لم أستسغ أبدا انتقاد الرئيس ترامب على رؤوس الأشهاد لرئيس الاحتياطي الفدرالي جيوم باول، فذلك يلحق ضررا بكل من يحمل دولارا أو يتعامل به، وإن معركة الرئيس مع باول ستجلب للرئيس وللاقتصاد الأميركي مزيدا من الضبابية، فضلا عن أنها معركة ستستهلك الكثير من الهيبة العالمية للاقتصاد الأميركي.
تحدث رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول الأسبوع الماضي (16 أبريل) في نادي شيكاغو الاقتصادي، عن النظرة الاقتصادية وسياسة النقد وتأثير سياسات الرسوم الجمركية للرئيس دونالد ترامب، مذكرا التزام الاحتياطي الفيدرالي بالتفويض المزدوج لتحقيق الحد الأقصى من التوظيف واستقرار الأسعار وسط عدم اليقين الاقتصادي الناتج عن سياسات الرسوم الجمركية العدوانية لترامب. ولم يشكك باول في أن الاقتصاد الأميركي لا يزال قويا، مستشهدا بسوق عمل قريب من التوظيف الكامل (full employment)، وتضخم أعلى من هدف 2 % لكنه في تراجع، محذرا من أن الرسوم الجمركية المتصاعدة قد تؤدي إلى زيادة التضخم وتباطؤ النمو الاقتصادي؛ ما يشكل تحديات للسياسة النقدية. أما ما كان مستفزا للرئيس ترامب، فهو تشديد السيد باول على استقلالية الاحتياطي، مشيرا إلى أنه يعتمد على البيانات الاقتصادية وليس الضغوط السياسية، وهو في وضع “انتظار وترقب” لتقييم تأثير التغييرات السياسية قبل تعديل أسعار الفائدة. كما تناول تقلبات السوق، واصفا إياها برد فعل منطقي لتغيرات سياسة التجارة التي أحدثها الرئيس، وأنها ليست أزمة تتطلب تدخلا فوريا.
ما يستفاد من حديث باول وسط التجاذب بينه وبين الرئيس ترامب جملة من النقاط:
1. التفويض المزدوج: يركز الاحتياطي الفيدرالي على تحقيق التوظيف الكامل واستقرار الأسعار، على الرغم من التحديات الناتجة عن الرسوم الجمركية. سوق العمل في حالة جيدة، والتضخم أعلى من 2 % لكنه تراجع عن ذروته.
2. مخاطر التضخم بسبب الرسوم: حذر باول من أن الرسوم الجمركية “الأكبر من المتوقع” قد ترفع التضخم بشكل مؤقت أو مستمر؛ ما يصعب تثبيت توقعات التضخم.
3. مخاوف تباطؤ الاقتصاد: قد تؤدي الرسوم إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وزيادة البطالة؛ ما يبعد الاقتصاد عن أهداف الاحتياطي.
4. نهج الانتظار: لن يتعجل الاحتياطي تعديل أسعار الفائدة، وسيظل عند 4.25 % - 4.5 % في اجتماع مايو 2025، بانتظار وضوح تأثير سياسات التجارة والهجرة والمالية؛ ما جعل ترامب يعلق لاحقا بأن باول بطيء.
5. استقلالية الاحتياطي: أكد باول على استقلالية الاحتياطي قانونيا، مؤكدا أن السياسة النقدية تعتمد على البيانات وليس السياسة؛ ما استدعى أن يعلق ترامب بأن بوسعه إزاحة باول إذا ما أراد ذلك. لكن إن قرر الرئيس أن يتدخل في السياسة النقدية فخسائر أميركا ستكون فوق التصور، وستلحق أضرارا بعملتها “الدولار”، وفي كفاءة قطاعها المصرفي إجمالا، وسيعني ترجل السياسة النقدية الأميركية من على سنام الرصانة والسعي للتوازن؛ ما قد يؤدي إلى تراجع الإقبال على السندات الحكومية باعتبار أنها ملاذ عند الهزات.
6. تقلبات السوق: وصف تقلبات السوق بأنها استجابة منطقية لتغيرات سياسة التجارة، وليست أزمة تتطلب تدخلا فوريا.
7. قضايا ناشئة: أشار إلى إمكانات الذكاء الاصطناعي في تغيير الاقتصاد العالمي وضرورة تنظيم العملات الرقمية، خاصة العملات المستقرة.
عكس حديث باول نهجا حذرا وسط مخاوف نشوب حرب تجارية تقرع طبولها، دون مؤشرات واضحة لخفض الفائدة قبل يونيو 2025 ما يضع ترامب أمام تحدي مزدوج: الصين والاحتياطي الفدرالي، ومعضلته أن ليس بوسعه فتح مجابهة شاملة مع أي منهما، والسبب: أن نشوب حرب تجارية مع الصين ستحدث كدمات في الاقتصاد الصيني لكنها خسائر أميركا ستكون أكبر في المدى القصي والمتوسط.
وفي ظني أن حرب ترامب مع بأول أكثر ضراوة، فأي تدخل من طرف الرئيس في السياسة النقدية سيجعل متانة السياسة النقدية الأميركية في مصاف دول العالم الثالث! وتتبخر الثقة العالمية في الاحتياطي الفدرالي ومعها موجة بيع حادة لسندات الخزانة الأميركية؛ ما يعني في الأجل القصير أن تعاني الحكومة في بيع أذوناتها من جهة وتدفع تكاليف متصاعدة فوائدا لحامليها! فضلا عن أن التدخل السياسي من قبل الرئيس وفريقه في السياسة النقدية سيعني توجيهها نحو النمو (طبع المزيد من النقود) على حساب ضبط التضخم؛ ما يعني أن السياسة النقدية ستصبح أداة لتمويل العجز المالي وليس أداة هدفها استقرار الاقتصاد.
وما يزيد الطين بلة على ترامب أن رئيس الاحتياطي الفدرالي الأميركي جيروم باول ليس وحيدا في قلقه من الضبابية التي أحدثتها تقلبات سياسات الرسوم الجمركية، وانعكاساتها على الاقتصاد الأميركي، فقد انضمت إليه السيدة لاجارد رئيس البنك المركزي الأوربي. فعلى الرغم من خفض البنك سعر فائدة اليورو بمقدار 25 نقطة أساس، لكنها كانت ترغب في تخفيض قدره 50 نقطة أساس. أما ما منعها من ذلك فهو “الضبابية” التي تحف ليس فقط بالتجارة العالمية بل بآفاق نمو الاقتصاد العالمي، وفيما يخص الاتحاد الأوربي فقد سجلت الولايات المتحدة عجزا تجاريا قدره 236 مليار دولار في العام 2024، وأن الرئيس ترامب فرض تعرفة جمركية 10 % على الواردات من الاتحاد.