عدت لتوي من مدينة ماربيا في أسبانيا بعد أن قضيت فترة العطلة الصيفية هذا العام فيها. وعلى خلاف العادة فقد اكتظت ماربيا هذا العام بمئات، إن لم يكن بآلاف السواح من مختلف دول الخليج العربية، وفي مقهى أحد المجمعات التجارية الكبرى التقيت مصادفة بأحد السواح من الأشقاء العمانيين الذي عندما عرف أنني من البحرين، قال لي إنه من محافظة ظفار، وإنه مِن بين مَن تبقى مِن “عيال ماما هدى البحرينية”، التي أنقذته من الأمية وعلمته القراءة والكتابة ووضعته على طريق العلم والمعرفة، وإنه بل جميع العمانيين يدينون بالعرفان والامتنان إلى المربية البحرينية هدى سالم، وإلى مملكة البحرين؛ فقد ساهمت هدى، بحسب قوله، في تأسيس نظام التعليم الحديث في سلطنة عمان، وتحدث كثيرا عنها بعبارات دافئة متدفقة من صميم قلبه، ما جعلني أحس بالمزيج من الحرج والغبطة لوجود أناس يعرفون معنى الوفاء.
و”هدى سالم” هو الاسم الحركي للمربية والمناضلة البطلة ابنة البحرين ليلى بنت عبدالله فخرو، التي يصادف هذا الشهر مرور 16 عاما على انتقالها إلى جوار الرفيق الأعلى، رحمها الله وأسكنها فسيح جناته، وقد تأثرت بطبيعة الحال بكلمات الأخ العماني التي هزت مشاعري وحركت في داخلي شرايين الضمير الوطني.
ليلى فخرو أيقونة وأسطورة وطنية بالنسبة لنا كبحرينيين، وكانت واحدة من بين ألمع نساء البحرين والمنطقة في حقبة الستينات من القرن الماضي وما بعدها، وهي تنحدر من أسرة كريمة أعطت البحرين عددا من خيرة رجالاتها وأعلامها الذين تفانوا وأخلصوا في خدمة بلادهم في الحقول والمجالات الاقتصادية والإدارية والمهنية والسياسية والفكرية وغيرها.
وللتوضيح، فإن ليلى فخرو كانت تنتمي بكل قناعة وقوة إلى الجناح اليساري من تيار القوميين العرب، وأنا أقف بكل قناعة وقوة أيضًا على النقيض من ذلك التيار وأجنحته المختلفة، لكنني من منطلق الوفاء والتقدير أقف بكل تجرد وبكل احترام وإكبار أمام تضحياتها وأمام ذكرى وفاتها لأقول كلمة حق دون أي هدف للإطراء أو حاجة للمجاملة، ودون وجود أي قرابة أو معرفة شخصية بها، ودون أي ارتباط أو تعاطف ايديولوجي سياسي معها، ليلى فخرو كانت وستظل في مقدمة النساء اللواتي تعتز وتفتخر البحرين بهن، وحتى الذين كانوا يختلفون معها في الرؤى والمواقف كانوا وظلوا يكنون كل التقدير والإعجاب بصلابتها وعزيمتها وإيمانها أو تمسكها بالمبادئ والقيم التي كانت تؤمن بها لتبقى ذكراها عصية على النسيان ومستقرة في الوجدان، ولتبقى مواقفها وعطاؤها مصدر تقدير وإلهام في الذاكرة الوطنية كرمز ساطع للإنسانية والشجاعة والجرأة والإيثار ونكران الذات والاستعداد للتضحية بكل شيء في سبيل تحقيق قناعاتها وأهدافها الإنسانية.
ليلى فخرو ولدت وترعرعت في وطنها البحرين في رغد ونعيم، وتوجهت إلى بغداد ثم بيروت للدراسة الجامعية، والتحقت بأعرق الجامعات فيهما، لكنها حملت معها في الوقت نفسه أوجاع وهموم وآمال الوطن والمنطقة، وانخرطت في النشاط السياسي من خلال رابطة طلبة البحرين في بيروت؛ ما قادها إلى التوجه إلى ظفار في المناطق التي كان يسيطر عليها وقتها الثوار أو اليساريون الشيوعيون (سمهم كما شئت)؛ إيمانًا وقناعة منها بوحدة مصير الشعوب الخليجية العربية.
لقد حاربت ليلى فخرو البريطانيين، وثارت ضد نفوذهم ووجودهم في منطقة الخليج العربي؛ فقد حرصوا على تأمين وضمان وحماية مصالحهم في المنطقة دون أن يحاولوا المساهمة في تطور شعوبها وفي نقل العلم والمدنية وبعض من اشعاع الحضارة الغربية إليها؛ بل انهم سعوا وعملوا على تكريس الجهل والتخلف والضعف حتى يتمكنوا من إحكام قبضتهم وسيطرتهم عليها.
نعم، في ستينات القرن الماضي غادرت ليلى فخرو بيروت بنبضها وزهوها وبريقها في تلك الأيام؛ في رحلة إنسانية نضالية مجهولة المصير، تاركة وراءها رغد العيش والثراء والرخاء، سالكة أخطر وأوعر الطرق إلى جبال وكهوف ووديان ظفار المقفرة في ذلك الوقت.
لم تكن ليلى فخرو تسعى وراء شهرة أو وجاهة أو منصب، ولم تكتب أو تتحدث عن نفسها أو دورها، فقد آمنت بقضية، ووجدت أن الجهل والفقر صنوان وهما سبب تخلف شعوب المنطقة، فكانت رحلتها إلى ظفار لمحاربة الأمية والجهل، وكان سلاحها مجموعة من الأقلام والكتب والدفاتر، وشحنات من الشجاعة والجرأة والعزيمة والتصميم، لقد خاضت في ظفار معارك كانت ميادينها صفوف المدارس التي بذلت جهودا مضنية في سبيل تأسيسها وإدارتها تحت اسم “مدارس الثورة” التي تخرج منها الفوج الأول من حملة الشهادة الثانوية في سلطنة عمان الذين أصبحوا يساهمون من مواقع قيادية متقدمة في تحقيق تطور عمان ونهضتها وازدهارها.
وبعد أن انطفأت “ثورة ظفار” وتحققت الإصلاحات وزحفت برامج التنمية والبناء والتطوير إلى محافظة ظفار على يد المغفور له السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه بعد تسلمه زمام الحكم في عمان، وبعد انهيار الحكم الماركسي فيما كان يسمى اليمن الجنوبي، أثبتت ليلى فخرو قدراتها الخلاقة مرة أخرى ووجهت طاقاتها نحو المجالات الاجتماعية والعلمية والتجارية فأسست دار دلمون للنشر في قبرص، ثم عادت إلى البحرين في العام 1995 بعد غياب دام لأكثر من 25 سنة لتواصل عطاءها ومسيرتها كرائدة من رواد العمل السياسي والاجتماعي والتجاري فأسست شركة النديم لتقنية المعلومات وترأست جمعية سيدات الأعمال البحرينية، وغيرها من الانشطة والمبادرات.
إن ما قامت به ليلى فخرو وما حققته من نجاح أكاديمي وبروز في الحراك السياسي والاجتماعي والتربوي أكد على قدرات وإمكانيات المرأة البحرينية، وساهم في إرساء مكانتها وريادتها ودورها الخلاق في تحقيق تطلعات وطموحات الأمة، تلك المكانة وذلك الدور أصبحا يحظيان بكل الرعاية والاهتمام والتشجيع والتقدير في العهد الزاهر لصاحب الجلالة مليكنا المعظم حفظه الله ورعاه، الذي كلف قرينته صاحبة السمو الملكي الأميرة سبيكة بنت إبراهيم آل خليفة برئاسة المجلس الأعلى للمرأة فجاءت هذه النتائج الباهرة من الاختراقات والمنجزات والمكاسب التي حققتها المرأة البحرينية بحيث وصلت إلى قمة السلطة التشريعية في البلاد وتقلدت أربع حقائب وزارية في التعديل الوزاري الأخير، إلى جانب الكثير من المكتسبات والمنجزات.
في لندن، وفي مثل هذا الشهر قبل 16 عاما، وبعد معاناة طويلة مع مرض عضال سلَّمت ليلى فخرو روحها الطاهرة إلى بارئها راضية مرضية، تاركة وراءها ذكرى وذكريات عطرة لا يمكن نسيانها، رحمها الله وأسكنها فسيح جناته.