العدد 6091
الأربعاء 18 يونيو 2025
banner
العمالة والخيانة في قلب الصراع المسلح بين إيران وإسرائيل
الأربعاء 18 يونيو 2025

غدًا تكون قد مضت 7 أيام فقط على اندلاع المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل، وهي فترة قصيرة جدًا يصعب خلالها التوصل إلى استنتاجات حاسمة حول المسار الذي ستتخذه الحرب أو تداعياتها بعيدة المدى، إلا أن المشهد العسكري والتكتيكي الذي تشكّل خلال هذه الأيام القليلة يُظهر بجلاء أن ما يجري الآن يختلف نوعيًا، وربما جذريًا، عن الحروب التي عرفتها منطقتنا والعالم في العقود الأخيرة، أو حتى على امتداد القرن الحالي.

فالحرب الحالية ليست امتدادًا لحرب تقليدية تقوم على المواجهات البرية وحشد الجيوش والدبابات والمدرعات، كما شهدنا في الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات، ولا هي شبيهة بالحرب الروسية الأوكرانية التي ما تزال مشتعلة، بل نحن أمام مشهد تكنولوجي جديد تقوده تقنيات الذكاء الاصطناعي والطائرات المسيّرة والصواريخ فائقة الدقة، في ظل غياب حدود جغرافية مشتركة بين الطرفين؛ ما يُبرز الطابع غير التقليدي للمواجهة ويضعها في إطار حروب الجيل الخامس أو “الحروب عن بُعد”.

لكن ما يجعل هذه الحرب استثنائية فعلًا هو حجم الخسائر التي لحقت بطرفيها في الساعات الأولى. ففي حين تمكنت إسرائيل من تنفيذ ضربات خاطفة ومركزة أصابت رأس القيادة العسكرية الإيرانية وصفوة علماء برنامجها النووي، ودمرت منشآت استراتيجية وقواعد صاروخية ومنصات للطائرات المسيّرة، فإن إيران ردّت بهجوم صاروخي كثيف ومنسق اخترق العمق الإسرائيلي، محدثًا دمارًا واسعًا وخسائر بشرية ومادية، إلى جانب ما سببه من هلع وارتباك داخل الجبهة الداخلية الإسرائيلية.

في هذا السياق، لا يسعنا إلا أن ندين العدوان الإسرائيلي الغاشم على إيران، ونتضامن مع الشعب الإيراني الشقيق في محنته، داعين الله أن يحمي شعوب منطقتنا من امتداد هذه المواجهة إلى حرب إقليمية شاملة قد تأتي على الأخضر واليابس، وتُدخل الشرق الأوسط في نفق مظلم لا يعلم أحد غير الله متى وكيف يخرج منه.

لقد كشفت هذه الحرب، منذ اللحظات الأولى، عن مستوى غير مسبوق من التغلغل الأمني الإسرائيلي في العمق الإيراني، ليس فقط عبر الطائرات والمسيّرات، بل أيضًا من خلال شبكة تجسس معقدة اخترقت مفاصل الدولة الإيرانية، بما في ذلك الأجهزة العسكرية والعلمية والسياسية. فاغتيال محسن فخري زاده في العام 2020 لم يكن سوى حلقة في سلسلة طويلة من العمليات التي استهدفت كبار العلماء والمسؤولين الإيرانيين، وبلغت ذروتها باغتيال رئيس الدولة إبراهيم رئيسي إثر تحطم مروحيته في حادث ما يزال يحمل الكثير من علامات الاستفهام.

كما أظهرت الأحداث اغتيال قيادات غير إيرانية محسوبة على إيران، مثل إسماعيل هنية، في عملية غامضة ومرعبة داخل الأراضي الإيرانية نفسها. وقبلها كان عملاء الموساد قد تمكنوا من سرقة نحو نصف طن من الوثائق النووية السرية ونقلها إلى تل أبيب، في واحدة من أكثر العمليات جرأة في تاريخ التجسس الحديث.

ورغم محاولات إيران المتكررة تأكيد السيطرة على الوضع الأمني، فإن المعلومات المتواترة عن اغتيالات جديدة وعمليات تسلل وتخزين أسلحة إسرائيلية داخل إيران نفسها، تدلّ على خلل هيكلي عميق في منظومتها الأمنية، وهو ما تُرجم إلى ضعف فادح في قدرة الدولة على حماية مواقعها الحيوية وأجهزتها السيادية.

