العدد 4681
الأحد 08 أغسطس 2021
banner
ما يحدث في تونس وقصتنا مع الربيع العربي
الأحد 08 أغسطس 2021

التطورات المؤسفة التي شهدتها وما زالت تشهدها تونس اليوم، هي بكل وضوح وتأكيد، من تداعيات ما حدث في أواخر العام 2010 ومطلع العام 2011 عندما اختيرت تونس لتكون الأرض التي انطلق منها شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” وانطلقت منها شرارة حركة تدميرية سماها مخططوها ومنفذوها بـ “الربيع العربي” نجحت في الإطاحة  بالأنظمة السياسية في عدد من الدول العربية التي ما تزال نتيجة لذلك تعيش حالة من التشتت والفوضى وتعاني تحت وطأة وأنقاض ما سببته تلك الحركة من خراب ودمار؛ ليبيا واليمن مثالين. وقد كانت الدول العربية الخليجية من الدول المرشحة والمستهدفة أيضًا في تلك الفترة، وكان يراد للبحرين أن تكون تونس الخليج، إلا أن إرادة الله سبحانه وتعالى شاءت أن تحمينا وتنجينا.

وليس بخفي على أحد الآن، أن عاصفة الربيع العربي التي عصفت بالدول العربية لم تهب فجأة أو صدفة، أو أنها كانت من حسن أو سوء الطالع، ولم تأت تلقائيا، فقد كانت عملا مهيأ ومدبرا ومخططا له بدقة وإحكام منذ قرار الدول العربية المصدرة للنفط بقيادة الملك فيصل رحمه الله في العام 1973 بوقف إمدادات النفط عن  الولايات المتحدة وباقي الدول الغربية المساندة لإسرائيل؛ لدفع هذه الدول للضغط على إسرائيل للانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في حرب 1967. وكانت اعتداءات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية التي نفذها عدد من المواطنين العرب في قلب الولايات المتحدة هي الحدث الذي جعل معاقبة الأنظمة العربية أمرا لا يحتمل التأخير ؛ فكان غزو العراق بعد عامين، في العام 2003، الذي تم ونفذ بالأسلوب العسكري التقليدي، أما باقي الدول العربية، ومنها الخليجية، فقد استخدم في حقها أسلوب “الحرب الناعمة”.

وكانت فكرة “الحرب الناعمة” ضمن مفهوم “الجيل الرابع للحروب” قد نشأت في العام 1989 عندما تم هُدم جدار برلين كمقدمة لانهيار الاتحاد السوفيتي وكتلته الشيوعية الاشتراكية، وهزيمتهم الساحقة والمحرجة أمام الولايات المتحدة والمعسكر الغربي والنظام الرأسمالي، من دون إطلاق صاروخ أو رصاصة واحدة على أي منهم، لقد تم تحقيق ذلك باستخدام الوسائل والأسلحة الناعمة أو “القوة الناعمة” (Soft Power)؛ وهو مفهوم صاغه وعرَّفه أستاذ العلوم السياسية والمفكر الاستراتيجي الأميركي جوزيف ناى (Joseph Nye Jr) بأنه: “التأثير على الرأي الاجتماعي والعام وتغييره من خلال قنوات أقل شفافية نسبيا والضغط من خلال منظمات المجتمع المدني السياسية وغير السياسية” موضحًا أن “حسم الصراعات بالقوة العسكرية وحدها أصبح أمرا من الماضي خاصة وأن الانفتاح وقوة وسائل الاتصال والبرمجيات قد تشكل عائقا كلما حاولت الولايات المتحدة شن حرب جديدة”، ودعا إلى “اعتماد استراتيجية القوة الناعمة لضمان حلفاء ليس من الحكام فقط بل من شعوب المناطق التي تريد أمريكا فرض سيطرتها عليها بشكل ما” مضيفًا أنه “في عصر المعلومات تعد المصداقية أندر الموارد”.

وخلال العدوان الأميركي على العراق طور ناي هذا المفهوم في كتابه “القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية” ليؤكد أن أميركا كانت قادرة على كسب المعركة مع العراق بقوتها الناعمة دون تكلفة تذكر..

في حروب الجيل الرابع والحروب الناعمة يجوز بل يجب استخدام أو عدم استخدام أو إساءة استخدام القيم والمبادئ والمعتقدات ضمن الأسلحة الناعمة، وكانت الدعوة إلى تطبيق الديمقراطية بنسختها الغربية في بلداننا هي المبدأ  أو الشعار أو الراية التي حُمِلت في الحملات الناعمة التي تعرضت لها دولنا والتي أدت في النهاية إلى اندلاع نيران الربيع العربي.

وفي الحروب الناعمة تصبح الدولة تحارب نفسها، وفي هذه الحروب لا تستخدم الأسلحة التقليدية، وسائل الإعلام والمعلومات هي الأسلحة المفضلة، ولم يعد جنود المعتدي في هذه الحروب عسكريين بل هم خبراء في القدرة على النفاذ في صفوف الرأي العام للدولة المستهدفة وإدارته وتحريكه وتعطيل الوعي وبث الإشاعات واستثمار معاناة الناس لخلق حالة من الإحباط والتذمر والاستياء والتوتر في المجتمع بما يؤدي إلى نمو شعور الكراهية والعداء للنظام الحاكم، وفي كل الأحوال فإن المعتدي في هذه الحروب لا يستخدم جنوده بل يستخدم مواطني الدولة المستهدفة ومن خلال شبكات ومؤسسات المجتمع المدني السياسية منها وغير السياسية وجماعات ما دون الدولة التي يرتبط ولاؤها بالدول أو الجهات التي تمولها وترعاها.

في البحرين، عندما تولى جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة حفظه الله ورعاه مقاليد الحكم في العام 1999 استشعر أجواء المزاج العالمي، وأدرك طبيعة وحجم التحديات المقبلة، وأراد استباق الأحداث وقطع الطريق على المتربصين؛ فأرسى برنامج نهضة وطنية شاملة هو في الواقع أكثر من كونه برنامج إصلاحي كما أطلق عليه، كان الهدف منه تطوير نظام الحكم والارتقاء به إلى مرتبة “نظام الملكية الدستورية” المرتكز على قواعد ومبادئ الديمقراطية المسؤولة.

وقتها كنتُ وزيرا للعمل والشؤون الاجتماعية، وهي الجهة المنوط بها الترخيص لإنشاء مؤسسات المجتمع المدني مثل الجمعيات والأندية واللجان العمالية وما شابه، وكانت هذه المؤسسات في أغلبها مهنية أو اجتماعية، وكان القانون لا يجيز لها أو لغيرها التعاطي بالشأن السياسي كما هو معمول به في دول المنطقة، وكان تأسيس الأحزاب السياسية محظورا كما هو سائد في كافة دول المنطقة أيضا، وكانت هناك مجموعات من المواطنين المعارضين في الخارج أسسوا تجمعات سياسية معارضة  أطلق على كل واحدة منها اسم “جبهة”.

وفور إرساء المشروع الإصلاحي أطلق سراح كل المعتقلين السياسيين، وعاد كل المعارضين الموجودين في الخارج إلى وطنهم، وانتعشت الحياة السياسية في البلاد، واكتظ الشارع بحراك سياسي ملحوظ، وأقيمت بشكل متتابع الندوات السياسية والمؤتمرات التي شاركت فيها وجوه سياسية من الخارج، ونظمت المسيرات والمظاهرات بشكل متلاحق، وعدلت القوانين بحيث أجيز تشكيل “الجمعيات السياسية” تجنبا لعبارة “الأحزاب السياسية”، وانهالت على وزارة العمل والشؤون الاجتماعية طلبات لتأسيس الجمعيات السياسية؛ الجديدة منها والعائدة من المهجر بحلة جديدة واسم جديد.

كان جلالة الملك على قناعة راسخة بأن تأسيس مؤسسات المجتمع المدني يعتبر من أهم قواعد وأعمدة النظام الديمقراطي، فكان التوجيه الملكي بضرورة تسهيل تسجيلها والإسراع في الترخيص لها لمزاولة أنشطتها بحرية تامة؛ وهذا ما تم بالفعل على الرغم من ارتفاع بعض الأصوات المحذرة من ذلك، إلا أن حسن النوايا تغلب على ما بدا أنه سوء ظن.

عند هذا المنعطف بدأت الفعاليات والأدوات الناعمة بالتحرك، فبدأت بعض السفارات الأجنبية بالاتصال والتواصل المباشر مع الجمعيات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى، وأخذت قيادات وأعضاء بعض الجمعيات بالتردد على عدد من العواصم منها لندن وطهران وبيروت ودمشق والدوحة، وبدأنا نسمع عن برامج  ومبادرات مثل “مبادرة الشرق الأوسط الكبير” ومبادرة “الشراكة الأميركية مع شعوب وحكومات الشرق الأوسط”، وبدأت أنا أسمع عن منظمات ومؤسسات أجنبية لم أسمع عنها من قبل؛  ربما لجهل وقصور مني، منها، وليس بالضرورة أهمها، من الولايات المتحدة على سبيل المثال لا الحصر “المعهد الديمقراطي الوطني” و “المعهد الجمهوري الدولي” المموَلَين من الكونغرس الأميركي، واللذَين كانا يسعيان إلى مساعدة مؤسسات المجتمع المدني على إرساء أسس النظام الديمقراطي! ونُظمت لهذا الغرض، من دون التنسيق مع الجهات الرسمية المختصة، زيارات ميدانية لبعض القادة والمسؤولين في هذه الجمعيات إلى عواصم ومراكز مختلفة للمشاركة في دورات تدريبية وورش عمل وندوات ومؤتمرات، كما كان هناك دور لـ “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية” التي كانت تدشن برامج لدعم الديمقراطية.

وتجنبا للمزيد من الاستطالة والاستطراد لنقفز ونعود إلى العام 2011 لنرى، دون أن نستغرب، عواصف أو نيران الربيع العربي وهي تأتي على الأخضر واليابس في بعض الدول العربية والتي حمانا الله من لهيبها وسعيرها.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية