هذا التسارع والتقلبات الجيوسياسية في العالم والمنطقة وانعكاسها على الاقتصاد، لا بد أن يأخذ نصيبه من الاهتمام، ووضع خطة تتسم بالحكمة والمرونة وبذات الوقت المتانة والصرامة، من أجل استدامة حقيقية لاقتصاد قوي وقدرة تتسم بالمرونة العالية على التكيف مع الأوضاع.
ومع غياب هكذا عقلية ومنهجية عمل، سنكون دوماً في ساحات ردات الفعل لا في صناعة الفعل، وحينها تكون خياراتنا قد تم صناعتها من قبل وليس علينا إلا وهم الاختيار ليس إلا.
وعند العودة للأساسيات، تتضح ملامح أمور قد تم تهميشها أو لا أقلها جعلها ثانوية في ذيل قائمة الاهتمام للعديد من دولنا، وهنا الأمر المستغرب والعجيب!
هناك مثلث التأمين الاستراتيجي لأي دولة تتمتع بالاستقلال والقوة، وأضلاعه هي:
١.تأمين الماء
٢.تأمين الغذاء
٣.تأمين الدواء
هذه الثلاثية ليست مجرد عناصر حيوية، بل هي ركائز تحدد قوة أي دولة لتحقيق الاكتفاء الذاتي، وتعزيز سيادتها الاقتصادية، وضمان استدامتها في مواجهة التحديات والتغيرات من حولها.
١. كيف نصل للاكتفاء المائي؟
ما هي مصادر المياه التي يتم تزويد الناس بها بالدولة، من شرب واستخدامات أخرى تجارية وصناعية وزراعية وخدمية وغيرها؟
وحيث أن الموارد المائية شحيحة في مملكة البحرين، والاعتماد الأكبر بل الأوحد على نظام التحلية من البحر، لا بدمن تطوير الأساليب ورفع الكفاءة فضلاً عن الاستثمار في ابتكار طرق جديدة ترفع الإنتاجية دون ضرر على البيئة، وبذات الوقت الاستفادة من تجارب الآخرين مثل سنغافورة، الجزيرة ذات الموارد المحدودة جداً، وكيف عملت بنُظم متقدمة في الاستفادة من المياه الرمادية بل حتى من المياه السوداء!
ويمكن العمل على:
. ضبط البصمة المائية للأفراد والمؤسسات، والعمل بنظام جمع النقاط كأسلوب تحفيزي للاستهلاك المقنن للمياه
. إعادة استخدام المياه الرمادية للأفراد والقطاعات المتنوعة، وذلك من خلال وضع أساسيات استخدام تلك المياه في المشاريع الإسكانية الجديدة، مع تحفيز الحكومة ودعمها للأفراد والمؤسسات التي تود إعادة استخدام المياه الرمادية عبر دعم شراء الأجهزة المعنية بذلك، وهو ما سيقلل من كمية البصمة المائية لاستخدام الأفراد والمؤسسات بالبحرين
. تعزيز تقنيات تحلية المياه بطرق مستدامة وصديقة للبيئة من قبل الوزارات المعنية
. دعم الأبحاث الأكاديمية والمشاريع الريادية في هذا الجانب وبشكل مركز خلال فترات زمنية محددة، حيث يكون كل العمل على تحقيق الوصول إلى طريق ذات كفاءة أفضل لما يتم العمل عليه حالياً، فيكون الأمر إما تحسين الموجود أو ابتكار الجديد.
. نقل المعرفة من جهات وشركات وحكومات أخرى، للاستفادة من تجاربها وتطوير ما يتناسب مع تحدياتنا وظروفنا
٢. كيف نحقق الأمن الغذائي؟
تزايد الاهتمام بهذا الجانب مطلوب وضروري، وعلينا تخطي مرحلة اطلاق المبادرات إلى استدامتها وتطويرها وقطف بعض ثمارها.
فالأمن الغذائي يتطلب خطة واضحة مُحكمة، تعتمد على استغلال الموارد المتاحة بكفاءة عالية، وادماج علم استخدام المساحات مع التصاميم الخارجية للمباني السكنية والتجارية فضلاً عن المصانع، فزيادة الرقعة الخضراء ملحوظة لدينا بالبحرين، وهذا ما لا يمكن إغفاله، لتقليل انبعاثات الكربون، والمتابع يلاحظ أيضاً أن وضعنا فالبصمة الكربونية بحاجة لعمل أكثر لتحسين مرتبتنا كدولة مهتمة بهذا التوجه. إلا أن المتطلب أكثر والطموح أكبر. والحديث هنا يتم تركيزه على التأمين الغذائي، وقد كان من الجيد اطلاق "شركة غذاء البحرين القابضة" التابع لممتلكات، والمهتمة "بتعزيز النمو والابتكار في قطاع الأغذية والزراعة ودعم جهود مملكة البحرين في تحقيق الأمن الغذائي". حسب ما ينقل الموقع الرسمي للشركة. https://www.bmhc.bh/ar/portfolio-companies/bahrain-food-holding-company
حيث تضم الشركة العامة للدواجن وشركة دلمون للدواجن وشركة البحرين لمطاحن الدقيق، وهذه خطوة جيدة ومطلوبة، وبحاجة إلى تفعيل حقيقي لأهدافها ورؤيتها، ضمن جدول زمني منضبط وواضح.