لكن الأمر لم يقتصر على الجانب الاستخباراتي، بل امتد إلى شل قدرات الدفاع الجوي الإيراني، حيث فتحت الثغرات الأمنية الطريق أمام هجمات جوية إسرائيلية دقيقة، مسنودة بمعلومات استخباراتية داخلية؛ الأمر الذي جعل سماء إيران مستباحة منذ الساعات الأولى للهجوم، وأدى إلى تصفية ميدانية لقيادات بارزة، وتعطيل منظومات دفاعية كانت تُعتبر حصينة.

وقد استطاعت إسرائيل، بفضل هذا التغلغل، أن تبني وجودًا فعليًا داخل الأراضي الإيرانية، عبر خلايا نائمة، ومخازن أسلحة، ومنصات إطلاق صواريخ ومسيرات، جرى تجهيزها بعناية مسبقة، وهو ما يعني أن الحرب لم تبدأ من الجو، بل من الداخل، وأن المعركة تدور الآن في قلب إيران كما تدور فوقها.

وإذا كان هذا التغلغل الأمني الإسرائيلي يعبّر عن نجاح استخباراتي باهر من جهة، فإنه من جهة أخرى يكشف عن حالة من الانفصال بين النظام الحاكم في طهران وقطاعات واسعة من شعبه. فأن يتمكّن الموساد من تجنيد هذا العدد الكبير من العملاء والوسطاء والوكلاء من بين الإيرانيين أنفسهم، فإن ذلك يدلّ على هشاشة الجبهة الداخلية، وعلى وجود فجوة خطيرة في العلاقة بين الدولة ومواطنيها، وهي فجوة تستغلها الأجهزة الاستخباراتية الأجنبية بمهارة لتحقيق اختراقات غير مسبوقة.

ولعل أخطر ما في الأمر أن هذه الحرب جاءت لتفضح هذا الانكشاف الأمني المدوي، وتؤكد أن الشعارات الأيديولوجية لا تكفي لبناء دولة حصينة، وأن قوة الخطاب لا تعني دائمًا قوة البنيان الداخلي. فالدولة التي تُخترق من الداخل، وتسقط قياداتها واحدًا تلو الآخر في عقر دارها، لا يمكن أن تصمد طويلًا أمام خصم يتمتع بقدرات استخباراتية وتقنية هائلة.

إن النظام الإيراني، الذي بنى جزءًا من شرعيته على مقاومة إسرائيل ومناهضة “الاستكبار العالمي”، يجد نفسه اليوم محاصرًا بخطايا أجهزته، وعاجزًا عن احتواء تداعيات التصدع الداخلي. وربما تكون هذه اللحظة مناسبة لإعادة النظر، لا في العقيدة العسكرية وحدها، بل في العلاقة بين الدولة والمجتمع، بين السلطة والشعب، وبين الشعارات والواقع.

ومع انكشاف هذا الحجم من العملاء داخل إيران، فإن السؤال الأخطر الذي يجب أن يُطرح اليوم هو: هل ستؤدي هذه الحرب إلى احتقان داخلي يتطور إلى صدام بين الشعب والنظام؟ وهل ستبقى “الهيبة”، التي يُقال إنها نصف الحكم، قائمة بعد كل هذه الإخفاقات الأمنية والسياسية؟ الأيام القادمة وحدها كفيلة بالإجابة.

لقد دخلنا زمنًا جديدًا من الحروب، لم تعد فيه الجبهات تحدّد بالخرائط، بل تُرسم بالمعلومات والاختراقات، ولم تعد القوة العسكرية وحدها هي الحاسمة، بل أصبحت المعلومة والعملاء والتكنولوجيا الدقيقة أدوات الحسم في ساحات القتال. وإيران، رغم صلابة خطابها، تبدو اليوم أقرب ما تكون إلى “بيت من زجاج” وسط عاصفة من نار وتجسس ودمار، حيال ذلك نكرر دعاءنا إلى الله، جلت قدرته، أن يحفظ الشعب الإيراني الصديق من كل سوء ومكروه.

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .