سنظل نحب مصر وشعبها من صميم قلوبنا وحتى نخاع عظامنا، ونحب ونشيد بالرئيس عبدالفتاح السيسي ونفخر بما قام ويقوم به من جهود ومبادرات وانجازات باهرة لإصلاح “ما أفسده الدهر” وللارتقاء بمكانة مصر وشعبها، ونتمنى له التوفيق والنجاح والسداد في مساعيه كافة، واحببنا وما نزال نحب الرئيس الراحل جمال عبدالناصر رحمه الله الذي تمر هذا الشهر الذكرى 52 على وفاته.
أحببنا عبدالناصر رحمه الله؛ لأنه تمكن من استنفار أحلامنا، وجعلنا نؤمن بوجود القومية العربية، ونصدق أنها قد استيقظت على يديه، وأن دولها ستتوحد بين يديه، وانها ستحقق الانتصارات تحت يديه، احببناه وما نزال نحبه بكل صدق وإخلاص وهو حب يفرض علينا أن نكون أمينين وصادقين مع انفسنا ومعه، وألا نتجاهل تلك الدائرة المتسعة من التقييم والمراجعة والنقد والجدل والنقاشات الساخنة التي ما تزال تدور حوله وحول إرثه منذ أن اختاره الله وحتى بعد انقضاء أكثر من نصف قرن على وفاته.
وكلما تحل ذكرى وفاته رحمه الله في مثل هذا الشهر من كل عام يتسابق الكثير منا للإعراب عن الحنين إلى حضوره، والأسف والتحسر على فقدانه وعلى الخسارة الفادحة التي منيت بها الأمة العربية بسبب رحيله المبكر عن المشهد العربي؛ فلولا هذا الغياب لما ضعفت الأمة واستكانت وانكشفت وتعرضت للمهانة، ولما تجرأ أحد على السطو والاعتداء علينا والتدخل في شؤوننا الداخلية واحتلال أراضينا واستباحة حرماتنا كما هو حاصل الآن؛ مرددين قول أبي فراس الحمداني “وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر”؛ ناسين أو متناسين أن عبدالناصر تسلم السلطة كاملة في مصر بعد إزاحة وسجن الرئيس محمد نجيب في العام 1954 وحل الأحزاب وتكبيل الصحافة، وبعدها بعامين (في العام 1956) تعرضت مصر في عهده وهو في قمة توهجه ولمعانه إلى العدوان الثلاثي الغاشم الذي شنته إسرائيل بمشاركة بريطانيا وفرنسا، ولم يستطع عبدالناصر منع وقوع العدوان أو وقف زحف القوات الاسرائيلية التي احتلت قطاع غزة وكامل سيناء التي انسحبت منها لاحقا راضخة للضغوط الدولية وعلى رأسها ضغوط الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ومقابل تنازلات موجعة ومكلفة ومهينة وافق عليها عبدالناصر وسميت لاحقًا بـ “آثار العدوان”، وتكرر الشيء ذاته وبصورة اشنع وأسوأ عندما شنت إسرائيل الحرب على مصر وسوريا والأردن في العام 1967، واحتلت مرة أخرى كامل سيناء وقطاع غزة، إلى جانب هذه المرة الضفة الغربية وهضبة الجولان أمام عيني عبدالناصر الذي تحمل المسؤولية كلها عن ما حدث؛ فكيف بنا نستنهضه الآن لنجدتنا وحمايتنا والمثل المصري يقول: “جيتك يا عبدالمعين تعينّي، لقيتك يا عبدالمعين تتعان”.
ونحن من حبنا لعبدالناصر ورغبتنا في الدفاع عنه والاستمرار في تلميع صورته والتستر على هزائمه أو انتكاساته وتغطية أخطائه وتجاوزاته أخذنا نلجأ إلى التأكيد على نزاهته ونظافة يده التي لم يمدها قط إلى المال العام؛ وهي حقيقة مؤكدة ثابتة لا جدال أو خلاف حولها ولا شك فيها.
وعلى الرغم من أن النزاهة صفة لا يستطيع معظم السياسيين والقادة ادعاءها في هذه الأيام وعلى مر العصور، إلا أنها خصلة أساسية ملزمة لكل قائد أو مسؤول، مع ذلك فإن النزاهة ونظافة اليد في حالة توفرها في القائد أو المسؤول تفقد قيمتها إذا لم تكن مقرونة بالكفاءة والاقتدار والحكمة وحسن التدبير التي تعتبر مقومات أساسية تتقدم في أولويتها وأهميتها على النزاهة ونظافة اليد.
وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن أحدًا لا ولم يشك في نزاهة ونظافة يد الزعيم النازي أدولف هتلر، فهو أيضًا لم يمد يده قط إلى مال ألمانيا العام؛ لكنه كان دكتاتورا متسلطا أثبت فشله وعدم كفاءته وسوء تقديره وتدبيره عندما أشعل الحرب العالمية الثانية التي منيت فيها ألمانيا في النهاية بهزيمة مذلة ماحقة ساحقة، وكانت تلك الحرب أكثر الصراعات العسكرية دموية على مر التاريخ وراح ضحيتها أكثر من ستين مليون إنسان من عسكريين ومدنيين، فما الذي استفاده الألمان بل العالم كله من نزاهة ونظافة يد هتلر؟
صدام حسين افتقد الكفاءة وجانبته الحكمة وأساء التقدير عندما دخل في حرب مع إيران دامت لأكثر من ثمان سنوات، ثم جاء الأمَرُّ والأدهى عندما غزا دولة الكويت في العام 1990 وما ترتب على ذلك من نتائج كارثية وخيمة ما زال العراق وشعبه والمنطقة بأسرها تعاني منها؛ مع أنه حتى أعداء صدام يشيدون ويشهدون بنزاهته ويؤكدون أن أيًّا من المسؤولين في عهده لم يكن يجرؤ على قبول رشوة أو يمد يده إلى المال العام، وأن الإشاعات التي أثيرت حول استيلائه على ملايين الدولارات من بنك العراق المركزي قبيل الغزو الأميركي في العام 2003 بحجة حمايتها من أيدي المحتلين لم تثبت صحتها أو دقتها، وما قيل عن “قصور صدام” ثبت أن هناك نحو 600 عقار مكونة من قصور وفلل واستراحات واراض ومزارع وما شابه كانت تحت تصرف صدام، لكنها كلها دون استثناء مسجلة باسم ديوان رئاسة الجمهورية، وليت عبدالناصر رحمه الله بنى 600 قصر وفيلا واستراحة أو أكثر في مصر بدلا من أن يعرض مصر للعدوان الثلاثي في العام 1956 عندما قام بتأميم قناة السويس في حركة استعراضية كلفت مصر الكثير الكثير من الأموال والأرواح، في وقت لم يكن تأميم القناة أمرا ملحا؛ لأن امتياز القناة كان سينتهي في العام 1968 على أساس اتفاقية الامتياز التي تنص على أن مدته 99 عامًا تبدأ من تاريخ افتتاحها، وبما أن القناة افتتحت في العام 1869 فإن مدة الامتياز تنتهي في 1968، أي بعد 12 عامًا فقط من الوقت الذي أعلن فيه عبدالناصر تأميمها، وهو تصرف تنقصه الحكمة وحسن التدبير، وأدى إلى تعرض مصر للعدوان الثلاثي، وللتوضيح؛ فإن الصين صبرت حتى العام 1997 لاستعادة هونغ كونغ من بريطانيا التي استأجرت الجزيرة منها لمدة 99 سنة بموجب معاهدة وقعت بين البلدين في العام 1898، الصين استعادت هونغ كونغ من بريطانيا في الوقت المتفق عليه دون إراقة نقطة دم واحدة، ودون أي خسارة في الأموال أو الأرواح.
وكيف يمكن لمصر أو العرب أن يستفيدوا من نزاهة ونظافة يد عبدالناصر بعد أن اتخذ قرارا ثبت أنه بعيد عن الكفاءة والحكمة وحسن التقدير والتدبير بالتدخل في اليمن في العام 1962 وإرسال الجيش المصري للمشاركة في حرب أهلية والقتال لمناصرة الانقلابيين فيها، بهذا القرار أوقع عبدالناصر مصر في مستنقع حرب اليمن التي دارت لمدة ثماني سنوات قتل فيها ما يقارب من 15 ألف جندي وضابط مصري، أما الخسائر المادية فحدث ولا حرج، وقد لخص جزءا منها الرئيس السيسي عندما قال: “تعالوا بينا نرجع للخلف.. أرجو منكم كلكم يا مصريون تأخذوا كلامي بجدية. في سنة 1960 كان في غطاء ذهبي للجنيه المصري، البلد دي مكنتش مديونة بجنيه، لكن كل ده راح في حرب اليمن، انتهى كل الغطاء الذهبي اللي كان موجود”، كما أن عدم الكفاءة وسوء التقدير والتدبير برزت بكل وضوح في فشل وانهيار الوحدة بين مصر وسوريا التي دامت لثلاث سنوات عجاف فقط.
والمساحة المتاحة هنا لا تسمح بالمزيد من الاستطراد فلن نتطرق إلى الطامة الكبرى وهي حرب 67 التي تجلى فيها عدم كفاءة وحكمة الرجل وتواضع قدراته القيادية وسوء تقديره وتدبيره التي أفقدت أي قيمة للنزاهة ونظافة اليد التي كان يتمتع بها، غفر الله له وسامحه واسكنه فسيح جناته.