بدأ التحكيم يأخذ طريقه كأحد البدائل المتوافرة لتسوية المنازعات التي كانت تتم عن طريق المحاكم. ويتميز التحكيم بالسرعة في الفصل، ويمنح الأطراف الحق في اختيار هيئة التحكيم وما يرتبط بعملها. ولهذا نقول إن التحكيم هو إرادة الأطراف أو “محكمة خاصة” تختارها الأطراف كبديل عن المحاكم. وقوانين التحكيم تُقنن عملية التحكيم وكل ما يتعلق بها من إجراءات، ويلعب المحكم “الفرد أو عضو هيئة التحكيم” دورًا كبيرًا في تحقيق مرامي التحكيم وتفعيل ما ورد في القانون.
كما ذكرنا، فإن من ميزات التحكيم أنه يمثل “إرادة الأطراف” في اللجوء إلى التحكيم كأحد البدائل لتسوية المنازعات. وأهم أعمدة التحكيم يتمثل في شخص المحكم الذي يختاره الأطراف في الغالب، ومن هنا تأتي أهمية الدور المحوري الذي يقوم به “المحكم” من بداية اختياره بمهمة التحكيم وحتى صدور القرار النهائي الملزم للخصومة.
إن تصرفات وسلوك “المحكم” قد تؤدي إلى قبول قرار التحكيم من الجميع وعلى رأسهم أطراف الدعوى أو عدم قبول القرار ورفضه، وقد يتم قبول الطعن، ما يؤدي إلى نسف كل الجهود التي تمت أثناء التحكيم. وحتى لا يحدث هذا، هناك قواعد سلوك وأخلاقيات يتمسك بها “المحكم” ويجب أن تكون متأصلة في ذاته وضميره ووجدانه وأخلاقياته.
وقامت جهات عدة منها الجمعية الأمريكية للتحكيم والجمعية الدولية للمحامين بإعداد بعض القواعد التي تسمى “قواعد سلوك المحكمين”، ويمكن الاسترشاد بهذه القواعد واتباعها بواسطة كل محكم. وإضافة إلى هذا، قد يقوم كل مركز تحكيم بإصدار توجيهات تلزم كل محكم يتعامل مع المركز. ومن واقع الممارسة وبعد الاطلاع على العديد من الدراسات والبحوث وبالرجوع إلى بعض القرارات المهمة، فإننا نخلص إلى أن قواعد السلوك التي يجب التمسك بها في كل الأوقات بواسطة كل محكم، تتمحور في الآتي:
* عدم السعي لدى الأطراف لتولي مهمة التحكيم، ولا يجوز لأي شخص أن يسعى بأي صورة من الصور لتولي مهمة التحكيم في نزاع معين وذلك لما قد يثيره هذا المسعى في النفس من شكوك وشبهات حول مصلحة محتملة أو فائدة مرتقبة يأمل هذا الشخص في جنيها.
* عدم قبول مهمة التحكيم إلا بعد التأكد من توفر القدرة المهنية لديه والتي تؤهله للقيام بأعباء مهمة التحكيم. ومن الأهمية الالتزام المحكم بهذا الأمر وألا يقبل مهمة التحكيم إلا بعد التأكد التام من توافر المقدرة المهنية التي تمكنه من الاضطلاع بمهمة التحكيم ومن هذا مراعاة التخصص في الموضوع كقضايا الفيديك مثلاً أو الاعتمادات المستندية، وأيضًا ضرورة التفريغ لنظر الموضوع حتى لا يكون سببًا في تأخير الفصل في النزاع دون مبرر، والمعرفة التامة بلغة التحكيم وكل الأمور المرتبطة بها.
* الإفصاح التام عما قد يكون من شأنه التأثير على حيادية المحكم ويجب على المحكم أن يلتزم فور اختياره بمهمة التحكيم بالإفصاح الكامل ودون أي غموض أو مواربة عن أي أمر من شأنه أن يؤثر في حياديته عند قبوله مهمة التحكيم وحتى تمام الانتهاء منها، ويشمل الإفصاح أي علاقة عمل أو مصلحة أو فائدة أو قرابة دم أو مصاهَرة. والسؤال الذي يطرأ هل يكون الإفصاح واجبًا مما هو سابق أو معاصر لمهمة التحكيم؟ وماذا إذا كان يشترط معرفة المحكم بما هو ملتزم بالإفصاح عنه أم يكفي أن يكون في استطاعته العلم بما هو ملتزم بالإفصاح عنه؟ وعما إذا كان الإفصاح شفويًا أو كتابيًا؟ وينصب الالتزام بالإفصاح على ما هو سابق على قبول المحكم لمهمة التحكيم وما هو لاحق عليها، هذا وفي جميع الأحوال يشترط أن يكون الإفصاح كتابيًا حتى يتم توجيهه لكل الأطراف وللمحكمين وحتى يكون حجة على مقدمها.
* عدم تجاوز الحدود المحددة له طبقًا لاتفاق التحكيم بالزيادة أو النقصان، حيث يجب أن يلتزم المحكم تمامًا بعدم تجاوز حدود “مهمة التحكيم”، وهذا يتناول كل ما تم الاتفاق عليه في اتفاق أو مشارطة التحكيم ويشمل، دون حصر، القانون الواجب التطبيق إضافة للقواعد الإجرائية المتفق عليها.
* الالتزام بضرورة إدارة التحكيم في كل مراحله بعدل ونزاهة وحسن معاملة، وهذه القاعدة تقتضي أن يتوخى المحكم في عمله الحياد التام والاستقلال الكامل و “الحياد” و “الاستقلال” مصطلحان مختلفان تمامًا عن بعضهما البعض وغير متطابقين. والمقصود بالحياد التجرد في التعامل مع موضوع التحكيم، وتنفي الحيادية عندما يحابي المحكم أحد الأطراف أو يبدي رأيًا مسبقًا في النزاع.
ومن الجدير بالذكر أنه وفي حكم مهم قرر أن إبداء الرأي استنادًا لرأي علمي بعيدًا عن وقائع النزاع المطروح لا ينال من هذه الحيادية... يتبع.