قصة عائلة " بيت مراد"
من حوش "بيت مراد" إلى العالمية وموسوعة جينيس
أكد السيد بدر يوسف مراد و هو من "الجيل الخامس "من عائلة مراد التي سكنت هذا البيت أن المحادثات في ترميم منزل مراد مع إدارة التراث والثقافة لحفظه تاريخيا كان في مطلع عام 2011 وكانت البداية مع الشيخة مي بنت محمد، ولسبب الحجم الكبير لهذا المنزل فقد تعطل العمل عليه بعض الوقت نظرا لعدم توافر الميزانية اللازمة لترميمه.
ويسرد بدر القصة كما يلي:
بدأتِ القصةُ في قطر، عاشَ جدي جاسم وعائلتُه في مجتمعٍ صغيرٍ بمنطقةِ الزبارة، حيث وفَّرت حقولُ المحارِ شمالَ شبهِ جزيرة قطر حياةً رغيدةً لهم، حالهم كحالِ العديد من عائلات البحرين اليوم.
على بعدِ خمسة وسبعين ميلا تقعُ عاصمةُ تجارة اللؤلؤ في الخليج العربي، والتي كانت وجهةَ التجارِ من مختلفِ المناطقِ المحيطةِ. كانت عيونُ الماءِ الحلوِ المنبثقةِ من أعماقِ الخليجِ تفيضُ على حقولِ المحارِ منتجةً أكبرَ وأنقى حباتِ اللؤلؤ، ولهذا، اشتهرتِ البحرينُ آنذاك بغطاسي صيد اللؤلؤ. تنقَّلَ جدي الأكبر جاسم في رحلاتِ تجارةِ اللؤلؤ بين البلدين.
كانَ من المهمِّ جدًّا لجاسم أن يزورَ سفنَ صيدِ اللؤلؤ بشخصِه قرابةَ نهايةِ موسمِ الصيد، وكانَ قبطانُ السفينةِ يحتفظُ باللؤلؤِ المجموعِ في صناديقَ على متنِ السفينة. فالرحلةُ عادةً ما يقوم بها التجارُ في وقتٍ مبكِّر مع انعكاسِ أشعةِ الشمسِ البنفسجية على سطح مياهِ الخليجِ الهادئة.
استخدمَ جدي جاسم خبرتَه الكبيرةَ ونظرتَه الثاقبةَ في تفحُّصِ اللؤلؤ، يختارُ فقط أفضلَ ما استخرَجه الصيادون. ولما ذاعَ صيتُه كخبيرٍ متمرِّسٍ في تجارةِ اللؤلؤ، فُتحَتْ له أبوابُ قصورِ الشيوخِ والحُكام، فأخذَ يزورُهم باستمرار، وكان دائماً موضعَ ترحيبٍ في مجالسهم، حيث يجتمعُ الرجالُ ويناقشون أمورَ يومِهم وتجارتِهم
بيدَ أنَّ الصداقةَ التي نشأتْ بين جاسم والشيوخِ والحُكامِ جرَّت له عداوةً في موطنه (الزُبارة) إذ أدت إلى نشوب خلافٍ مع قبيلة أخرى. تصاعد العداءُ ووصلَ إلى مرحلةٍ شكلَت خطراً عليه وعلى أسرتِه، فلم يعد بقاؤهم آمناً في منزلهم، لذلك نصحه بعضُ الأصدقاءِ بمغادرة قطر، ولكن إلى أين الذهاب؟
ويضيف بدر:
قرَّرَ جاسمُ أن يذهبَ إلى منطقةِ فارس جنوبي غرب إيران، مع نيَّة إنشاءِ مصلحةٍ تجاريةٍ جديدةٍ لا علاقةَ لها باللؤلؤ.
حَكمَ البحرين في العامِ 1870 الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، وكانتْ للشيخ عيسى صلةٌ وطيدةٌ بجاسم إذ كان يشتري منه اللؤلؤَ، ولمَّا علم بمشكلته مع احدى القبائل، أرسلَ إليه رسولا ليعرضَ عليه الانتقالَ للبحرين. بناءً على هذه الدعوة، غادر جاسم فارس بصحبةِ نجلِه ابنِ العشرةِ أعوامٍ (أحمد)، متجهاً للبحرين للقاءِ الشيخ عيسى، تاركاً خلفه زوجتُه، ولدى وصولِه لقيَ جاسم استقبالاً وترحيباً حاراً.
"جاسم أنتَ طواشٌ استثنائي، والأجدى بك أن تستمر بتجارةِ اللؤلؤ"
قال الحاكم. "أريدكَ أن تفكرَ بالانتقالِ للعيشِ في بلادي مع أسرتك، وبإمكانِك انتقاءَ أي قطعة أرضٍ تشاءُ لبناءِ منزلَك". لم يستطعْ جاسم رفضَ عرضِ الحاكمِ السَّخي، وسرعانَ ما قبل به.
أجاب جاسم:
كما تعلمْ سموَّك، إن تجارتي تحتِّم عليَّ أن أسكنَ بمحاذاة البحر، وموقعُ المحرق بجوارِ مياهِ الصيدِ يجعلُها مكاناً مثالياً للسكن.
قال سموُّه : هي لك.
وهكذا ولدَتْ جذورُ عائلتي في مملكة البحرين، التي أفتخر بها على الدوام.
ويستطرد بدر الحكاية:
لحينِ بناءِ منزلِ العائلةِ الجديد، سكنَ جاسم وأسرتِه في بيتٍ صغيرٍ بالقربِ من موقعِ البناء، وسرعانَ ما انتصبَ البناءُ المبنيُّ بالحجرِ الصَّلب، وبأفضلِ أنواعِ الخشبِ في حينِه على غرارِ قصورِ ذاك الزمن، مع انتباهِ جاسم لأدقِّ تفاصيلِ العمارة وأفخمِها بغيةَ إظهارِ ثرائِه وموقعه كطواشٍ ممتاز، وما إن انتهى البناءُ حتى أصبحَ منزل جاسم الجديدُ أكبرَ بيتٍ يُبنى في تلك المنطقة.
تكوَّنَ المنزلُ من ثمانِ غرفٍ، توسَّط المبنى فناءٌ داخليٌّ فسيح، كانَ لكلِّ غرفةٍ رئيسيةٍ حمَّامُها الخاصُّ يفصلُه عنها جدارٌ قصيرٌ ليضفيَ بعضَ الخصوصيةِ على مستخدميه، وكان للمنزلِ منفذُ مياهٍ خاصٌّ عبرَ دهليز. اختارَ جاسم لنفسِه غرفةً تطلُّ على كاملِ مرافقِ المنزلِ ليستطيعَ مراقبةَ أهلِ بيتِه. في الزاويةِ الجنوبيةِ للبيتِ كانَ هنالك غرفةٌ في الطابقِ العلوي يسمحُ تصميمُها بدخولِ الهواءِ إليها، فشكَّلتْ مجلساً مظللاً في الصَّيف، كما أنها كانتْ مطلةً على البحر، مما سمحَ لجاسم برؤية سفنِ غواصي اللؤلؤِ العائدةِ، فيخرجُ لملاقاتِهم وشراءِ حصيلةِ صيدِ اللؤلؤِ منهُم.
ما لبِثَ جاسم أن استقرَّ في بلدِه الجديد، وبذات الوتيرةِ استطاعَ أن يواصلَ تجارتَه الناجحةَ، فبهذا بدأتْ حكايةُ سلالةِ آل مراد من الطواشين، وسرعانَ ما لحِقَ بجاسم في مهنتِه نجلُه وجدي الأكبر أحمد، ومن ثمَّ انضمَّ إليهما جدي عبدالله ليستكملَ مسيرةَ العائلةِ في تجارةِ اللؤلؤ.
عندما أصبح شاباً، تزوج أحمد متخذاً تباعاً أربعَ زوجاتٍ له، أنجبنَ له ثمانيةَ أبناء، وشاءت الصُدف أن تحملَ زوجاتُه ذاتَ الاسم "شيخة". توفيَ أحمد في العام 1970، أنا لا أذكرُه جيداً فقدْ كنتُ بالكادِ أبلغُ خمسَ سنواتٍ من العمر، ولكني أذكرُ الرجلَ العجوزَ الذي كان يجلسُ طوالَ الوقتِ بالغرفةِ المجاورةِ لمدخلِ المنزلِ، ينظرُ من بعيدٍ للقادمِ والخارجِ من الزوار. كان رجلاً مهيبا، طويلَ القامة، شائبَ الرأس واللحية، وصاحبَ نظرةٍ عميقة يشبهُ بمنظره هذا "راسبوتين" الراهبَ الروسيَّ الشهير، ولكنْ في الحقيقةِ لقد كان رجلاً طيبا.
أما جدي عبدالله، فتزوج صغيراً كما كانت الأعراف في ذلك الوقت. لم يكن قد تجاوز الاثني عشر ربيعاً في حينه، وزوجته لم تتجاوز التاسعة من العمر، وكان اسمها هي أيضا "شيخة". نتجَ عن هذا الزواج اثنا عشر طفلاً، كان أولهم والدي العزيز المرحوم يوسف، الذي ولد في العام 1929
مازلتُ أذكرُ جدي جيداً وكميةَ المرحِ التي كنتُ أحظى بها عندما يصحبني والدي لزيارتٍه، فلدى وصولي إلى منزله أشاهدُ حيواناتٍ وطيوراً مختلفة، مخلفات الطيور في بعض الأحيان تبدو للوهلة الأولى كمثلَّجاتٍ ذائبةٍ تكسو المنزل. أذكرُ أيضا وجودَ أربعِ بقرات، وطيورِ بطٍّ، ودجاجٍ، وحمامٍ في الباحةِ الداخلية للمنزل. كنتُ أنتهز الفرصةَ حين يرتاحُ والدي في إحدى الغرف الداخلية، لأستمتعَ بمشاهدة جدتي وهي تحلبُ الأبقارَ والأغنام، ففي منزلِ جدي، هناك دائما ما يثير فضولَ طفلٍ صغير.
ويتابع بدر:
في أحدِ الأيام، كنتُ ألهو في الباحةِ الداخليةِ للمنزل، وألعبُ بمجسَّمِ طائرةٍ من طرازِ "سبتفاير" اشتراه لي والدي. أخذتُ أركضُ في الباحة، مقلداً أصواتَ محركِ الطائرة، وجدتي في تلكَ اللحظة تحلبُ شاةً، بمجرَّد اقترابي منها والأصواتُ المدويةُ تخرجُ مني، فزعَتِ الشاةُ وداستْ بإحدى أرجلِها داخلَ السطلِ لينسكبَ الحليبُ منه. كانَ موقفاً مضحكاً جداً بالنسبة لي، بيدَ أنَّ جدَّتي لم تجدْه مضحكاً بقدرِي، فنهرتني قائلةً بأن لا أقترب من الحيواناتِ بطائرتي مرةً أخرى.
أمَّا في يومنا هذا، فمنزلُ آل مراد "التاريخي" بات جزءًا من موقع "مسار اللؤلؤ" الذي نال اعترافاً دولياً من منظمة اليونسكو تمثَّل بإدراجِه في قائمةِ التراثِ الإنساني العالمي، وذلكَ بهدفِ الإضاءةِ على اللؤلؤِ البحريني، وأهميتِّه التجاريةِ والثقافيةِ، ولقد تحققَ ذلكَ بفضلِ جهود رئيسة هيئة البحرين للثقافة والآثار السابقة الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، لينضمَّ المنزل إلى قافلة المباني العمرانية التي تسرد حكاية مخلدة في الذاكرة البحرينية، وليتحولَّ إلى فندقٍ تراثي شاهدٍ على فترة ذهبيةٍ من التاريخ، ومعلمٍ شامخٍ يلهجُ بماضي صناعةِ اللؤلؤ في البحرين.
ظهرَ منزلُ آل مراد سابقاً في العام 1971 كموقعٍ للتصويرِ في فيلمٍ بعنوان "حمد والقراصنة" من إنتاج شركة والت ديزني.
في بداياتِ العام 1930، أدَّى ظهورُ اللؤلؤُ اليابانيُّ المزروعُ، بالإضافة لاكتشافِ النفط، إلى ضمورِ مهنةِ صيدِ اللؤلؤ كمصدرِ دخلٍ في الخليج العربي، ولهذا كان جدي عبدالله آخر طواش في سلالةِ طواشي آل مراد.
قرَّرَ والدي أنْ لا جدوى من انخراطِه في تجارةٍ تلفظُ أنفاسَها الأخيرة، فانكبَّ على دراسته وحازَ مستوى مرموقاً من التعليم، مما مكَّنه من الالتحاقِ بالقنصلية الأمريكيةِ في الظهران. وبقيَ كذلك حتى تقاعدِه في العام 1997، سكنتْ عائلتي في مجمعٍ بالظهران، وتراودُنا جميعاً ذكرياتٌ ممتعةٌ عن ذلك المكان حيث سكنَّا طيلة سنوات.
واليوم وبعد مرور 12 عاما من انطلاق المشروع تحقق حلمنا لنراه كما اعتدنا أن نشاهده ونحن أطفال صغار. أحمل في هذا البيت ذكريات طفولة لا تُقدَّر بثمن، لقد كنت ألعب بمجسمات الطائرات في فناء المنزل (الحوش) وأصنع منها ما استطعت و كانت تلك المجسمات يشتريها لي المرحوم جدي حيث لم أكن أعلم يوما بأنّ هذه الهواية ستوصلني للدخول بموسوعة جينيس العالمية للأرقام القياسية لفئة أكبر مجموعة مجسمات في العالم، ومن ثم ستتطور لتصبح شركة تحمل إسمي (بدر موديلز) وتنتشر في شتى أنحاء العالم."
كما أضاف بدر قائلا:
"ربما أملؤه يوما ما بمجسمات الطائرات التي صنعتها بنفسي لعرضها أثناء معرض الطيران حتى أحكي من خلالها تاريخ الطيران بمملكة البحرين ممزوجة بتاريخ صناعة آبائي للؤلؤ البحريني.
ليس ذلك فقط، بل إن المنزل تم حفظه باليونيسكو ضمن التراث الثقافي العالمي وهكذا لا يمكن هدمه.
كم شخص نعرفه أدرِجت منازلهم ضمن التراث الثقافي العالمي؟ إنه شيء نادر في الحقيقة. أدعو جميع البحرينيين أن يزوروا بيت عائلة مراد الذي يعتبر جزءًا لايتجزأ من تراث المملكة وأن يستمتعوا به، بتفاصيله وبفنه المعماري.
وأختتم بدر حديثه بالقول:
وأود أن أشكر حكومة مملكة البحرين على كل ماساهمت به لترميم هذا المنزل والشكر الجزيل إلى صاحبة فكرة إنشاء طريق اللؤلؤ ووضع جميع لمساتها الانيقة فيه الشيخة مي بنت محمد وإلى جميع الفريق الذين عملوا عليه.