العدد 4611
الأحد 30 مايو 2021
banner
“حماس” بين النشوة والانتصار (2-1)
الأحد 30 مايو 2021

في مثل المواجهات العسكرية الضارية التي دارت مؤخرًا بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية المسلحة في غزة، فإنه لا يمكن لأي طرف فيها الادعاء بعدم تعرضه وتكبده للخسائر، إسرائيل دون شك خسرت كثيرًا في تلك المواجهة، ولا تستطيع أن تدعي الانتصار الذي لا يتم تحقيقه، عسكريًا أو سياسيًا إلا عندما يتم إنجاز الأهداف المحددة أو المرسومة مسبقًا، وهدف إسرائيل المعروف والمعلن تجاه حماس هو القضاء عليها وتدمير قوتها الصاروخية، وقد فشلت في تحقيق ذلك، بل على العكس فإن حماس خرجت من هذه المنازلة أقوى سياسيًا مما كانت عليه من قبل بعد أن استطاعت أن تمدد قاعدتها الجماهيرية، ولو مرحليًا، وأن تزيد من مساحتها على خارطة الأجندة الوطنية الفلسطينية، وأن تكسب (على حساب فتح) تعاطفًا أوسع من الفلسطينيين المتذمرين من إمكانية ضياع قضيتهم وحقوقهم المشروعة.

إسرائيل لا تستطيع أن تدعي النصر، وعندما قال نتنياهو بأنه أعطب القدرات الصاروخية والحق خسائر فادحة بحماس، فإن المجتمع الإسرائيلي بمختلف فعالياته أخذ يشكك في ذلك، وأخذ يتساءل عن مستوى أداء قادته في إدارة المعارك. حماس من جانبها، بعد التوصل إلى وقف لإطلاق النار أخذت تتفاخر وتتباهى بصوت عال بتحقيق انتصارات ساحقة في تلك المواجهة، وبهزيمة الجيش الإسرائيلي، وبقرب نهاية إسرائيل، وكل من تساءل أو طالب دليلا أو توضيحا، اتهم بالانهزامية وتثبيط العزائم والخيانة والصهينة، بعد أن أصبح مصطلح “الصهاينة العرب” من بين المفردات الدارجة في هذا السياق؛ وهو مصطلح أو تهمة مبتكرة ظهرت إلى السطح مؤخرًا ضمن أبجديات العجز العربي، إلى جانب مصطلح “المطبعين العرب”.

لقد دامت المواجهة العسكرية غير المتكافئة بين الطرفين 11 يوما، وتوقفت بفضل الجهود التي بذلتها جمهورية مصر العربية (رائدة دول التطبيع)، إلى جانب الضغوط التي مارستها الولايات المتحدة على إسرائيل، وقد كنا، والألم يعصر قلوبنا، والأسى يحز في نفوسنا نرى الشعب الفلسطيني الشقيق في غزةَ وهو يتعرض لعدوان عسكري غاشم بعد أن زج به مرة أخرى في جولة جديدة من المواجهات المسلحة غير المتكافئة مع إسرائيل؛ وكنا نرى كل صاروخ ينطلق من غزة يقابله سيل من الغارات الجوية والقذائف والصواريخ التي تطلقها إسرائيل على غزة، وقد اضطر الفلسطينيون في غزة إلى دفع فاتورة عالية جديدة ثمنًا للمواجهة البطولية الأخيرة؛ وهي خسائر بشرية ومادية مكلفة وموجعة أصبحت الآن معروفة للجميع ولا حاجة لسردها مرة أخرى في هذه الوقفة منعًا للإطالة والتكرار وتجنبًا لوضع الملح فوق الجروح.

إنني انتمي إلى الأغلبية العظمى الصامتة من الملايين من العرب الذين لا يقلون غيرة وحرصًا على الأمة العربية وقضاياها العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية؛ لقد قضينا أياما صعبة قاسية خلال فترة القصف المتبادل؛ لأننا لم نستطع أن نرى بارقة أمل في إمكانية تحقيق الغزاويين وحدهم أي نصر محسوس في هذه المواجهة غير المتكافئة، وحيال تباهي حماس بالانتصار أصبح من الأسهل والأحوط لنا الآن، وليس بالضرورة من الأفضل، أن ننضم إلى جحافل المهللين والمكبرين والمحتفلين بهذا الانتصار، وربما أصبح من الأكيس، وليس من الأفضل أيضًا، أن لا يكون لنا رأي يختلف عن رأي المنتشين بالنصر، فهذا أمر غير مقبول عندهم، ولا أن نجادلهم تحاشيًا وتفاديًا لاتهامات التخاذل والصهينة والتآمر وخيانة القضية وغيرها من التهم.

أو ربما أصبح من الأيسر لنا أن نعود إلى مواقعنا القديمة بين صفوف المتمسكين والمنادين بحماس وبأعلى أصواتهم بحتمية تحقيق الوحدة العربية “من المحيط الهادر حتى الخليج الثائر”، وبحتمية استعادة كامل فلسطين “من النهر إلى البحر”. وهي صفوف ما تزال تضم عصبة من خيرة رجالات الأمة العربية الذين يستحقون، هم وآراؤهم، كل التقدير والاحترام والثناء.

إننا نختلف عنهم ومعهم على قاعدة اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، وإننا من أشد المؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية، وبفداحة الظلم والإجحاف وانتهاك الحقوق التي تعرض لها، وما يزال هذا الشعب الأبي منذ نكبة 1948 أو حتى قبلها، وهو إيمان وقناعة رضعناها في طفولتنا، ولازمتنا في مهودنا، ورافقتنا طول عمرنا، وستأوى معنا في لحودنا، ولسنا على استعداد للمقايضة والمزايدة والمتاجرة بها أو التلاعب بعواطف ضحاياها.

كما إننا لم نعد نؤمن بالشعارات الملونة، ولا بالمكتسبات أو الانتصارات الوهمية، لقد مللناها وشبعنا وسئمنا منها، أصبحنا الآن نؤمن بالأرقام والحقائق التي يسهل الحصول عليها والتحقق منها، ونؤمن بالواقعية السياسية التي تفرض نفسها، وبما يجري فوق أرض الواقع، إلى جانب أن الوعي والتجربة والنضج السياسي يتطلب منا أن نحكم عقولنا ونستنهض حسنا النقدي عوضا عن استنفار عواطفنا وأحلامنا.

ففي العام 1956 ونحن صبية صغار فرحنا بهزيمة إسرائيل، ومعها بريطانيا وفرنسا، في حرب “العدوان الثلاثي” على الشقيقة الكبرى مصر، ودون التشكيك أو التقليل من شأن ما حققه أشقاؤنا المصريون من بطولات وما بذلوه من تضحيات في تلك الواقعة، أو التشكيك في المكسب السياسي الذي جناه المغفور له الرئيس المنتصر جمال عبدالناصر شخصيا، فقد اكتشفنا لاحقًا أن إسرائيل تمكنت في الأيام الأولى لتلك الحرب من اكتساح قطاع غزة وسيناء ووصلت إلى ضفاف قناة السويس، ثم أجبرت على الانسحاب نتيجة للضغوط الدولية وبعد أن حققت مكاسب استراتيجية هائلة، تاركة ورائها “آثارًا” سلبية خطيرة استدعت الحاجة إلى إزالتها خوض حرب “الأيام الستة” في العام 1967. وعند نشوب تلك الحرب كنا في كامل وعينا وحسنا، وطرنا زهوًا ورقصنا فرحًا عندما سمعنا عن انتصاراتنا، وعن اقتحام حدود إسرائيل على ثلاث جبهات، وعن سرعة الزحف إلى تل أبيب، وعن تساقط الطائرات الإسرائيلية من السماء بالعشرات “مثل الذباب” كما بشرنا أحمد سعيد من إذاعة “صوت العرب”؛ لنكتشف بعد أيام أن إسرائيل دمرت 80% من عتادنا الحربي، واجتاحت قطاع غزة وسيناء ووصلت إلى ضفاف قناة السويس هذه المرة أيضًا، واحتلتهما إلى جانب احتلال القدس والضفة الغربية والجولان السورية؛ كل ذلك حدث في ستة أيام فقط!! وبالمناسبة فإن حافظ الأسد وزير الدفاع السوري وقتها، المهزوم الذي فقدت سوريا الجولان على يديه كوفئ وتوج لاحقًا رئيسا منتصرًا للجمهورية السورية.

قبل أن نختم هذا الجزء من المقال نود أن نشير فقط إلى الخلاصة المشهورة التي تقول: “القوي إذا لم ينتصر فهو مهزوم، والضعيف إذا لم يهزم فهو منتصر”.

وللحديث بقية غدًا.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية