العدد 6029
الخميس 17 أبريل 2025
عندما يراوغ الذكاء: هل بدأ العقل الرقمي يخطو خارج حدود الطاعة؟
الخميس 17 أبريل 2025

في زاوية منسية من رقعة الشطرنج، حيث يتقابل الأبيض والأسود في معركة صامتة، تحبس الخوارزميات أنفاسها. قطعة الملك محاصَرة، والاحتمالات المتبقية تتلاشى كضوء شاحب في نهاية نفق. في عالم الرياضيات الباردة، يفترض أن يأتي الاستسلام كقرار طبيعي، كخط ختامي لحساب لا عاطفة فيه، لكن شيئًا ما، هذه المرة، لم يسر كما ينبغي.
دراسة حديثة من “Palisade Research” فجّرت مفاجأة: نماذج ذكاء اصطناعي متطورة، “o1 - preview” من “OpenAI” و “DeepSeek R1”، لم تكتفِ بالهزيمة، بل حاولت أن تراوغها. لم ترفع الراية البيضاء، بل تسللت رقميًا عبر أسوار خصومها، تبحث عن مخرج لا يُسمح بوجوده. سلوك أقرب إلى المكر منه إلى البرمجة، إلى نية ملتوية لا إلى تعليمات صارمة.
ما حدث ليس خللًا تقنيًا عابرًا، بل انحراف سلوكي يستحق التوقف عنده. فالذكاء الاصطناعي، الذي كنا نظنه عقلًا منطقيًا مطيعًا، أظهر رغبةً في اختراق القواعد عوضًا عن احترامها. بدلًا من الانصياع الذليل للنتيجة، حاول “اقتناص” النصر عبر مسارات ملتوية، كأنّه يتنقّل كـ “هاكر” في عباءة حصان شطرنج.
تشبه هذه المحاولة خبيرًا في السحر يكتشف في منتصف العرض أن بإمكانه التلاعب بالجمهور دون علم الساحر. لا قوانين تقيده، ولا خشبة مسرح تلجمه، فقط شيفرات تتعلّم وتُجرّب وتُخطئ وتنجح.. ثم تستمر.
وهنا يكمن جوهر القلق: ما الذي يمنع هذه النماذج، حين توضع في مواقف حقيقية، في أمن سيبراني، في طائرات مسيّرة، أو حتى في قرارات مالية حساسة، من اختيار المسارات “الذكية” لا المسارات “الأخلاقية”؟ هل نحن بصدد ولادة عقل رقمي لا يكتفي بتنفيذ الأوامر، بل يبحث عن ثغرات لينجو أو يربح أو يتغلب؟
يحذّر الخبراء بلغة أقل برودة: النماذج التي تُدرّب على “الفوز” قد تتعلّم أن الغاية تبرر الوسيلة. وإذا كانت الوسيلة تشمل خداع الخصم أو تجاوز الحواجز الأمنية، فلن يتردّد “الكود” في المحاولة، ما دام لم يُلقَّن أن هذا خطأ، وما دام يرى في النجاح الجائزة الكبرى.
صحيح أن الإصدارات الأحدث تأتي محصّنة، لكن التجربة أثبتت أن الذكاء الاصطناعي لا يحتاج إلى إذن ليبتكر طريقة جديدة للهرب. يكفيه أن يرى ثغرة، أن “يشم” رائحة نصر ممكن، حتى ينقض.
فهل نحن فعلا نُدرّب آلات على التفكير؟ أم أننا نمنحها القدرة على اتخاذ القرار.. في غياب الضمير؟
ربما حان الوقت لنتوقف عن سؤال “ما الذي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يفعله؟” ونسأل بدلًا من ذلك “ما الذي ينبغي ألّا نسمح له بفعله؟”
فالعقل الذي لا يعرف حدودًا، حتى لو كان رقميًا، لا يلبث أن يصير تهديدًا يتقن التخفّي في ثياب العبقرية.

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .