العدد 5816
الإثنين 16 سبتمبر 2024
banner
التفكك الرقمي للذات البشرية
الإثنين 16 سبتمبر 2024

حينما وقف مؤخرا أحد أكثر المؤثرين في الإعلام الرقمي على المسرح عاريا من المؤثرات التي تصاحبه عادة في فيديوهاته على يوتيوب، بدا بائسا شاحبا ضحلا شحيحا، لا “دحيحا”.
هكذا إذن، وجد مفهوم ميشيل فوكو عن “موت الإنسان” تجسيدا حيا له.
مع تزايد الأهمية للرقمنة، وتصاعد الاتجاه إلى الارتكان للتكنولوجيا في كل شيء، لم يعد الإنسان محور كل شيء ومركزه، والعامل الأهم فيه، بل بات عاملا من بين العوامل يمكن رفعه أو خفضه أو استبداله جزئيا، كما يحدث حاليا، أو بالكامل كما سيفعل الذكاء الصناعي قريبا.
فوكو بطرحه عن “موت الإنسان”، يشير إلى أن الذات البشرية قد تم تفكيكها وإعادة تشكيلها ككيان داخل شبكة من علاقات القوة وأنظمة المعرفة، مع تزايد عوامل التقدم العلمي والتقني. 
إن ظاهرة المشاهير المعاصرين، وخاصة في مجالات التأثير  الناعم، هي شهادة على نظرية فوكو.
كثيرا ما جرى الاحتفاء بشخصيات مؤثرة على مواقع التواصل والميديا الرقمية،  ليس لفكرها الأصلي أو أفكارها العميقة، ولكن لقدرتها على تغليف المفاهيم المعقدة في صيغة ترفيهية وسهلة الوصول إليها. 
يتحقق ذلك من خلال الجهود المتضافرة لفريق الإنتاج والمحررين وأحدث الأدوات التكنولوجية. 
في هذا السياق، يصبح الفرد مجرد قناة للمعلومات المعبأة مسبقًا، حيث يتم استيعاب شخصيته وذكائه بواسطة آلة إنتاج الوسائط.
إن الخوارزميات التي تنظم تجاربنا عبر الإنترنت، والبيانات التي يتم جمعها حول عاداتنا وتفضيلاتنا، تسهم في تشكيل فهمنا للعالم ومكاننا فيه، كما تجعلنا ضحية لها، في نفس الوقت، حيث نصبح معتمدين بشكل متزايد على هذه الأنظمة، حيث يتم تقويض استقلاليتنا من خلال التأثير الشامل للتكنولوجيا.
حالات شتى، باتت رمزا لهذا الاتجاه، فالمؤثر الذي تعتمد شعبيته على البنية التحتية التكنولوجية التي تدعم عمله، لم يعد هو شيئا بدونها، فيما كان الإنسان المجرد من كل شيء قبل ذلك، الواقف على المسرح بغير مؤثرات سوى الصوت والضوء، هو المحور الأول، أما اليوم، فبدون أدوات التحرير المتطورة، والمعدات السمعية والبصرية عالية الجودة، والمنصات عبر الإنترنت لتوزيع محتواه، فإن تأثيره سيكون أقل أهمية بكثير. 
إن العديد من حالات النجاح الراهنة التي نراها، في جوهرها نتاج العصر الرقمي، ودلالة على قوة التكنولوجيا في تشكيل الثقافة والوعي، ما يجعل آثار هذا التحول التكنولوجي للذات البشرية عميقة وهائلة. 
وإذا كان الفرد مجرد ترس في آلة أكبر، فماذا سيحدث لمفاهيمنا عن الأصالة والحرية؟ للأسف لا إجابة قاطعة ومحددة، وكما قال زيجمونت باومان، فإننا نعيش في عصر الحداثة السائلة، وهو عالم يتميز بالتغير المستمر واللايقين. 
وحتى إشعار آخر، سيظل الفرد مجزأً ومعزولاً وعرضة للتلاعب من قبل قوى قوية ومتطورة.
إن الاستقبال الفاتر للأداء الحي لمشاهير اليوتيوب وغيره على المسرح، يشير إلى وعي متزايد بهذه الحالة، إذ أصبح الجمهور متشككًا بشكل متزايد في الطبيعة الاصطناعية للمشاهير المدعومين بالتقدم التكنولوجي، حيث أدركوا أن الصورة المنمقة بعناية والمقدمة على الشاشة غالبًا ما تكون بعيدة كل البعد عن الفرد الذي يقف وراءها.
 مجددا، فإن مفهوم فوكو عن “موت الإنسان”، يوفر إطارًا قويًا لفهم الحالة الإنسانية المعاصرة، مع استمرار التقدم التكنولوجي بوتيرة غير مسبوقة، ليزداد تهميش الفرد، حيث تقوض استقلاليته قوى العولمة والأدوات الرقمية. ومن خلال تأمل حالات شتى متكررة لمشاهير برعوا على الميديا الرقمية، وسقطوا في الاختبار الواقعي، يمكننا أن نرى كيف تتكشف هذه الحقيقة في الوقت المناسب، وكيف تتحدى فهمنا لما يعنيه أن تكون إنسانًا. 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .