+A
A-

"كلمة" للترجمة يُصدر ترجمة رواية إميل زولا "بطن باريس"

ضمنَ كلاسيكيّات الأدب الفرنسيّ التي تصدر عن مشروع "كلمة" للترجمة في دائرة الثقافة والسياحة - أبوظبي، وبالتزامن مع الدورة الـ 29 لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب، صدرت ترجمة رواية "بطن باريس" للكاتب الفرنسيّ إميل زولا، وترجمها عن الفرنسية الكاتب والمترجم المصريّ المقيم في كندا ياسر عبد اللطيف، وراجع الترجمة وقدّم لها الشاعر والأكاديميّ العراقيّ المقيم في باريس كاظم جهاد.

بين روايات رائد المدرسة الطبيعية في الأدب الفرنسيّ، إميل زولا Émile Zola (1840-1902)، تشغل هذه الرواية مكانة أساسيّة. فيها تجتمع الشواغل الرئيسة للكاتب، وفي أوّلها رصد الواقع السياسيّ والاجتماعيّ، وفي الأوان ذاته إخراج الكتابة من مطبّات التناول الواقعيّ المباشر.

في هذا العمل يرصد زولا بتفصيل مفعم بالشاعرية مجريات الحياة اليوميّة وطبيعة العلاقات المهنية والإنسانية بعامّة في أسواق "ليهال"Les Halles  لبيع اللحوم والأسماك والفواكه والخضار التي كانت، منذ نهايات القرن الثامن عشر، تحتلّ قلب العاصمة الفرنسيّة بعدما تنقّلت على مرّ العهود بين عدّة أحياء. وبالرغم من نقلها في بدايات العقد السبعينيّ من القرن العشرين إلى ضاحية رانجيس الباريسية وإخلائها المكان إلى مشهد عمرانيّ جديد بقي يحمل الاسم ذاته، "ليهال"، وتعمره الحدائق والمغازات الكبرى، ما برحت هذه الأسواق تحتلّ مكانة في وجدان من عاصروها وفي المخيال الشعبيّ والأدبيّ الفرنسيّ. سمّاها الروائيّ في عنوان عمله هذا "بطن باريس" بالمعنى الحرفيّ للكلمة، لأنّه كان يرى فيها بطن المدينة، معدتها الهاضمة ومحور وجودها الفيزيائيّ، الذي يتحكّم بمشاعرها وتشوّفاتها ويخطّ صراعات البشر والأهواء في مسرحها العريض المتشعّب. من هنا الوفاء في ترجمة العنوان لهذه الدلالة، تفضيلاً لها على عناوين أخرى قد تكون أقلّ مباشرةً في العربيّة، من قبيل "جوف باريس" أو "أحشاء باريس"، وسواهما.

كالعادة، تقترن لغة زولا في هذه الرواية، الصادرة في 1873، بخصوصيّات الشيء الموصوف وبتنوّع تجلّياته. هكذا يصف ما سمّاه "سمفونيّة ضروب الجبنة"، يرصد في أسواق "ليهال" وفرتها المذهلة، وشتّى صنوف الأسماك معروضةً بألوانها وحجومها وأشكالها وروائحها، ومختلف صنوف الخضار، وطقوس وصول العربات المحمّلة بالسّلع الطّازجة كلّ صباح. كما يرصد أروقة السّوق وأقبيتها السّفليّة ومزاداتها، ويحلّل طبائع البائعات والبائعين وأنانيّتهم وأمزجتهم وصبواتهم المحبطة في الغالب، وتحالفاتهم المعقودة فالمنهارة فالمعقودة من جديد. هذه التقلّبات يقع ضحّيتها بطل الرّواية الشابّ، فلوريان، الهارب من معتقل المنفيّين في مدينة كايين الواقعة في المستعمرة الفرنسية غويانا، الذي زُجّ به فيه بعدما قبضت عليه الشرطة في مظاهرة مناوئة لنابليون الثالث كان قد انجرّ إليها بالصّدفة.

حول هذه الحبكة يرسم زولا شبكة واسعة من العلاقات والنّماذج السّلوكيّة والأهواء، تاركاً المصائر تتلاقى وتتقاطع أو تفترق. يتوقّف مليّاً عند علاقة الحبّ التي تنشأ بين الصّبي مارجولان والفتاة كادين، وكان كلاهما لقيطين عُنيت بتربيتهما بائعة خضار، ويستعيد حوارات عن الفنّ مع الرّسّام كلود الذي يرتاد الأسواق بحثاً عن موديلات ومشاهد يطبّق عليها تصوّره الجديد لفنّ الرّسم، ويرصد "ليهال" في مختلف ساعات النّهار واللّيل، ويعاين أنماط سلوك الباعة وطقوس العمل ومختلف تعابير هذا الجمهور الواسع. وعلى سطح هذا الأوقيانوس البشريّ المتلاطم تطفو، وتخطّ النّهايةَ المأساويّة للعمل، روحُ الجشع والشّغف بالوشاية تتعيّش منه ثلاث نساء يخصّهنّ زولا بتحليلات فريدة بها يُبرز الجانب المظلم من تكوين المجتمع بأسره.

هذا كلّه يمنح الرّواية، كما كتب الناقد فيليب هامون، طبيعة توثيقيّة مؤكّدة يفيد منها عالِم الاجتماع والمؤرّخ والأنثروبولوجيّ والمعماريّ وسواهم، كلٌّ في مجال بحثه. سوى أنّ هذه "الوثيقة" إنّما هي مكتنفة في عملٍ أدبيّ وتخضع إلى نظامٍ دلاليّ وتمتثل إلى حركات بلاغيّة وأسلوبيّة، ويتحكّم بها إلهام إبداعيّ. وهذا كلّه هو بالطّبع ما ضمنَ للعمل استمراريّة تأثيره وفتنته.

وُلد إميل زولا في إكس أون بروفنس في جنوب فرنسا عام 1840 لأب إيطاليّ وانتقل إلى باريس في سنّ العشرين، وبدأ بكتابة محاولات شعريّة ثمّ اشتغل في الصحافة والنشر. وبعد كتابات قصصية وروائية متأثرّة بالرومنطيقيّة وضع في روايته "تيريز راكان" (1867) أُسُس ما شكّل بعد فترةٍ التيّار الطّبيعيّ في الرّواية الفرنسيّة. ومع صدور هذه الرواية بدأت تختمر في ذهنه فكرة رسم لوحة سرديّة واسعة للمجتمع المعاصر تحت العنوان الجامع "آل روغون ماكار". بدأ بكتابتها في 1870 وتقدّم في إنجازها بمعدّل رواية كلّ عام. وبانتهاء المجلّد العشرين بعد 25 سنة من العمل الدّؤوب، شكّلت السلسلة، حسب عنوانها الثّانويّ، "تاريخاً طبيعيّاً واجتماعيّاً لأسرة إبّان العهد الإمبراطوري الثّاني". وتميّزت سنيّه الأخيرة بانخراطه الشّجاع في قضيّة دريفوس الشّهيرة، فتعرّض إلى ملاحقات من القضاء واليمين الفرنسيّين وتلقّى حكماً بالسّجن اضطرّه إلى الهرب والعيش منفيّاً في لندن عاماً كاملاً حتّى أُعفيَ عنه. وبعد عودته بسنوات قليلة توفّي في ليلة 28-29 ديسمبر 1902 في اختناقٍ مشبوه سببه تسرّب الغاز في منزله، وهو ما يُعزى إلى قيام بعض خصومه في قضيّة دريفوس بسدّ مدخنة شقّته الصّغيرة في باريس.

أمّا مترجم الكتاب، ياسر عبد اللطيف، فهو كاتب وشاعر ومترجم مصري، تخرّج في قسم الفلسفة في جامعة القاهرة عام 1994، وعمل في الصحافة التلفزيونية والخبرية، ويقيم منذ عام 2010 في مدينة إدمنتون في كندا. أصدر عدّة مجموعات شعرية من بينها "ناس وأحجار" وقصائد العطلة الطويلة"، ومن أعماله في السّرد رواية "قانون الوراثة" الحاصلة على جائزة ساويرس الأولى للكتّاب الشّباب عام 2005، والمجموعة القصصية "يونس فى أحشاء الحوت"، التى نالت نفس الجائزة في فرع الكتّاب الكبار فى عام 2013. وترجم ياسر عبد اللطيف عدداً من الأعمال الأدبية عن الفرنسية والإنجليزية، أحدثها "المخلص دوماً فنسنت - الجواهر من رسائل فان كوخ"، وسبق أن أصدر له مشروع "كلمة" ترجمة "حكايات أمّي الإوزّة" للفرنسيّ شارل بيرو، راجعها كاظم جهاد.