الجامعة العربية ليست “رجلا مريضا” بل أكثر من ذلك، فهل مازال ميثاقها التأسيسي صالحا بعد ثمانين عاما، شهدت منطقتنا العربية فيها أهوالا غير مسبوقة منذ الحروب الصليبية (1095 - 1291) وبعدها الحقب الاستعمارية التي قطعت أوصالها وسلبت ثرواتها؟ ومنذ تأسيس الجامعة العربية في مارس العام 1945 لم يشهد ميثاقها تغييرا يُذكر تحسبا لانقطاع الخيط الرقيق الناظم لعقد الجامعة العربية، وإن كان حقيقة قد قُطع ووصل مراتٍ ومرات، حتى أصبح مجرد عقد اجتماعات دورية رتيبة (بالمعنى العميق لكملة رتيبة) هو هدف في ذاته، ليطغى بذلك الشكل على المضمون.
وإنصافا للميثاق فما حدث ليس لعيب فيه بل لعدم الالتزام به التزاما تاما، بسبب افتئات بعض الدول على أهداف الميثاق أو الالتزام بها اختياريا، أما الأهداف الرئيسة فهي: تعزيز التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والصحية، احترام السيادة الفردية للدول الأعضاء، تسوية النزاعات بالطرق السلمية، ودعم القضايا العربية. السؤال: أين آثار التعاون على الأرض، أما فعاليات “الحكي” عن التعاون فهي كثيرة الزبد قليلة الدسم؟
وإذ سلمنا ألا حراك يُذكر لجامعة الدول العربية ولا تأثير لها على أي مستوى من المستويات ولا أي قضية من القضايا المصيرية أو الجوهرية أو الرئيسة أو الثانوية أو حتى الهامشية إلا فيما ندر، فيصبح من المبرر القول أن الجامعة كائن في غيبوبة؛ هو أقرب إلى الموت منه إلى الحياة. وفي حال دقة هذا التشخيص فيتبدى سؤال: لماذا علينا - كعرب - القبول باستمرار هذا الجمود الذي تغلّب فيه “المظهر” على “الجوهر”، فاستمراره يفوت علينا فرصا ويفاقم المخاطر، ونحن - العرب - نلهج ليل نهار ولعقود بأننا نستطيع أن نُحدث فرقا وأن نكون قوة فعل مؤثرة في حاضر ومستقبل منطقتنا، التي هي قلب العالم؟!
وللتذكير بما خُرقت به جماجمنا تلاميذا ولم نجد له انعكاسا ونحن كبار، أن المنطقة العربية تحتل نحو 10 % من مساحة العالم، وتمثل نحو 6 % من سكانه، وتمثل اقتصادات دولها مُجمعة نحو 3 % من الناتج المحلي الإجمالي العالم، وتقارب البطالة في المنطقة العربية نحو 12 %. وهنا نلاحظ مباشرة أن المنطقة لم تبذل ما يكفي من جهد لتأخذ نصيبها من الاقتصاد العالمي، وهذا مؤشر لتراجع فادح في الإنتاجية بنحو النصف، بمعنى أن على المنطقة أن تضاعف إنتاجيتها ليصبح ناتجها المحلي الإجمالي ضعف ما هو عليه الآن وبذلك تكون بمحاذاة المتوسط العالمي، وهذا سيعني أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي سيتضاعف عما هو عليه حاليا (نحو 6800 دولار)، أي في معدل يقارب أميركا الجنوبية، مع الفارق في الموارد البشرية والطبيعية والموقع الجغرافي المتميز والمزايا النسبية الهائلة. (اقرأ المقال كاملا بالموقع الإلكتروني).
إن كان من إصلاح لجامعة الدول العربية فهو أن تصبح الأهداف طموحة لكن لا تكون شاطحة، وأن تلتف حول تحقيق نجاح اقتصادي، وأن تعاد صياغته ليكون تجمعا اقتصاديا بحتا، فذلك سيعني مصالح يلمسها المواطن والمستثمر، وستكون مستهدفاتها قابلة للقياس، وليست عبارات إنشائية مطاطة أو عبارات سياسية تغلفها لغة زئبقية. قد لا يروق هذا الطرح للبعض، وأتفهم ذلك، لكن مصدر الإحباط المُعاش مرده علو الأهداف وتدني النتائج، ولا يبدو أن مزيدا من الصبر سيأتي إلا بمزيد من التململ، فلكل دولة سيادتها الفردية التي تحرص عليها، أما التعاون الاقتصادي فهذا ما تسعى الدول لتحقيقه، وهذا ما نجد أنه لُبّ ومرتكز وأساس التكتلات الناجحة وتحديدا الاتحاد الأوربي ومجموعة الآسيان، وبعد إثبات فاعلية اقتصادية بوسع التكتل أن يرتقي في تعاونه إلى طموحات أعلى.
لقد عايشنا الحديث عن الإمكانات الاقتصادية للمنطقة العربية لعقودٍ متتابعة، ولم ينقص المنطقة قط قصور في الطموحات والتطلعات أو حتى في الأفكار المُبادرة والبناءة، والتي حفرت طريقا شاقا لتصبح مشاريع تبنتها الدول العربية عبر مؤسساتها وآلياتها، لكنها بقيت وثائق “مُحنطة” كالمومياوات (جمع مومياء)، شاخصة لا حراك لها.
جميعنا يدرك، وقد تكفي الإشارة إلى اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية التي نصت مادتها الأولى على خمس حريات: حرية الانتقال للأشخاص ورؤوس الأموال، وحرية التبادل التجاري للبضائع المحلية والأجنبية، وحرية الإقامة، والعمل، وحرية النقل والترانزيت، وحقوق التملك والإيصاء والارث. وقد نتج عن الاتفاقية قرار إنشاء السوق العربية المشتركة، بالعام 1964، ونص على حرية انتقال الأشخاص ورؤوس الأموال وتبادل البضائع والمنتجات الوطنية والأجنبية والإقامة والعمل وممارسة النشاط الاقتصادي والنقل والترانزيت والتملك والارث، لكن السوق لم تر النور قط.
ليس القصد جلد الذات، بل هو تمهيد للقول بأن الوقت حان، بعد كل ما عاشته منطقتنا وتعايشه، أن نراجع الإرث الذي لم يتحقق حتى الآن، والذي تقادم جزء منه، والاتجاه لولادة ثانية للجامعة العربية أخذا في الاعتبار التغييرات المزعزعة التي اجتاحت العالم ليس فقط اقتصاديا وماليا بل حتى اجتماعيا وتقنيا، فضلا عن التخرصات الجيوسياسية، ولادة تقوم على الالتزام الجاد بتنفيذ أهداف ملموسة، يلمسها المواطن العربي في جودة حياته وسبل معيشته، وفق جدول زمني، وليس مجرد الحديث عن الأهداف في الاجتماعات، وما أكثرها.