ليست الفلبين مجرد أرخبيل من سبعة آلاف جزيرة، بل ذاكرة بحرية تحلم بتحويل الزرقة إلى اقتصاد مستدام يعيد تشكيل علاقة الإنسان بالمحيط. في السنوات الأخيرة، برز ما يُعرف بـ”الاقتصاد الأزرق” كخيار استراتيجي يتجاوز الصيد والسياحة نحو الطاقة والتكنولوجيا، ليس لتعزيز دخل الدولة فحسب، بل لإعادة تعريف مفهوم التنمية انطلاقًا من البحر.
برعاية حركة إعادة إعمار الريف الفلبينية، وهي أقدم منظمة تنموية مدنية في البلاد، وبالشراكة مع مبادرة إرث فيدل راموس (FVR Legacy Initiative)التي تخلّد فكر الرئيس الفلبيني الراحل الداعم للإصلاح البيئي، اجتمع ممثلو القطاعات البيئية والاقتصادية والمجتمعية في حوار وطني فريد من نوعه، محوره صياغة خريطة طريق لسياحة بحرية مستدامة تنبع من شراكة بين الإنسان والمحيط، لا من استغلاله.
تضمن النقاش أربع ورش عمل محورية: استدامة مصايد الأسماك، وتطوير تربية الأحياء المائية، والنقل البحري منخفض الانبعاثات، والسياحة الساحلية المسؤولة. ليست مجرد محاور تقنية، بل منظومة تعكس فلسفة الاقتصاد الأزرق في أن يكون الربح ناتجًا عن الانسجام مع الطبيعة، لا التعدي عليها.
ووفقًا لتقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة لعام 2022، فإن السياحة الساحلية المستدامة قد تدر على الدول النامية أكثر من 60 مليار دولار أميركي سنويًّا، إذا ما تم اعتماد سياسات تحافظ على التوازن الإيكولوجي. في حين حدد البنك الآسيوي للتنمية حاجات الفلبين من الاستثمارات البيئية الساحلية بنحو 1.2 مليار دولار أميركي سنويًّا لدعم البنية التحتية وتحقيق الانتقال إلى اقتصاد بحري مستدام.
لكن جوهر التجربة لا يكمن فقط في الأرقام، بل في مقاربتها الأخلاقية والاجتماعية. ليزا ليم، مديرة معهد النظام الاجتماعي في مانيلا، حذّرت من أن بعض مشاريع السياحة الضخمة تُهجر فيها المجتمعات الفقيرة لإفساح المجال للمنتجعات، ما يحوّل التنمية إلى شكل جديد من الإقصاء. في المقابل، دعت ريبيكا مالاي، أمينة صندوق حركة إعادة إعمار الريف الفلبينية، إلى وضع المجتمعات المحلية في قلب التخطيط، لا في هوامشه، لتكون التنمية أداة لتمكينهم لا لمحوهم.
هذه الرؤية تلامس طموحات دول الخليج العربية في التحول نحو اقتصاد أخضر، وهي دعوة للاستثمار في مشروعات تُمزج فيها الربحية بالمسؤولية، مثل تطوير البنية التحتية الساحلية، أو بناء منتجعات تعتمد على الطاقة المتجددة، أو دعم التعليم البيئي المجتمعي.
لا تحلم الفلبين بلون البحر هروبًا من أزماتها، بل إيمانًا بأن مستقبلها يُكتب في الزرقة لا على اليابسة. إنها لا تطرق باب الخليج طلبًا للتمويل، بل تدعوه إلى شراكة تاريخية في بناء اقتصاد بحري يعيد التوازن بين الإنسان والمحيط. فالمحيط لا يستجدي المعونة، بل ينتظر استثمارًا بصيرًا. فهل يختار الخليج أن يكون حليفًا للنجاة... أم شاهدًا على الغرق؟.
* صحفي وكاتب إندونيسي، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور