+A
A-

نقص البحارة.. أزمة تضرب صميم صناعة الشحن العالمية

يعد قطاع الشحن البحري شريانًا حيويًا للاقتصاد العالمي. ومع ذلك، يواجه هذا القطاع تحديات متزايدة تهدد كفاءته واستدامته، مما يفرض ضرورة التعامل معها بحلول مبتكرة.

تشمل هذه التحديات التغيرات المناخية واشتداد الأعاصير، التي تؤثر على أمان الرحلات البحرية، إلى جانب ضغوط بيئية متزايدة تدفع نحو خفض انبعاثات الكربون واعتماد تقنيات صديقة للبيئة، فضلاً عن التأثيرات المتزايدة للتوترات الجيوسياسية في عديد من المناطق الرئيسية.

أزمة أخرى تعد واحدة من أكبر التحديات التي تواجهها الصناعة هي أزمة "نقص الكوادر" العاملة بالقطاع، وهي الأزمة التي أبرزها تقرير لشبكة "سي إن بي سي" الأميركية اطلع موقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" عليه.

وبحسب التقرير، فإن صناعة الشحن تواجه نقصًا عالميًا في البحارة، وهو ما يؤدي إلى مزيج مثير للقلق من السير الذاتية المزيفة، والحوادث في البحر، وارتفاع أسعار الشحن.

وقال كبير محللي التوظيف في شركة درويري، ريت هاريس:

"لقد شهدنا نقصًا مستمرًا في عدد البحارة".

على الرغم من أن عدد السفن ارتفع في السنوات الأخيرة بشكل كبير، بالآلاف سنويًا، إلا أن نمو القوى العاملة اللازمة لهذه السفن لم يواكب هذا النمو.

صار يتعين على الشركات توظيف البحارة الذين لديهم خبرة أقل مما يرغبون فيه بشكل مثالي.

ووفق التقرير، فإنه في الوقت الحاضر، أصبح الشباب يعطون الأولوية للتوازن بين العمل والحياة، ولا يرغبون في الالتزام بمهنة تتطلب فترات طويلة بعيدًا عن المنزل.

وقال خبراء أيضاً إن هجمات الحوثيين في البحر الأحمر والحرب في أوكرانيا، من العوامل التي أدت إلى تأثير غير مباشر على توافر البحارة المهرة.

ونقل التقرير عن رئيس قسم الأبحاث العالمية في شركة فيرتي ستريم، دايجين لي، قوله: "لقد زودت كل من أوكرانيا وروسيا بالكثير من البحارة المحترفين.. ومع ذلك، فإن الصراع بين أوكرانيا وروسيا أدى بالفعل إلى تقليص إمدادات البحارة من كلا البلدين، حيث يواجهان نقصًا عامًا في العمالة بسبب الحرب".

تعد الفلبين والصين وروسيا وأوكرانيا وإندونيسيا أكبر موردي البحارة في العالم، وفقًا لتقرير تفصيل القوى العاملة للبحارة الأخير الذي أصدرته غرفة التجارة الدولية (ICS) وBIMCO في العام 2021.

قبل الحرب في أوكرانيا كان البحارة الروس والأوكرانيون يشكلون ما يقرب من 15 بالمئة من القوى العاملة في مجال الشحن العالمي ، بحسب بيانات ICS.

تتوقع ICS عجزًا قدره 90 ألف بحار مدرب بحلول عام 2026. وقالت منظمة الشحن: "يحتاج صناع السياسات إلى وضع استراتيجيات وطنية لمعالجة نقص البحارة".

وقال رئيس مجلس إدارة ICS، جيمس هاردين: "من الضروري أن نعمل بنشاط على توظيف قوة عاملة أكثر تنوعًا إذا أردنا تلبية النقص في البحارة اللازمين للحفاظ على ازدهار الصناعة، فهو أحد أكبر التحديات التي تواجه صناعتنا في الوقت الحالي".

لم تعد مهنة جذابة

وقال هنريك جينسن، الرئيس التنفيذي لشركة دانيكا كروينج سبيشاليستس جروب، وهي شركة دولية متخصصة في خدمات التوظيف والتعيين البحري، إن العاملين البحريين الحاليين يختارون أيضًا المزيد من الوظائف على الشاطئ بدلاً من الذهاب إلى البحر. وعلاوة على ذلك، فإن تراجع جاذبية مهنة البحرية لدى الأجيال الأصغر سنًا قد يكون المسمار الأخير في نعش هذه المهنة.

في الماضي، كانت رواتب البحارة مرتفعة بما يكفي لجعلها خيارًا جذابًا ماليًا. ولكن في الوقت الحاضر، يعطي الشباب الأولوية للتوازن بين العمل والحياة ولا يرغبون في الالتزام بمهنة تتطلب فترات طويلة بعيدًا عن المنزل.

بالنسبة لأولئك الذين نشأوا مع الإنترنت والهواتف في متناول أيديهم، فإن الحياة في البحر دون اتصال مستمر قد لا تكون مثالية.

ونتيجة لذلك، تحاول المزيد من الشركات جذب الجيل الأصغر سنا من خلال توفير مرافق الترفيه واللياقة البدنية على متن السفن، فضلا عن الرحلات القصيرة التي تتراوح من شهرين إلى أربعة أشهر.

أبرز الأسباب

من جانبه، قال الأمين العام الاتحاد الدولي لجمعيات الملاحة في مصر، الدكتور الربان هشام هلال، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن نقص البحارة الحالي على المستوى العالمي ليس بجديد ولكنه عجز مستمر، إذ يواجه القطاع نقصاً متواصلاً في عدد البحارة على مستوى العالم وذلك لعدد من الأسباب، من بينها:

معظم الشباب غير مرحبين بفكرة العمل في البحر، في ضوء قطع فترات طويلة في البحر.

لا يسمح لهم النزول للبر أو زيارة الأماكن التي يتم السفر إليها إلتزامًا بقرار منع البحارة من النزول للبر، وهو ما تسبب في عزوف الشباب في أوروبا الغربية عن العمل في البحر وهو ما امتد لدول أخرى من الدول الموردة للعمالة مما تسبب في عجز.

هذا العجز بلا شك يؤثر بصورة سلبية على صناعة النقل البحري، خاصة في ضوء ندرة العمالة المدربين والافتقار إلى الكفاءة اللازمة مما يؤثر بصورة سلبية على سلامة وحركة السفن.

من المتوقع أن يزيد هذا العجز خلال الفترات المقبلة وبالتالي ظهور مشاكل تتعلق بتشغيل السفن ومن ثم التأثير على صناعة النقل البحري.

وشدد على أنه من الضروري عدم إغفال الإتجاه الحالي بشأن إنتاج السفن المسيرة ذاتيًا، وهي التي ستؤدي إلى تغيير آليات ومفاهيم العمل، بالإضافة إلى قدرتها على تقليل تكاليف التشغيل وتحسين معدلات السلامة في ظل ارتباط الحوادث بالأخطاء البشرية.

وأوضح أن ذلك الإتجاه من شأنه أن يسهم في تراجع معدلات الحوادث، ولكنه سينعكس بالسلب على معدلات تشغيل البحارة.

أزمة مباشرة

بدوره، قال الخبير البحري، الربان صالح حجازي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن:

مشكلة نقص البحارة تسبب أزمة لقطاع الشحن العالمي بلاشك، لا سيما في ضوء الاشتراطات والمعايير المطلوبة للعمل في هذا القطاع الهام.

ثمة شروط ضرورية -بما في ذلك تأهيل أكاديمي ودرجات وشهادات تأهيلية تتضمن السلامة والإنقاذ- وهي معايير أساسية للعمل في القطاع.

توافر العمالة المؤهلة للعمل في ذلك القطاع -بمختلف المستويات- بمثابة تحدي واضح، وبما يؤثر بالطبع على لقطاع الشحن ككل وسير العمليات بصورة طبيعية.

وأشار إلى أن الاشتراطات أصبحت أكثر تشدداً من حيث الدراسة والتدريب والخبرات المطلوبة، وهو ما توفره عدد من الجامعات المعاهد والمكاتب المتخصصة، موضحاً أن أي تراجع على صعيد البحارة العاملين في ذلك المجال يؤثر بشكل أو بآخر على حركة وتعاملات الشحن البحري وما يرتبط بها من قطاعات مختلفة.

قطاع الشحن البحري، الذي يُعتبر العمود الفقري للتجارة العالمية، يواجه أزمة خانقة بسبب النقص الحاد في أعداد البحارة المؤهلين.

هذه الأزمة لم تؤثر فقط على كفاءة العمليات البحرية، بل امتدت تداعياتها لتشمل ارتفاع تكاليف الشحن، زيادة المخاطر التشغيلية، وتأخير سلاسل التوريد العالمية.

السير الذاتية المزيفة والحوادث

وبالعودة لتقرير "سي إن بي سي" الأميركية، فقد نقل عن خبراء بالصناعة، تأكيداتهم على أن نقص العرض من البحارة دفع الشركات إلى عرض رواتب أعلى لجذب المواهب من مجموعة محدودة، ولكن أيضًا متقدمين يجربون حظهم في الوظائف الشاغرة ليسوا مؤهلين لها.

وقال المحللون إن السير الذاتية المزيفة أصبحت أكثر انتشارا في الصناعة منذ أزمة النقص تلك، مع تزايد عدد البحارة الذين يفبركون تجارب على السفن.

وقال جينسن، الذي اكتشف الآلاف من السير الذاتية بعد محاولة التأكد من التجارب المذكورة مع أصحاب العمل السابقين للبحارة: "هناك الكثير من الأشخاص الذين يقومون بتلميع سيرتهم الذاتية للحصول على رتب أعلى ورواتب أعلى".

فيما قال المدير التنفيذي لشركة أوم ماريتايم، سوبهانجشو دوت، إن سلامة السفن والطاقم قد تتعرض للخطر بسبب مزيج من قلة الخبرة والافتقار إلى الصيانة المناسبة والتعب.

انعكاسات واضحة

مستشار البنك الدولي، الدكتور محمود عنبر، أشار في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إلى أن العالم يواجه أزمة حادة في نقص الكوادر البشرية المؤهلة، وهو ما أدى إلى اعتماد متزايد على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي كبديل للبشر.

ورغم أهمية التكنولوجيا، إلا أن تعميم هذا النهج في جميع القطاعات يُعد أمرًا غير ملائم، خاصةً في ظل أزمة تباطؤ تدفقات الاستثمار التي يشهدها العالم حاليًا.

وأضاف عنبر أن الاعتماد الكلي على التكنولوجيا لا يمكن أن يكون الحل الوحيد لتحقيق التنمية، بل يتطلب ذلك تعزيز الكوادر البشرية المؤهلة، لا سيما في القطاعات الحيوية الضرورية.

وأوضح أن هذا النقص في الكوادر البشرية يمتد ليشمل مجالات حيوية مثل قطاع الملاحة البحرية، حيث سيؤدي إلى تأثيرات كبيرة على التجارة الدولية. وتوقع أن يؤدي نقص البحارة إلى أزمات متزايدة في قطاع الشحن العالمي والصناعات المرتبطة به، مشددًا على أهمية الدور المحوري الذي يلعبه البحارة في ضمان استمرارية العمليات التجارية بسلاسة.

ويعد الشحن البحري جزءًا لا يتجزأ من سلسلة التوريد العالمية، حيث يتم نقل أكثر من 80 بالمئة من حجم التجارة العالمية عن طريق البحر، وفقًا لمنظمة التجارة والتنمية التابعة للأمم المتحدة.

وتشكل أجور البحارة جزءًا كبيرًا من تكاليف تشغيل السفن، والتي من المتوقع أن تظل مرتفعة مع قيام الشركات برفع الرواتب في محاولة لجذب المواهب والاحتفاظ بها.

ويتفق خبراء على أن نقص البحارة سيستمر لبضع سنوات أخرى، معترفين بأنه من بين أكبر العقبات التي يتعين على الصناعة مواجهتها.