره أن العثمانيين لم يبذلوا الوسع في النصرة خلال مراحل ضعف الدولة الأندلسية ومحاوله الوقوف معها وإضعاف الفتن داخلها وحولها. ويُذكر في هذا الرأي زيارة وفد أندلسي إلى إسطنبول اثناء حكم السلطان بايزيد الثاني، وهو أبن السلطان محمد الفاتح، حيث استلموا من رئيس الوفد رسالة استغاثة مؤثرة حفظها التاريخ من مسلمي الأندلس إلى السلطان. وقد أُرفقت بأبيات شعرية مؤثرة تصف الحال للشاعر أبي البقاء صالح بن شريف يصف مأساة المسلمين في الأندلس وغدر الأعداء بهم؛
سلام عليكم من عبيد تخلّفوا
بأَندلسٍ بالغرب في أرض غربة
أحاط بهم بحرٌ من الردم زاخر
وبحر عميق ذو ظلام ولجة
سلام عليكم من عبيد أصابهم
مصاب عظيم يا لها من مصيبة
كان العثمانيون قوة ضاربة عسكرية في القرنين السادس والسابع عشر، وظلت هزيمة العثمانيون حلما أوروبيا لم يتحقق الا بعدما استنزفوا في حروبهم مع الصفويين. إذ كان العراق ساحة حرب في معظم الأوقات تقاتل فوقه العثمانيون والصفويون.
حينما بدأت مرحلة تغريب الأندلسيين بداية القرن السابع عشر بمرسوم الملك فيليب الثالث 1609م بذل العثمانيون في اتصالاتهم بملوك أوروبا جهودا للسماح بعبور الأندلسيين إلى أراضيهم وأسكنوهم في احياء اسطنبول وغيرها، وفي مراحل لاحقه تنقّل نسلّ الأندلسيين في أراضي السلطنة واتجه قسم منهم إلى بلاد الشام. وبهذا أصبح مآل الأندلسيين في التغريب حقيقة وواقع طُوي فيه تاريخ ما يزيد عن تسعة قرون في أرض أندلس.
حينما أطل القرن الثامن عشر على العالم كانت هناك ثلاثة ممالك كبيرة في العالم الاسلامي هي المملكة الصفوية في بلاد فارس، والمملكة المغلّية في الهند، والسلطنة العثمانية. لكن هذا القرن جلب معه بداية المرحلة الاستعمارية الدولية التي أعقبت مأساة الأندلس، فمزق الإنكليز والروس المملكتين المغليّة والصفوية، وجاء بعدهما دور السلطنة العثمانية الذي تقاسم غالب تركتها الإنكليز والفرنسيون.
وإلى حديث عن نهاية الإمبراطورية الإسبانية.
نتابع...
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |