+A
A-

قضية اختلاس

بآيات الرحمن خالق الأكوان أبدأ (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ)..

خَلدتُ في الحياة بَحرينة الهَوى، وكُلما قِيل بَحرين نغم الفخر يُناغي نَسبي، نغم الفخر يُطوقني كوني وُلدت على هذه الأرض، وإنما اعتليت أعلى سلالم الفخر لتَنفس نفسي هَواء ذلك الأرخبيل، ومنهج الفخر تولد مع ولادتي من بين أحشاء أُمي لأرخبيل يتوحد شعبه في ظل الطائفة الإنسانية رغم اختلاف مذاهبه وأعراقه..

إنما الهُراء الأَدبي لا يطرأ على سطور كلماتي، وإنما كلماتي متجانسة مع ترياق الواقع الذي أُعاصره.. أُعاصر لحنا صداه يُدمي مسامعي، لحن عزفه إبليس بقوله (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) وتوارثته أجيال الجاهلية حتى أنه أصبح لحنا محبب سماعه.. العنصرية لحن عرفته البشرية مذ ملايين العقود، يُعزف ذلك اللحن الدامي من قيثارات عدة  وما هدفها جميعها إلا اختلاس الإنسانية من تلك الأشياء التي تنبض يساركم..  بين أوتار الدين تندس العنصرية الدينية (الطائفية)، تتحدث باسم الدين مُشعلة الكراهية بين صفوف طوائفه، وتنشر شظايا سُمها بينهم؛ سَعيًا لتفرقتهم وتنهيج عُقولهم على البُغض والكراهية، وبتلك الألحان التي تُراقص بها الطوائف المسلمة تشبع شهوتها الإبليسة، وما الإسلام إلا طُهر مطهر في قدس المحبة والتعايش، وبريء من الطائفية كبراءة الذئب من دم يوسف (ع)..

يزف لنا ديننا الحنيف مجموعة من الأحاديث الشريفة التي تُبرهن على نبذ العنصرية وتؤكد أننا جميعًا منحدرون من ذات الأصل ومتساوون أمام الإله وأنه لا فرق بيننا وكما قال النبي محمد (ص): “لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى”، وكما يتلو علينا كتابنا المجيد آيات تُحقر من شأن العنصرية (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، ورغم البرهان الديني المقدم بين أيدينا إلا أننا لا زلنا نهب أنفسنا ألحان العنصرية ونتراقص عليها..

ذلك اللحن الذي يتخلل عقولنا ويصيبها بوباء معد، يجعلنا لأفعال إبليس فاعلين وكقطيع وراء العنصرية سائرين، كما أن ذلك اللحن يُقنع عقولنا بأن العنصرية مرض يصيب لون البشرة ولكن في الواقع العنصرية مرض يصيب العقل البشري، فلونك الأبيض لن يكون جوازك لدخول الجنة ولونك الأسود لن يزجك في الدرك الأسفل من النار، فقد كان بلال بن رباح أسود حبشيا سمع رسول الله (ص) خشخشة نعله في الجنة، وأبو لهب هاشمي من أشراف مكة وسيد من أسياد قريش (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ)، فكما نشأت العبودية والعنصرية وهيمنت على عالم العرق الأسود سفكها الإسلام بعد ذلك وأراقها..  تزجنا الحياة من بطون أُمهاتنا بين أحضان قبيلة معينة لا نختارها نحن، إلا قيثارة العنصرية تُعزف لحنا قَبليّا مشوقا يُراقص الناس بأسماء قبائلهم، وقد قال رسول الله (ص) في حديثه الشريف: “أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُوهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنَّيِاحَةُ”.  فعندما ندير عقارب الزمن للخلف ونتفقه في قول رسولنا الأمين (ص)، نراه واقعنا اليوم، فالتفاخر بين القبائل جعلنا نتحارب ونتخاصم على من الأعظم، ونسينا أننا جمعينا من تُراب وأنا لا عظمة في التُراب إنما العظمة للعظيم جَل سُبحانه و تعالى، فأسألكم بالله يا معشر قومي أن تقفوا بجانب الإنسان قبل أن تفتشوا في بياناته عن اسم قبيلته، لا تجعلوا القَبَلية تقتل أجمل ما فيكم.. الإنسانية..

تعلمنا مذ كُنا في حضرة البَراءة أن الله خلقنا جميعنا من أصل واحد ألا وهو التُراب، ودرسنا في المدرسة أن الإنسان وإن اختلف شكله أو لونه يبقى، كبقية الرعية له روح وقلب ينبض، وتعلمنا من ديننا الحنيف أننا جميعنا من ذات الأصل (التُراب)، وأنه لا فرق بيننا وإن اختلفنا، فلم نتراقص لقياثير العنصرية ونستمع لألحانها الدامية؟ لماذا لا نصم مسامعنا عن تلك الألحان الدامية، ونصمد أنفسنا عن التراقص لها؟ فما العنصرية إلا قضية اختلاس لإنسانيتنا..

رغم الكتب الثقيلة التي درسناها، ورغم الآيات القرآنية التي تُتلى على مسامعنا، ورغم أصوات الندوات المتعالية ضد العنصرية، ورغم المؤتمرات والمظاهرات الدولية التي تنبذ العنصرية إلا أننا لازلنا واقفين عاجزين أمام العنصرية ولازلنا نهب أنفسنا لها وتتراقص على ألحانها..

لنكن طائفة واحدة متوحدة في الروح الإنسانية، مصمدة العين عن الأصل والعرق، صَمة عن ألحان العنصرية، فبذلك نجسد وطنا يعلو على العُلا بِعُلاه..

في أرخبيلنا سَلامٌ جميل مات في كل بقع الأرض، عازف متنح في زاوية مهجورة يتلو على المدينة آيات تحارب ألحان العُنصرية في كل صباح ومساء، جميعنا نفترش التُراب، سُنة، شيعة، بيضا وسودا، والتَعايش رمز جمعتنا، أكمل لحن آياتك وستُغني لك محبتنا، أأنت هُنا أيها العازف أم أنك طُهر يستوطن عُقولنا؟ لحظة واحدة إنكَ التعايش الذي يُجمل أَرخبيلنا..

إنما تبدأ الآيات وتُتلى، وتتولد الحياة وتُفنى، ويبقى أرخبيل أُوال شامخ في العُلا يَتعلى..

 

فاطمة علي