حينما تمكن العرب المسلمين من شبه جزيرة آيبريه، وارتسمت فيها معالم دولتهم الأموية زمن العهد العباسي في بغداد، ظهر في حاكم ذو أثر امتد قرون في سلالة بعضها إلى يومنا؛ هو شارلمان (742-814م)، ما خلفيته؟، وكيف حكم وعلاقته بالعرب المسلمين؟ وها هنا إطلالة تاريخية؛ أن شارلمان هو أسم يُطلق بالفرنسي، والألمان يسموه كارل الكبير، والعرب يطلقوا عليه قاله. شارلمان ينحدر من قبائل جرمانية تُدعى الفرانك، رحلت من مناطق نهر الراين بعدما تجمد عام 406 م في موجة صقيع عظيمة ازهقت أرواح الماشية، وهي تعتبر عماد اقتصاد تلك القبائل قبل أن يحل محلها النهب المنظّم الذي درجوا عليه. يُذكر أن هذه القبائل لهم ارتباط بموطنهم الألماني والذي منه أسم مدينتهم الأكبر فرانكفورت أي قلعة الفرانك. وقد ساهمت تلك القبائل مع غيرها في أضعاف الإمبراطورية الرومانية حتى تلاشت.
أعتلى شارلمان العرش في أهم فترات صنع بعد نزوح معظم قبائل الجرمان إليها من مواطنها الأصلي حيث انقرضوا فيها. هذه القبائل خلال حكم شارلمان دخلت مرحلة جديدة في مجد وتغيُر بعيدا عما كانت سابقا تعمله من همجية وجهل وسطو على الآخرين. هذا التغيُر واكبه دعوة البابا ليو الثالث أن ينصب شارلمان إمبراطورا رومانيا مقدسا، وأن يكون ولي الله في الأرض، وقد تم هذا في يوم عيد الميلاد عام 800م اعترافا من البابا بفضل الفرانك على الكنيسة الرومية أو اللاتينية لتأييدهم روما وقت اندلاع الخلاف الديني مع الكنيسة البيزنطية (اليونانية)، وكذلك جهودهم الحاسمة في حمل الكاثوليكية إلى القبائل الجرمانية الوثنية وتدعيم سلطة الكنيسة الروحية.
وبهذا الزمن بدأ اتساع الهوة بين الكنيسة اللاتينية في روما والكنيسة اليونانية في بيزنطة، وهكذا أصبح شارلمان سيف البابوية، وولي الله في الأرض وداعيتها الكاثوليكي وحاميها في آن واحد، مما دفع شارلمان أن يحقق انتصارا عظيما حينما غزا إيطاليا، والزم ملكها بطاعة البابوية. وأستطاع كذلك أن يُعمّد للكاثوليكية فيدوكند زعيم قبائل الساكسون عام 785م الذي بعده دخلت شعوب الساكسون إلى المسيحية، مما عزز ملك شارلمان خلال سنوات حكمه التي امتدت 32 سنة، فبات بلا منازع واتسع سلطانه حتى ضمّ غالبية الأراضي الأوربية شرق نهر الراين.
تعتبر حقبة حكم شارلمان تحول في مفهوم الحكم، وهي أن السلطة المدنية مستمدة من الهبة الكنسية، فزاد بذلك نفوذ البابوية والأساقفة، ودفع لاحقاً مع الزمن تكريس سلطة الكهنوت، واستبداد البابوية لتحريك الحملات الصليبية، ودخول لما يعرف بالعصور الوسطى أو المظلمة Dark Ages.
آنذاك كان العالم به أربعة دول أو إمبراطوريات كبرى تحكم وهي؛ الدولة العباسية وعاصمتها بغداد والإمبراطورية البيزنطية وعاصمتها القسطنطينية والدولة الأموية وعاصمتها قرطبة والإمبراطورية الفرنجية يحكمها شارلمان وعاصمتها آخن.
كيف كانت علاقة شارلمان بالدولة العباسية زمن هارون الرشيد؟
تذكر الروايات الكنسية مراسلات هارون الرشيد وشارلمان، وتشير أن شارلمان بدأ يخطب ود الخليفة الخامس هارون الرشيد (786-809م) الذي ولد في مدينة الري جنوب شرق طهران تبعد 6 كم، وقد تُوفي في مدينة طوس مشهد حاليا.
الرشيد يُعتبر من أكثر الخلفاء شهرة وذِكر في المصادر الأجنبية؛ كالحوليات الألمانية في عهد شارلمان حيث تشير لاسم هارون Aron، والحوليات الهندية والصينية باسم Alun. ومما يُذكر كذلك في المصادر التاريخية وخصوصا الأوربية كأمثال بارتلود وبروكلمان؛ أن هناك تبادل سفارات بين هارون وشارلمان حيث كان يُوفد السفراء إلى آخن من التجار العراقيين أو بعض العلماء والفقهاء لإداء هذه العلاقات الدبلوماسية وكناطقين باسم الرشيد. وبالمثل كان يفعل شارلمان، وكان لهذه العلاقات أثر وتحالف في أضعاف الإمبراطورية البيزنطية.
من المرويات أن هارون أهدى شارلمان ساعة مائية مصنوعة من النحاس الأصفر، بارتفاع أربعة أمتار وتتحرك بقوة مائية، وعند تمام كل ساعة تسقط عدد من الكرات المعدنية يتبع بعضها بعضا بحسب عدد الساعات حيث تسقط فوق قاعدة نحاسية فتحدث رنيناً جميلا في أنحاء القصر الإمبراطوري.
هذه الساعة أحدثت دهشة شارلمان وحاشيته، واعتقد بعض الرهبان أن في داخل الساعة شيطان يسكنها ويحركها.
وذات يوم حاولوا عبثاً معرفة سرها بعيدا عن عين الملك فتحطم بفعلهم بعض أجزائها ولم يجدوا في داخلها غير آلاتها. حزن شارلمان لهذا الفعل ولم يستطع حينما دعى الصناع والمهندسين أن يرجعوها كما كانت فلم يستطيعوا إصلاحها وتشغيلها. عرض مستشارو شارلمان بعدها أن يخاطب الرشيد ليبعث فريقاً لإصلاحها. فقال شارلمان؛ "انيّ اشعر بخجل شديد أن يعرف ملك بغداد أننا ارتكبنا حماقة وعارا".
ونعود مرة اخرى في لاحق تفصيل إلى أحداث شبه جزيرة آيبريه بعد موت شارلمان وأثره على العرب المسلمين، وهذا مقال سادس في هذه السلسلة.
هذا الموضوع من مدونات القراء |
---|
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected] |