في زمنٍ تُعاد فيه صياغة الجغرافيا الاقتصادية بخطّ السياسة ومداد الاستثمار، لا تكتفي إندونيسيا بأن تكون رقما في معادلة، بل تسعى لكتابة المعادلة ذاتها. ففي المنطقة الاقتصادية الخاصة (باتانغ) Batang Industrial Special Economic Zone (SEZ)، تلك الأرض الوارفة في قلب جزيرة جاوة الوسطى، ينهض هذا المشروع الاستراتيجي الذي لا يرمي إلى البناء فحسب، بل إلى تثبيت موطئ قدم في دفتر التحولات الإقليمية. إنه ليس تدشينًا تقنيًا بقدر ما هو إشهار عملي بأن إندونيسيا بدأت، بوعي وتصميم، تنقش خريطة النمو بنفسها. المنطقة، المعروفة باسم “منطقة باتانغ الصناعية المتكاملة”، ليست مشروعًا محليًا فحسب، بل تمثل حجر زاوية في مبادرة “دولتان، حديقتان توأمان” التي تربط إندونيسيا بالصين، والتي تهدف إلى خلق بيئة استثمارية متكاملة تسهّل نقل التكنولوجيا، وتضمن تدفق رأس المال، وتربط سلاسل التوريد بين البلدين. وزير الشؤون الاقتصادية الإندونيسي إيرلانغا هارتارتو، أشار في كلمته الافتتاحية إلى أن هذا التعاون مع الصين من شأنه “تعزيز القطاعات الصناعية الاستراتيجية وجذب استثمارات أوسع نطاقا”. البيئة في باتانغ مهيأة اليوم للمستثمرين الخليجيين الباحثين عن أسواق ناشئة تتسم بالإعفاءات الضريبية، والبنية التحتية المخصصة، والأيدي العاملة الشابة. وبحسب تقرير حديث لشبكة “آسيان بريفينغ”، تقدم المنطقة حوافز للمستثمرين تشمل إعفاءات ضريبية تصل إلى عشر سنوات، وتسهيلات جمركية، ومساحات صناعية مخططة بدقة لخدمة الصناعات الثقيلة والتكنولوجيا المتقدمة.
كما أفادت وكالة “بلومبيرغ” بأن المنطقة جذبت بالفعل شركات عالمية مثل “إل جي”، و “فوكسكون”، و “وولينغ متوتورز”؛ ما يعزز جاذبيتها كمحور صناعي في جنوب شرق آسيا. ومن جانب آخر، سجلت إندونيسيا نموا ملحوظا في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، حيث بلغت 50.3 مليار دولار خلال العام 2023، بزيادة تجاوزت 13 % مقارنة بالعام 2022، وفقا لبيانات الهيئة الإندونيسية لتنسيق الاستثمار.
وتشكل باتانغ نافذة استثمارية واعدة أمام دول الخليج، خصوصا في مجالات ذات مستقبل متسارع كالصناعات الدوائية، والمركبات الكهربائية، والطاقة المتجددة. فالموقع الجغرافي الحيوي لإندونيسيا، مقرونا بانخراطها الفاعل في اتفاقيات رابطة الآسيان، يمنحها ميزة تنافسية كبوابة عبور طبيعية نحو سوق إقليمية ضخمة يتجاوز عدد مستهلكيها 600 مليون نسمة؛ ما يجعل الاستثمار هناك خطوة استراتيجية مدروسة. لم تعد إندونيسيا هامشا في دفاتر المستثمرين، بل باتت نصا أساسيا في رواية الاقتصاد الآسيوي الجديد.
باتانغ ليست مجرد موقع، بل توقيع على عقدٍ مع المستقبل. والخليج، بذكائه المالي ورؤاه العابرة للحدود، مدعو للانخراط في هذا النص. فها هي إندونيسيا تنقش خريطة النمو، بأحرف من فولاذ، وأفق لا يعرف السكون.
* صحفي وكاتب إندونيسي، مهتم بشؤون منطقة جنوب شرق آسيا، مقيم في كوالالمبور