العدد 6056
الأربعاء 14 مايو 2025
banner
هكذا يولد الابتكار من رحم “الفشل الذكي”
الأربعاء 14 مايو 2025

 تمامًا كطائر صغير يجد في قشرة البيضة سجنًا مؤقتًا، يجهد بكل قوته ليحطم قيود البدايات وينطلق نحو فضاء أوسع، هكذا هي رحلة النمو والابتكار لحظة الكسر، لحظة الخروج إلى النور، غالبًا ما تكون مصحوبة بجهد مضنٍ، وربما بسقوط مؤقت قبل أن تستقر الأقدام على الأرض الصلبة. السقوط الأول، ليس علامة ضعف، بل هو المخاض الضروري لولادة قوة جديدة، لرؤية أوضح، ولاعتماد أعمق على الذات. فبعد الخروج المضني، يبدأ الطائر رحلة استكشاف العالم، يتعلم كيف يلتقط طعامه، وكيف يحتمي من المخاطر. وفي سعيه نحو التحليق، يرفرف بجناحيه الصغيرين بعزيمة، غير عابئ بالسقوط الأول أو الثاني أو حتى العاشر. كل سقوط هو درس جديد، كل محاولة فاشلة تقوي عضلاته وتصقل إرادته، تقربه خطوة نحو الهدف المنشود: التحليق بحرية في سماء الإبداع والنجاح.
هذه الصورة الحية، هذه الرحلة الفطرية نحو النمو والتحرر، تحمل في طياتها جوهر فلسفة “الفشل الذكي” التي نسعى لتسليط الضوء عليها في عالم السياسة والاقتصاد. ففي هذا العالم المعقد، حيث القرارات المصيرية تشكل حياة الملايين، غالبًا ما تكون المخاطر هائلة، والاحتمالات متعددة، فالقادة الذين يتبنون هذا المنهج، كذاك الطائر الصغير، لا يخشون اتخاذ خطوات جريئة أو تجربة سياسات جديدة، ولكنهم في الوقت نفسه يمتلكون آليات رصد وتقييم دقيقة لنتائج هذه التجارب. وعندما تظهر ثغرات أو أخطاء، لا يترددون في الاعتراف بها وتصحيح المسار بسرعة وشفافية، مستلهمين عزيمة الطائر في معاودة المحاولة بعد كل سقوط. هذه المرونة والقدرة على التعلم من الأخطاء هي ما يميز القادة الحقيقيين القادرين على قيادة دولهم نحو التطور والازدهار.

الأمر ذاته ينطبق على عالم الاقتصاد، ساحة المنافسة الشرسة والابتكار المتسارع. الشركات الناجحة ليست تلك التي لم ترتكب أخطاء قط، بل هي التي تعلمت أسرع من منافسيها، تمامًا كالطائر الذي يقوي جناحيه بتكرار المحاولة. قصة “APPLE” مليئة بالإخفاقات قبل أن تحقق النجاحات الباهرة التي نعرفها اليوم. لقد تعلم ستيف جوبز وفريقه من كل منتج لم يحقق الانتشار المطلوب، وحولوا تلك الدروس القاسية إلى أساس لابتكارات غيّرت وجه التكنولوجيا من “الفشل الذكي”، يعني تحليل أسباب الإخفاق واستخلاص رؤى قيمة وتطبيق هذه الرؤى في تطوير منتجات وخدمات أفضل، تمامًا كما يستفيد الطائر من كل سقوط لضبط تقنية تحليقه.
“الفشل الذكي” لا يقتصر على النُخب أو المؤسسات الكبرى. إنه منهج يمكن أن يتبناه كل فرد في حياته، خصوصًا في مسيرته المهنية. قد يجد الموظف المبتكر نفسه في بداية حياته المهنية في مسار وظيفي لا يلائم طموحاته أو قدراته الحقيقية، وكأنه طائر يحاول الطيران بجناح لم يكتمل نموه بعد. قد يتعرض لتجارب يعتبرها “فشلًا وظيفيًّا” - عدم الحصول على الترقية المنشودة، عدم الانسجام مع ثقافة المؤسسة، أو حتى فقدان الوظيفة. هنا، يكمن الخطر الحقيقي في الاستسلام لهذا الشعور واعتباره وصمة عار تلاحقه. هذا هو الفشل الأكبر، أن يسمح الشخص لتجربة سلبية في بداية الطريق بتحديد مساره المهني بأكمله، بدلًا من استغلالها كفرصة لتقوية جناحيه والانطلاق في مسار جديد.
 على النقيض من ذلك، فإن تبني “الفشل الذكي” في هذا السياق يعني استغلال هذا “السقوط” كفرصة لإعادة تقييم الذات، وتحديد نقاط القوة والضعف، وفهم الأسباب الحقيقية لعدم التوفيق في التجربة السابقة، تمامًا كما يحلل الطائر أسباب سقوطه لضبط حركته في المحاولة التالية. إنها فرصة لإعادة رسم المسار الوظيفي بوعي أكبر، واستكشاف خيارات جديدة تتناسب مع المهارات والميول الحقيقية. بدلًا من الانسحاب والانزواء، يمكن للفرد الطموح أن يستخدم هذه التجربة كوقود للتعلم والنمو، وأن يعود إلى حلبة المنافسة بصلابة أكبر ورؤية أوضح، مصممًا على أن يصبح ذلك الطائر الذي يحلق عاليًا بعد أن تعلم من كل سقوط كيف يقوي جناحيه. إن قهر فكرة الفشل كوصمة عار وتحويلها إلى نقطة قوة هو الانتصار الحقيقي الذي يقهر به الفرد تحدياته ويحقق النجاح الذي يستحقه.
إن تبني فلسفة “الفشل الذكي” يتطلب ثقافة مؤسسية ومجتمعية تحتفي بالتعلم والتجريب، وتشجع على الشفافية والاعتراف بالأخطاء دون خوف من العقاب. إنها ثقافة تقدر الشجاعة في المحاولة والقدرة على التحول والتكيف. عندما ننظر إلى الأخطاء كفرص للنمو بدلًا من نهايات للطريق، فإننا نفتح الباب واسعًا أمام الإبداع والابتكار، ونسرع خطواتنا نحو تحقيق النجاح المنشود، سواء على المستوى الشخصي أو الوطني. ففي نهاية المطاف، قد يكون السقوط أحيانًا هو أقصر الطرق نحو القمة، إذا تعلمنا كيف نصعد عليه بذكاء وتبصر، وبإصرار على تحويل كل “فشل” إلى وقود للنجاح القادم، محلقين في سماء الإنجاز كطائر تعلم أخيرًا كيف يكسر قيود البدايات ويستثمر كل رفرفة جناح، حتى تلك التي انتهت بسقوط مؤقت.

كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية