العدد 6057
الخميس 15 مايو 2025
خربشة ومغزى.. نهاية محاكم التحقيق وكراهية الشعوب الأوروبية لها
الأحد 27 أبريل 2025

نهاية محاكم التحقيق وكراهية الشعوب الأوروبية لها، عنوان تمثل في دوران العقوبة على قادة المحاكم التي فيها ذاقوا مهانة وذل، طال قساوسة وكهنوتيين. اعتقدوا أن فعلهم يُبقي نقاء وبقاء مذهبهم إذا تخلصوا من المسلمين والبروتستانت واليهود. 

انهزام المحاكم بدأ حين خلع نابليون بونابرت الملك الإسباني فرناندو السابع عام 1808م، ووضع مكانه أخاه جوزيف بونابرت. الفرنسيون أرادوا كتابة خاتمة محاكم التحقيق كماضي لا عودة له. وهذا حصل عقب إصدار جوزيف قرارا بإلغاء محاكم التحقيق الإسبانية، ومصادرة أملاكها وسجلاتها، ثم عقبها اعتقال البابا بيوس السابع وأخذ السجلات البابوية منه، وحبسه في فونتنبلو إلى حين إطلاقه عام 1814م.

الإسبان قبلوا حكم ملوك سلالة البوربون الفرنسية رغم أنهم لم يرتاحوا إلى الملك الفرنسي جوزيف. فرنسا قررت القضاء على واحدة من أكبر الإمبراطوريات آنذاك عرفها العالم، وهي الإمبراطورية الإسبانية، وشهد التاريخ تحولها فجأة مقهورة محتلة مغلوبا على أمرها، بل ذاقت مثل ما حصل للدولة الأندلسية، ولم تفلح المقاومة حينها من إخراج الفرنسيين. 

هكذا طويت صفحة محاكم التحقيق قانونيا عام 1835م، وأغلق التاريخ دفتره على واحدة من أسوء الحقب التي عرفها العالم وأكثرها شرورا وشيطانية، وبقي أثرها وما جلبت لنفسها في ذاكرة البشر من عداء وكراهية حتى طالت الشعوب الأوروبية.

الفرنسيون قدموا وصفا لبعض مشاهداتهم في قصر محكمة التحقيق في مدريد وكان هو الأخير المتوافر. فضولهم دفع إلى دخول المحكمة فطافوا في أرجائها لكنهم لم يجدوا زنازين التعذيب التي سمعوا عنها الكثير، فساورتهم الشكوك من زعم دليلُهم أن الزنازين غير موجودة، فأكثروا البحث إلى أن استوقفهم أنين أتاهم من تحت البلاط فنزعوه فوجودا سلما نزلوا عليه إلى القبو. رواية الفرنسيون أنهم وجدوا بعض الضحايا أحياء وكانوا يعيشون على لحم زملائهم الموتى. 

البابوية استدركت بعد عقود زمنية فتح ملف محاكم التحقيق، حيث بادر البابا يوحنا بولس الثاني في 19 أكتوبر 1998م دعوة مجموعة من المؤرخين والدارسين إلى حضور حلقة دراسية في روما للبحث في تركة محاكم التحقيق، وتحديد مسؤولية البابوية والكنيسة الكاثوليكية عن قيام تلك المحاكم التي مزَّقت المجتمعات، وأججت العداء بين الأديان والمذاهب، وتسببت في إحراق ألوف الأبرياء ومصادرة حريات وأملاك عشرات الألوف، وهذا يُعتبر تاريخ اضطهاد مؤسساتي منظّم تبنته البابوية آنذاك.

البابا كذلك فتح أرشيف الفاتيكان الذي ظل مغلقا في الماضي في وجه الدارسين باستثناء من اطمأنت إليهم الكنيسة. البابا سأل المجتمعين في الحلقة الدراسية إذا كان على البابوية الاعتراف بجزء من مسؤوليتها عن قيام محاكم التحقيق وتقديم الاعتذار الرسمي النهائي، فكانت النتيجة تباين أراء؛ منهم من برّأ ذمة البابوية وقال انها ليست مسؤولة عما حدث، وآخرون من قال غير ذلك. إلا أن الكم الهائل من الوثائق الأصلية تؤكد جرائم المحاكم كحقيقة دامغه، لكن الخروج عن الشائع والمألوف والثابت يدعوا دائما إلى الإنصات إلى قائله لأن الناس لا يسمعون إلا صوت مفصلات الأبواب الصدئة، وهذا هو حال من برء البابوية.

لقد انتهت الحلقة الدراسية التي دعا اليها البابا يوحنا الثاني إلى اعتذار الكنيسة عما فعلته محاكم التحقيق مفسرة الاعتذار بالتالي؛"لأن مفاهيم العدل آنذاك لا تتفق ومفاهيم العدل الحديثة "، كأن كل حقبه لها ملابساتها وهكذا عارضت البابوية محاكم التحقيق لكن فقط على أساس أن ممارساتها لا تتماشى ومفاهيم العدل السائدة في العصر الحديث.

لقد مضت محاكم التحقيق وصارت قصورها متاحف في إسبانيا، وضاع قسم كبير من ملفاتها أو أُتلف، وصارت أدوات التعذيب التي كان عمَّالها يستخدمونها مادة غنية للمسرحيات والافلام الفكاهية، إلا أن تركة المحاكم لاتزال قائمة حتى اليوم، واستطاعت إبقاء قدر معين من سمومها في العلاقات بين أبناء الأديان المختلفة بعد مضي مئات السنين على إنشائها. 

قصة محاكم التحقيق هي قصة فشل، وللفرنسيين في القرن التاسع عشر أثر رفع ظلم في تدخُلهم، وكذلك دفع الاتجاه لهذه المحاكم إلى تابوتها النهائي، وستبقى محاكم التحقيق ثقيلة على البابوية، وهي لا تزال تحاول التخلّص من شوائبها إلى اليوم.

الأمم الكبيرة تترك ورائها دائما معالم حضارية تضيف إلى مَكنّز الحضارة العالمي وهنا نقول؛ فات ملوك الإسبان والبابوية آنذاك فرصة الإضافة الحضارية، بل تركوا أراشيف تاريخية بحثتها دراسات شرحت حقبة سوداء فيها ظلم وشنائع محاكم التحقيق.

وبعد هذا نسأل كيف حصل تغريب الأندلسيين من إسبانيا؟

نتابع.. 

هذا الموضوع من مدونات القراء
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected]
صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .