وطأة هذا المكان على من فيه، لا تقل فداحة على من يغادره، اسألوني أنا، فقد مكثت فيه بضعة أسابيع، كانت الأثقل في تاريخي المهني، والأحب كذلك.
خمسة عشر عامًا مرّت على تأسيس البلاد، حينما أسأل قدامى مؤسسيها والعاملين فيها عما تغيّر خلالها، يقولون إنه لم ينقص شيء عن فترة التأسيس، نفس الحماس والرغبة في التطور، وملاحقة كل جديد.
حينما تطأ قدماك مقر صحيفة البلاد، عاملًا فيها، تجد نفسك وقد دخلت لا مكانًا للعمل، ولكن ماكينة عملاقة لا تتوقف، عليك أن تكون حاضر الذهن والبدن في كل لحظة، يشبهها زميل لي بـ ”المفرمة” التي تخرجك للدنيا مسحوقًا سعيدًا بالطحن.
هي “البلاد”، التي ظننت أني آتيها فاتحًا، بأفكار خلّاقة مبدعة، تنقلها لمصاف أخرى، حلم تلبّسني منذ اتجهت إليها، غير أنني وجدت أن كبيرها قد وضعها في مستوى يتعب من يأتي لينجز، فلا يكون أمامه إلا أن يكون عبقريًّا بقدر قامة المكان ومن فيه، وإما أن يرحل، هنا صحيفة لا يرضى كبارها بالصغائر.
على رأس البلاد “شعلة” متوقدة من الأفكار والنشاط، قلت لرئيس مجلس إدارتها “بومشعل” كما يحب أن نناديه، أو عبدالنبي الشعلة كما تعرفه البحرين والخليج وتعرفه ويكيبيديا، إنني أنتظر أن أصل لسن التقاعد لأسارع إلى النادي أستمتع بالتلاشي في اللا شيء، لكنه ـ وهو الذي تحقق أدبيًّا لأقصى ما يمكن لإنسان عصامي أن يصله، وهو منصب الوزير ـ لديه القدرة على أن يصيب الآخرين بعدوى العمل المستمر، والنشاط المشتعل، مهما كان العمر، ومهما تضاءلت الثمار.
قال لي صديق يعمل في إحدى دول الخليج إن “الخلايجة” يركنون للدعة والراحة، استنادًا لوفرة المدخولات، لذا لا يهتمون بالمهارات ولا يطوّرون الإمكانات.
هنا، في البلاد، أذهلتني قدرات كوادرها، وإمكاناتهم المهنية والعملية، وتطورهم المكافئ لكل جديد، وسعيهم لإخراج أقصى ما عندهم.
كنت أمازح زملائي مدمني العمل هنا بأنهم من “الذين طغوا في البلاد، فأتعبوا فيها العباد”، حينما يكون مطلوبًا منا المزيد بعد نفاد “البطارية”، غير أن سعادة الإنجاز كانت تعيد شحن الذين “برعوا في البلاد”، فأخرجوا ما في أيديكم من عصارة أرواح وأبدان فائقة المهارة.
* كاتب مصري وخبير بالاقتصاد الرقمي