ولكون هذه الشركة تحت "ممتلكات"، والذي ورد في الموقع بأنه "يتوجب علينا كصندوق الثروة السيادي لمملكة البحرين أن نعمل وفقاِ لمبادئ الممارسات البيئية والاجتماعية والحكومة".
سيكون الحديث عنها سلساً ومتوافقاً لما نتناوله، ويبقى التحدي في التطبيق لا سواه حينها.
ومن ضمن الأمور الممكن القيام بها أو دراستها قبل تطبيقها في مجال تأمين الغذاء:
١.وجود خطة وطنية واضحة الملامح، سواء من نوع المشاريع وعددها ومدة تنفيذها وقطف ثمار نتائجها، سواء في توفير المواد الأولية لصناعة الأغذية أو توفير موارد الاستهلاك البشري من حيوانات وطيور وأسماك وخضار وفواكه.
٢.زيادة الدعم للمزارعين، سواء من ناحية مصادر المياه أو مواد الأسمدة أو البذور المحسنة وطرق مكافحة الآفات وغيرها من خدمات ممكنة تهدف لتحسين الإنتاجية نوعاً وكماً لدى المزارعين، والكثير مما تم ذكره في هذه النقطة موجود إلا أنه بحاجة لتوسعة كمية وكيفية بشكل أوسع في المملكة
٢.ادخال الذكاء الاصطناعي في إدارة المنتوجات الزراعية، وقد شهدت بنفسي تجربة رائدة في أحد المزارع بمنطقة الجنبية، حيث يكون قياس كمية الماء وتوقيت الري، وتوقع الإثمار للمزروعات وأنواع الآفات وكيفية تجنبها، فضلاً عن المراقبة الدقيقة لكل نبتة أو مزروعة على حده بترقيم أماكنها وتقديم تقارير مفصلة عنها. وتوظيف استخدام المياه الرمادية المناسبة لبعض المزروعات والنباتات. وهو ما يقلل الصرف للماء والوقت والجهد مع إدارة شاملة للمزارع ومنتوجاتها.
٣. تخصيص مساحات واسعة جديدة في البحرين للزراعة والأراضي موجودة وبكثرة، سواء التابعة للأوقاف بشقيها السني والجعفري أو التابعة للحكومة، مع تقديم محفزات أكثر للراغبين في استزراعها من قبل المواطنين والمستثمرين.
٤. تطوير الإنتاج الحيواني، فما زلنا نستورد الماشية من الخارج، مع قدرتنا للوصول عبر خطة زمنية حاسمة لتصفير استيراد أنواع محددة من الماشية من الخارج عبر خطة قد تبدأ من عشر سنوات فما فوق.
وتشكل الثروة السمكية الورقة الرابحة لدينا كوننا في جزيرة وبها مقومات الاكتفاء في الثروة السمكية.
والتحديات تتمثل في العمل على وجود توجه منظم في خط الانتاج الاستزراع السمكي، لنصل لمرحلة الاكتفاء الذاتي.
وللعلم فإننا نصدّر ما يقارب من 14,133.36 ألف طن من الأسماك في حين نستهلك قرابة 24,088.10 ألف طن، ونستورد 18,384.87 ألف طن، وذلك وفق احصائية 2022. (المصدر www.data.gov.bh)
ومن الملفت للنظر تحوُّل البحرين من دولة مُصدرة إلى مُستوردة صافية للأسماك بحلول 2022.
وذلك مدعاة للتوقف والمراجعة الجادة في هذا الملف الذي يثير الكثير من التساؤلات عندما يتعلق الأمر بتأمين الثروة السمكية للأجيال القادمة.
٣. الدواء، من الاستيراد إلى الاكتفاء!
يشكل الاكتفاء الدوائي ولو لبعض الأساسيات أمراً مهماً لا يمكن التهاون فيه.
فلا يمكن لدولة أن تكون قوية من دون استقلالية في صناعة دوائها، وهو حجر الأساس في صحة شعبها، والاعتماد الكلي في استيراد الأدوية يشكل تهديداً صامتاً لا يمكن إغفاله.
فالمطلوب هنا ليس فقط توفير الأدوية، وهو ما تقوم به الدولة مشكورة بجهودها وضخ ميزانية ليست باليسيرة في ذلك، ونحن بحاجة بالتوازي مع ذلك إلى نقل المعرفة وبناء صناعة دوائية متكاملة في مملكة البحرين عبر:
. دعم برامج تصنيع الدواء محليًا بشراكات استراتيجية من مصانع أجنبية وأخرى عربية، ولا أقلها للأدوية التي انتهت فترة حمايتها وتصبح مشاعاً لكل دولة الاختيار في تصنيعها حسب قانون المنظمة، ومن المهم الاستفادة من قوانين اتفاقية الجوانب المتصلة بالتجارة من حقوق الملكية الفكرية TRIPS في هذا المجال.
نحن بحاجة إلى التركيز في التوجهات التالية:
. الاستثمار في البحث والتطوير بالتعاون مع الجامعات والمراكز المتخصصة.
. تحفيز القطاع الخاص للدخول في هذا المجال وتعزيز الإنتاج الوطني.
. العمل على الهندسة العكسية لبعض أنواع الأدوية والمنتوجات الطبية
. التعاون مع شركات وجامعات أجنبية في مجالات التجارب السريرية وتطوير الأدوية.
وذلك المثلث لا يمكن أن يتحرك بقوة وسلاسة إلا من خلال توفير مثلث آخر، يتمثل في الأضلاع التالية:
١. البنية التحتية
٢. الاستثمار
٣. الابتكار
وهذا المثلث هو الدعامة الرئيسية لتأمين ثلاثية الماء والغذاء والدواء.
١.تعزيز البنية التحتية:
وذلك من خلال تحسين الخدمات اللوجستية، وربط المشاريع الغذائية بالمناطق الصناعية واللوجستية بشكل تكاملي.
مع أهمية معرفة المشاريع التي سيتم العمل عليها، وربطها بالمصانع والخدمات ذات العلاقة.
ويتمثل ذلك في الطُرق والجسور لتأمين سلاسل الإمداد، فضلاً عن الاستفادة من الارتفاعات المنخفضة في نقل البضائع، وهو ما يسمونه باقتصاد المجال الجوي المنخفض Low Altitude Economy، والذي يشمل الاستخدامات للطائرات بدون طيار والتقنيات الجوية الأخرى التي تعمل على ارتفاعات منخفضة (أقل من 400 مقدم)، وهذا المجال متنامي جداً في الخدمات اللوجستية.
٢.جذب الاستثمار المحلي والدولي:
العمل على توليفة قوية بين دعم حكومي ومشاركة القطاع الخاص ومشاركة الاستثمار الأجنبي المباشر FDI، في القطاعات الرئيسية الثلاث: الماء والغذاء والدواء.
ويلعب مجلس التنمية الاقتصادية دوراً محورياً في هذا الجانب، فجاذبية الاستثمار الأجنبي، لا بد أن تكون ضمن معادلتها هو استدامة حقيقية لذلك الاستثمار، فضلاً عن أهمية نقل المعرفة للبلد للاستفادة منها ضمن جدولة زمنية واضحة. وليس بأجدى وأهم من كل ذلك عندما يتعلق الأمر بتأمين ثلاثي أساسي للبلد في الماء والغذاء والدواء، وما يتفرع من كل واحد منهما من مشاريع واستثمارات وفرص كبيرة.
فالأمر لن يقتصر على تأمين داخلي، حتى نصل لمرحلة تصدير تجربتنا للآخرين أيضاً، وفي ذلك خير وفير لمملكة البحرين ولمن نقدم تجربتنا لهم أيضاً.
٣.الابتكار كمحرك رئيسي للتغيير:
كما يكون الاهتمام بمجالات أخرى بالبلد، لا بد من وضع الاهتمام في استثمارات ذكية ومهمة للحاضر والمستقبل، في مراكز أبحاث متقدمة، والشراكات الفاعلة مع مراكز أبحاث دولية، والعمل معاً ضمن أجندة وطنية علمية لحلول متقدمة في مجالات التأمين الثلاث الأولى "ماء وغذاء ودواء WFM"
فضلاً عن التعاون مع الجامعات في تخصيص الوقت والجهد والمال لمتابعة الأبحاث والتركيز في استثمار عقول أبناء الوطن لتقديم الحلول المبتكرة في هذا المجال، وذلك من خلال دعم المختبرات بالأجهزة الحديثة والتدريب عليها، وابتعاث الطلبة للمراكز العالمية في المجالات الثلاث WFM، ويكون التركيز خلال خمس سنوات من كل مشاريع التخرج لكل الطلبة في هذه المجالات الثلاث، باعتبارها همٌّ وطني وخطة عمل لابد من القيام بها. فأول الغيث قطرة من بحث وتحليل ودراسة حالات.
طريق المثلثين، طريق البحرين!
إن الطريق لتحقيق الاكتفاء الذاتي لمثلث الماء والغذاء والدواء يبدأ بمثلث آخر هو البنية التحتية والاستثمار والابتكار، إلا أن كل ذلك يبدأ بوضع خطة وطنية شاملة، تعتمد على:
• جدولة زمنية واضحة لمراحل التنفيذ.
• شراكة بين الحكومة والقطاع الخاص والمستثمرين المحليين والدوليين.
• مؤشرات أداء دقيقة تقيس مدى التقدم في تحقيق الأهداف.
في النهاية، الدول التي تبني قدرتها على تأمين مائها وغذائها ودوائها، هي الدول التي تمتلك قرارها، وتؤسس لمستقبل مستدام وقوي.
فهل نحن مستعدون لتأمين هذه الثلاثية لضمان استمرارية وجودنا القوي؟
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |